في الاحکام المدعي مخالفة علي فيها لمن سواه
(مسألة): فإن قيل فما الوجه فيما عابه النظام به عليه السلام من الأحکام التي داعي أنه خالف فيها جميع الأمة، مثل بيع أمهات الأولاد وقطع يد السارق من أصول الأصابع ودفع السارق إلي الشهود، وجلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان وجهره بتسمية الرجال في القنوت وقبوله شهادة الصبيان بعضهم علي بعض، والله تعالي يقول: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنکُمْ) وأخذه (عليه السلام) نصف دية الرجل من أولياء المرأة وأخذه نصف دية العين من المقتص من الأعور وتخليفه رجلا يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم، وأنه (عليه السلام) أحرق رجلا أتي غلاما في دبره، وأکثره ما أوجب علي من فعل هذا الفعل الرجم،
[ صفحه 212]
وأنه أوتي بمال من مهور البغايا فقال عليه السلام ارفعوه حتي يجئ عطاء غني وباهلة. فقال النظام لم خص بهذا غنيا وباهلة؟ فان کانوا مؤمنين فمن عداهم من المؤمنين کهم في جواز تناول هذا المال وان کانوا غير مؤمنين فکيف يأخذون العطاء مع المؤمنين؟ قال وذلک المال وان کان من مهور البغايا أو بيع لحم الخنازير بعد أن تملکه الکفار ثم يبيحه الله علي المؤمنين فهو حلال طيب للمؤمنين.
(الجواب): إنا قد بينا قبل هذا الموضع أنه لا يعترض علي أمير المؤمنين عليه السلام في أحکام الشريعة ويطمع فيه من عثرة أو زلة إلا معاند لا يعرف قدره، ومن شهد له النبي (صلي الله عليه وآله) بأنه أقضي الأمة وان الحق معه کيف ما دار، وضرب بيده علي صدره وقال: اللهم أهد قلبه وثبت لسانه لما بعثه إلي اليمن حتي قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فما شککت في قضاء بين اثنين.
وقال النبي فيه: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب لا يجوز أن يعترض أحکامه عليه السلام، ولا يظن بها إلا الصحة والسداد.
وأعجب من هذا کله الطعن علي هذه الأحکام وأشباهها بأنها خلاف الإجماع وأي إجماع ليت شعري يکون وأمير المؤمنين عليه السلام خارج منه ولا أحد من الصحابة الذين لهم في الأحکام مذاهب وفتاوي وقيام، إلا وقد تفرد بشئ لم يکن له عليه موافق، وما عد مذهبه خروجا عن الإجماع ولو لا التطويل لذکرنا شرح هذه الجملة ومعرفتها وظهورها بغنينا عن تکلف ذلک ولو کان للطعن علي أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الأحکام مجال وله وجه لکان أعداؤه من بني أمية والمتقربين إليهم من شيعتهم بذلک أخبر وإليه اسبق، وکانوا يعيبونه عليه ويدخلونه في جملة مثالبهم ومعايبهم التي تمحلوها، ولما ترکوا ذلک حتي يستدرکه النظام بعد السنين الطويلة وفي أضرابهم عن ذلک دليل علي أنه لا مطعن بذلک ولا معاب.
وبعد، فکل شئ فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه الأحکام
[ صفحه 213]
وکان له مذهبا، ففعله له واعتقاده إياه هو الحجة فيه، وأکبر البرهان علي صحته لقيام الأدلة علي أنه عليه السلام لا يزل ولا يغلط ولا يحتاج إلي بيان وجوه زايدة علي ما ذکرناه إلا علي سبيل الاستظهار والتقرير علي الخصوم وتسهيل طريق الحجة عليهم.
فأما بيع أمهات الأولاد فلم يسر فيهن إلا بنص الکتاب وظاهره، قال الله تعالي: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَي أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَکَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَي وَرَاء ذَلِکَ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الْعَادُونَ) [1] ولا شبهة في أن أم الولد يطؤها سيدها بملک اليمين، لانها ليست زوجة ولا هو عاد في وطئها إلي ما لا يحل، وإذا کانت مملوکة مسترقة بطل ما يدعونه من أن ولدها اعتقها، ويبين ذلک أيضا أنه لا خلاف في أن لسيدها أن يعتقها.
ولو کان الولد قد أعتقها لما صح ذلک، لان عتق المعتق محال. وهذه الجملة توضح عن بطلان ما يروونه من أن ولدها أعتقها، ثم يقال لهم أليس هذا الخبر لم يقتض أن لها جميع أحکام المعتقات، لأنه لو اقتضي ذلک لما جاز أن يعتقها السيد، ولا أن يطأها إلا بعقد، وإنما اقتضي بعض أحکام المعتقات.
