الوجه في مسالمة الحسن لمعاوية
(مسألة): فإن قال قائل: ما العذر له في خلع نفسه من الإمامة وتسليمها إلي معاوية مع ظهور فجوره وبعده عن أسباب الإمامة وتعريه من صفات مستحقها، ثم في بيعته وأخذ عطائه وصلاته وإظهار موالاته والقول بإمامته، هذا مع وفور أنصاره واجتماع أصحابه ومتابعيه من کان يبذل عنه دمه وماله، حتي سموه مذل المؤمنين وعاتبوه في وجهه عليه السلام؟
(الجواب): قلنا قد ثبت انه عليه السلام الإمام المعصوم المؤيد الموفق بالحجج الظاهرة والأدلة القاهرة، فلابد من التسليم لجميع أفعاله وحملها علي الصحة، وإن کان فيها ما لا يعرف وجهه علي التفصيل، أو کان له ظاهر ربما نفرت النفوس عنه وقد مضي تلخيص هذه الجملة وتقريرها في مواضع من کتابنا هذا.
وبعد، فإن الذي جري منه عليه السلام کان السبب فيه ظاهرا والحامل عليه بيا جليا لان المجتمعين له من الأصحاب وان کانوا کثيري العدد وقد کانت قلوب أکثرهم دغلة غير صافية، وقد کانوا صبوا إلي دنيا معاوية وامراحه من أحب في الأموال من غير مراقبة ولا مساترة، فأظهروا له (عليه السلام) النصرة وحملوه علي المحاربة والاستعداد لها طمعا في أن يورطوه ويسلموه،
[ صفحه 222]
وأحس عليه السلام بهذا منهم قبل التولج والتلبس، فتخلي من الأمر وتحرز من المکيدة التي کادت تتم عليه في سعة من الوقت وقد صرح (عليه السلام) بهذه الجملة وبکثير من تفصيلها في مواقف کثيرة بألفاظ مختلفة، وقال إنما هادنت حقنا للدماء وصيانتها وإشفاقا علي نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي، فکيف لا يخاف أصحابه ويتهمهم علي نفسه وأهله، وهو عليه السلام لما کتب إلي معاوية يعلمه أن الناس قد بايعوه بعد أبيه عليه السلام ويدعوه إلي طاعته، فأجابه معاوية بالجواب المعروف المتضمن للمغالطة فيه والمواربة وقال له فيه: لو کنت أعلم أنک أقوم بالأمر واضبط للناس وأکيد للعدو وأقوي علي جميع الأحوال مني لبايعتک، لأني أراک لکل خير أهلا.
وقال في کتابه ان أمري وأمرک شبيه بأمر أبي بکر وأبيک وأمرکم بعد وفاة رسول الله دعاه إلي أن خطب خطبة بأصحابه بالکوفة يحثهم علي الجهاد ويعرفهم فضله، وما في الصبر عليه من الأجر، وأمرهم أن يخرجوا إلي معسکر فما أجابه أحد، فقال لهم عدي بن حاتم: سبحان الله ألا تجيبون إمامکم؟ أين خطباء مصر؟ فقام قيس بن سعد وفلان وفلان فبذلوا الجهاد وأحسنوا القول. ونحن نعلم ان من ضمن بکلامه أولي بأن يضن بفعاله.
أو ليس أحدهم قد جلس له في مظلم ساباط وطعنه بمغول کان معه أصاب فخذه، فشقه حتي وصل إلي العظم وانتزع من يده وحمل عليه السلام إلي المداين وعليها سعيد بن مسعود عم المختار، وکان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولاه إياها فأدخل منزله، فأشار المختار علي عمه ان يوثقه ويسير به إلي معاوية علي أن يطعمه خراج جوخي سنة. فأبي عليه وقال للمختار: قبح الله رأيک أنا عامل أبيه وقد أئتمنني وشرفني، وهبني نسيت بلاء أبيه أأنسي رسول الله صلي الله عليه وآله ولا أحفظه في ابن بنته وحبيبه ثم أن سعد بن مسعود أتاه عليه السلام بطبيب وقام عليه حتي برئ وحوله إلي بعض المدائن.
فمن ذا الذي يرجو السلامة بالمقام بين أظهر هؤلاء القوم عن النصرة والمعونة؟ وقد أجاب
[ صفحه 223]
(عليه السلام) حجر بن عدي الکندي [1] لما قال له سودت وجوه المؤمنين، فقال عليه السلام ما کل أحد يحب ما تحب ولا رأيه کرأيک، وإنما فعلت ما فعلت إبقاء عليکم.
وروي عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف عن أبي الکنود عبدالرحمن بن عبيدة، قال لما بايع الحسن عليه السلام معاوية أقبلت الشيعة تتلاقي بإظهار الأسف والحسرة علي ترک القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية فقال له (عليه السلام) سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجبنا من بيعتک لمعاوية ومعک أربعون ألف مقاتل من أهل الکوفة، کلهم يأخذ العطاء وهم علي أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوي شيعتک من أهل البصرة والحجاز، ثم لم تأخذ لنفسک ثقة في العهد ولا حظا من العطية فلو کنت إذ فعلت ما فعلت أشهدت علي معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وکتبت عليه کتابا بأن الأمر لک بعده، کان الأمر علينا أيسر. ولکنه أعطاک شيئا بينک وبينه لم يف به ثم لم يلبث ان قال علي رؤوس الأشهاد أني کنت شرطت شروطا ووعدت عداة إرادة لإطفاء نار الحرب ومداراة لقطع الفتنة، فأما إذا جمع الله لنا الکلمة والألفة فإن ذلک تحت قدمي، والله ما عني بذلک غيرک، ولا أراد بذلک إلا ما کان بينه وبينک، قد نقض.
فإذا شئت فأعدت للحرب عدة، وأذن لي في تقدمک إلي الکوفة، فأخرج عنها عاملها وأظهر خلعه نبذه، علي سواء أن الله لا يحب الخائنين.
وتکلم الباقون بمثل کلام سليمان، فقال الحسن عليه السلام: أنتم شيعتنا وأهل مودتنا، ولو کنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أربض وأنصب، ما کان معاوية بأشد مني بأسا ولا أشد شکيمة ولا أمضي عزيمة، ولکني أري غير ما رأيتم وما أردت بما فعلت إلا حقن الدماء، فارضوا بقضاء
[ صفحه 224]
الله وسلموا لأمره وألزموا بيوتکم وامسکوا. أو قال: کفوا أيديکم حتي يستريح برأ ويستراح من فاجر. وهذا کلام منه عليه السلام يشفي الصدور ويذهب بکل شبهة.
وقد روي انه عليه السلام لما طالبه معاوية بأن يتکلم علي الناس ويعلمهم ما عنده في هذا الباب، قام (عليه السلام) فحمد الله وأثني عليه ثم قال: ان أکيس الکيس التقي، وأحمق الحمق الفجور. أيها الناس انکم لو طلبتم ما بين جابلق وجابلس رجلا جده رسول الله صلي الله عليه وآله ما وجدتموه غيري، وغير أخي الحسين عليه السلام، وان الله قد هداکم بأولنا محمد صلي الله عليه وآله، وان معاوية نازعني حقا هو لي فترکته لصلاح الأمة وحقن دمائها، وقد بايعتموني علي ان تسالموا من سالمت وقد رأيت ان أسالمه ورأيت ان ما حقن الدماء خير مما سفکها، وأردت صلاحکم وان يکون ما صنعت حجة علي من کان يتمني هذا الأمر، وان ادري لعله فتنة لکم ومتاع إلي حين.
وکلامه عليه السلام في هذا الباب الذي يصرح في جميعه بأنه مغلوب مقهور ملجأ إلي التسليم دافع بالمسالمة الضرر العظيم عن الدين والمسلمين أشهر من الشمس وأجلي من الصبح. فأما قول السائل انه خلع نفسه من الإمامة فمعاذ الله، لان الإمامة بعد حصولها للإمام لا تخرج عنه بقوله. وعند أکثر مخالفينا أيضا في الإمامة أن خلع الإمام نفسه لا يؤثر في خروه من الإمامة، وإنما ينخلع من الإمامة عندهم وهو حي بالأحداث والکبائر، ولو کان خلعه نفسه مؤثرا لکان انما يؤثر إذا وقع إختيارا.