فلابد من مزيل فيقال لهم: فما أنکرتم من أن مخالفکم يمکنه أن يستعمله أيضا علي سبيل التخصيص کما استعملتموه، فنقول انه لو أراد بيعها لم يجز إلا في دين، وعند ضرورة، وعند موت الولد. فکأنها يجري مجري المعتقات فيما لا يجوز بيعها فيه، وان لم يجز من کل وجه کما أجريتموها مجراهن في وجه دون آخر. فأما قطع السارق من الاصابع فهو الحق الواضح الجلي، لان الله تعالي قال (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) [2] واسم اليد يقع علي جملة هذا العضو إلي المنکب، ويقع عليه أيضا إلي المرافق والي الزند والي
[ صفحه 214]
الأصابع کل ذلک علي سبيل الحقيقة. ولهذا يقول أحدهم أدخلت يدي في الماء إلي أصول الأصابع والي الزند والي المرفق والي المنکب، فيجعل کل ذلک غاية.
وقال الله تعالي: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَکْتُبُونَ الْکِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) [3] ومعلوم أن الکتابة تکون بالاصابع، ولو يري أحدنا قلما فعقرت السکين أصابعه لقيل قطع يده وعقرها ونحو ذلک.
وقال الله تعالي في قصة يوسف عليه السلام (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَکْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) [4] ومعلوم أنهن ما قطعن اکفهن إلي الزند، بل علي ما ذکرناه.
وإذا کان الأمر علي ما ذکرناه ولم يجز ان يحمل اليد علي کل ما تناولته هذه اللفظة حتي يقطع من الکتف علي مذهب الخوارج، لان هذا باطل عند جميع الفقهاء، وجب ان نحمله علي أدني ما تناوله، وهو من أصول الاشاجع، والقطع من الأصابع أولي بالحکمة وأرفق بالمقطوع، لأنه إذا قطع من الزند فاته من المنافع أکثر مما يفوته إذا قطع من الاشاجع.
وقد روي ان علي بن أصمع سرق عيبة لصفوان، فأتي به إلي أمير المؤمنين عليه السلام فقطعه من أشاجعه، فقيل له يا أمير المؤمنين افلا من الرسغ. فقال عليه السلام فعلي أي شئ يتوکأ وبأي شي يستنجي. ومهما شککنا فإنا لا نشک في أن أمير المؤمنين عليه السلام کان أعلم باللغة العربية من النظام وجميع الفقهاء والذين خالفوه في القطع، وأقرب إلي فهم ما نطق به القرآن.
وان قوله (عليه السلام) حجة في العربية وقدوة، وقد سمع الآية وعرف اللغة التي نزل بها القرآن، فلم يذهب إلي ما ذهب إليه إلا عن خبرة ويقين.
وأما دفع السارق إلي الشهود، فلا أدري من أي وجه کان عيبا وهل دفعه إليهم ليقطعوه إلا کدفعه إلي غيرهم ممن يتولي ذلک منه. وفي هذا فضل استظهار عليهم وتهييب لهم من أن يکذبوا فيعظم عليهم تولي ذلک منه
[ صفحه 215]
ومباشرته بنفوسهم، وهذا نهاية الحزم والاحتياط في الدين.
وأما جلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا فإن المروي انه عليه السلام جلده بنسعة لها رأسان فکان الحد ثمانين کاملة: وهذا مأخوذ من قوله تعالي: (وَخُذْ بِيَدِکَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ). [5] .
وأما الجهر بتسمية الرجال في القنوت فقد سبقه (عليه السلام) إلي ذلک رسول الله صلي الله عليه وآله وتظاهرت الرواية بأنه (صلي الله عليه وآله) کان يقنت في صلاة الصبح ويلعن قوما من أعدائه بأسمائهم فمن عاب ذلک أو طعن به فقد طعن علي أصل الإسلام وقدح في الرسول صلي الله عليه وآله.
وأما قبول شهادة الصبيان فالاحتياط للدين يقتضيه، ولم ينفرد أمير المؤمنين عليه السلام بذلک، بل قد قال بقوله بعينه أو قريبا منه جماعة من الصحابة والتابعين.
وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في شهادة الصبي يشهد بعد کبره، والعبد بعد عتقه، والنصراني بعد إسلامه أنها جائزة.
وهذا قول جماعة من الفقهاء المتأخرين کالثوري وأبي حنيفة وأصحابه.
وروي مالک بن انس عن هشام بن عروة ان عبدالله بن الزبير کان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح.
وروي عن هشام بن عروة انه قال سمعت ابي يقول يجوز شهادة الصبيان بعضهم علي بعض، يؤخذ بأول قولهم.