فأما مع الإلجاء والإکراه، فلا تأثير له لو کان مؤثرا في موضع من المواضع، ولم يسلم أيضا الأمر إلي معاوية بل کف عن المحاربة والمغالبة لفقدان الأعوان وإعواز النصار وتلافي الفتنة علي ما ذکرناه، فتغلب عليه معاوية بالقهر والسلطان مع أنه کان متغلبا علي أکثره، ولو أظهر التسليم قولا لما کان فيه شئ إذا کان عن إکراه واضطهاد.
[ صفحه 225]
وأما البيعة فإن أريد به الصفقة وإظهار الرضا والکف عن المنازعة فقد کان ذلک لکنا قد بينا جهة وقوعه والأسباب المحوجة إليه، ولا حاجة في ذلک عليه عليه السلام.
کما لم يکن في مثله حجة علي أبيه عليه السلام لما بايع المتقدمين عليه، وکف عن نزاعهم وامسک عن خلافهم، وإن أريد بالبيعة الرضي وطيب النفس، فالحال شاهدة بخلاف ذلک، وکلامه المشهور کله يدل علي انه (عليه السلام) أحوج وأحرج، وأن الأمر له وهو أحق الناس به.
وإنما کف عن المنازعة فيه للغلبة والقهر والخوف علي الدين والمسلمين. وأما أخذ العطاء فقد بينا في هذا الکتاب عند الکلام فيما فعله أمير المؤمنين عليه السلام في ذلک من أخذه من يد الجائر الظالم المتغلب جائز، وأنه لا لوم فيه علي الأخذ ولا حرج.
وأما أخذ الصلات فسايغ بل واجب لان لکل مال في يد الجائر المتغلب علي أمر الأمة يجب علي الإمام وعلي جميع المسلمين انتزاعه من يده کيف ما أمکن بالطوع أو الإکراه، ووضعه في مواضعه.
فإذا لم يتمکن من إنتزاع جميع ما في يد معاويه من أموال الله تعالي وأخرج هو شيئا منها إليه علي سبيل الصلة، فواجب عليه أن يتناوله من يده ويأخذ منه حقه ويقسمه علي مستحقه لان التصرف في ذلک المال بحق الولاية عليه لم يکن في تلک الحال إلا له، وليس لأحد أن يقول أن الصلات التي کان يقبلها من معاوية إنما کان ينفقها علي نفسه وعياله، ولا يخرجها إلي غيره وذلک ان هذا مما لا يمکن أحد أن يدعي العلم به والقطع عليه ولا شک أنه عليه السلام کان ينفق منها لان فيها حقه وحق عياله وأهله، ولا بد من أن يکون قد أخرج منها إلي المستحقين حقوقهم وکيف يظهر ذلک وهو عليه السلام کان قاصدا إلي إخفائه ستره لمکان التقية، والمحوج إليه إلي قبول تلک الأموال علي سبيل الصلة هو المحوج له إلي ستر إخراجها وإخراج بعضها إلي مستحقها من
[ صفحه 226]
المسلمين. وقد کان عليه السلام يتصدق بکثير من أمواله ويواسي الفقراء ويصل المحتاجين. ولعل في جملة ذلک هذه الحقوق.
فأما إظهاره (عليه السلام) موالاته، فما أظهر عليه السلام من ذلک شيئا کما لم يبطنه. وکلامه فيه بمشهد معاوية ومغيبه معروف ظاهر يشهد بذم معاوية ومعائبه، ولو فعل ذلک خوفا واستصلاحا وتلافيا للشر العظيم لکان واجبا، فقد فعل أبوه عليه السلام مثله مع المتقدمين عليه وأعجب من هذا کله دعوي القول بإمامته ومعلوم ضرورة منه (عليه السلام) خلاف ذلک، وأنه کان يعتقد ويصرح بأن معاوية لا يصلح أن يکون بعض ولاة الإمام ولا تباعه فضلا عن الإمامة نفسها، وليس يظن مثل هذه الأمور الا عامي حشوي قد قعد به التقليد.
وما سبق إلي اعتقاده من تصويب القوم کلهم عن التأمل وسماع الأخبار المأثورة في هذا الباب فهو لا يسمع إلا بما يوافقه. وإذا سمع لم يصدق إلا بما أعجبه والله المستعان.
[ صفحه 227]
پاورقي
[1] حجر بن عدي الکندي: من صلحاء الصحابة. قاتل في فتوح فارس. کان مع علي في الجمل والنهروان وصفين. قاوم معاوية. قبض عليه وأمر معاوية بقتله في مرج عذراء شرقي دمشق.