وروي عن مالک بن أنس انه قال: المجمع عليه عندنا يعني أهل المدينة أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح، ولا تجوز علي غيرهم إذا کان ذلک قبل ان يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا، فإن تفرقوا فلا شهادة لهم إلا ان يکونوا قد اشهدوا عدولا علي شهادتهم قبل ان يتفرقوا، ويوشک أن يکون الوجه في الأخذ بأوائل أقوالهم لان من عادة الصبي وسجيته إذا أخبر
[ صفحه 216]
بالبديهة ان يذکر الحق الذي عاينه، ولا يتعمل لتحريفه.
وليس جميع الشهادات تراعي فيها العدالة.
وجماعة من العلماء قد أجازوا شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد مسلم، وتأولوا لذلک قول الله عز وجل: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنکُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِکُمْ) [6] وقد أجازوا أيضا شهادة النساء وحدهن فيما لا يجوز انت تنظر إليه الرجال، وقبلوا شهادة القابلة.
وإنما أردنا بذکر قبول شهادة النساء، أن قوله تعالي (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنکُمْ) مخصوص غير عام في جميع الشهادات.
ألا تري ان ذلک غير مانع من قبول اليمين مع شهادة الواحد. وبعد فليس قوله تعالي (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنکُمْ) بمقتض غير الأمر بالشهادة علي هذا الوجه، وليس بمانع من قبول شهادة غير العدلين ولا تعلق له بأحکام قبول الشهادات.
فأما أخذ نصف الدية من أولياء المرأة إذ أرادوا قتل الرجل بها فهو الصحيح الواضح الذي لا يجوز خلافه، لان دية المرأة [7] عشرة آلاف درهم ودية المرأة نصفها فإذا أراد أولياء المرأة قتل الرجل، فإنما يقتلون نفسا ديتها الضعف من دية مقتولهم، فلا بد إذا إختاروا ذلک من رد الفضل بين القيمتين ولهذا لو أراد أخذ الدية لم يأخذوا أکثر من خمسة آلاف درهم.
وهکذا القول في أخذ نصف الدية من المقتص من الأعور، لان دية عين الأعور عشرة آلاف درهم ودية إحدي عيني الصحيح خمسة آلاف درهم.
فلا بد من الرجوع بالفضل علي ما ذکرناه، وما أدري من أي وجه تطرق العيب في تخليفه عليه السلام من يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم، وذلک من رأفته (عليه السلام) بالضعفاء ورفقه بهم، وتوصله إلي ان يحظوا بفضل هذه الصلاة من غير تحمل مشقة الخروج إلي المصلي.
[ صفحه 217]
فأما ما حکاه من إحراقه اللوطي، فالمعروف أنه عليه السلام ألقي علي الفاعل والمفعول به لما رآهما الجدار، ولو صح الإحراق لم ينکران يکون ذلک الشئ عرفه من الرسول صلي الله عليه وآله.
وقد روي فهد بن سليمان عن القاسم بن أميه العدوي عن عمر بن أبي حفص مولي الزبير عن شريک عن إبراهيم بن عبدالاعلي عن سويد بن غفلة، أن أبا بکر أتي برجل ينکح فأمر به فضربت عنقه، ثم أمر به فأحرق ولعل أمير المؤمنين (عليه السلام) احرقه بالنار بعد القتل بالسيف کما فعل أبو بکر، وليس ما روي من الإحراق بمانع من ان يکون القتل متقدما له.
وقد روي قتل المتلوطين من طرق مختلفة عن الرسول صلي الله عليه وآله وکذلک روي رجمهما.
روي داود بن الحصين عن عکرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): اقتلوا الفاعل والمفعول به.
وروي عبد العزيز عن ابن جريح عن عکرمة عن ابن عباس عن النبي (صلي الله عليه وآله) مثل ذلک.
وعن عمر بن أبي عمير عن عکرمة عن ابن عباس ان رسول الله صلي الله عليه وآله قال فيمن يوجد يعمل بعمل قوم لوط مثل ذلک.
وروي أبو هريرة عن النبي (صلي الله عليه وآله) قال الذي يعمل عمل قوم لوط ارجموا الأعلي والأسفل ارجموهما جميعا.
وسئل ابن عباس ما حد اللوطي؟ ينظر إلي ارفع بناء في القرية فيرمي به منکسا. ثم يتبع بالحجارة.
وروي ان عثمان اشرف علي الناس يوم الدار، فقال: ألم تعلموا أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا أربعة: رجل قتل فقتل، ورجل زني بعد ان أحصن، ورجل ارتد بعد إسلام، ورجل عمل عمل قوم لوط.
فلا شبهة علي ما تري في قتل اللوطي، ولا ريب في وجوب ذلک عليه. وکيف يتهم بحيف في حد يقيمه من يتحري فيما يخصه هذا التحري المشهور.
فيقول عليه السلام لما ضربه اللعين ابن ملجم احسنوا أسره، فإن
[ صفحه 218]
عشت فأنا ولي دمي، وان مت فضربة بضربة.
ولا تمثلوا بالرجل فإن رسول الله صلي الله عليه وآله نهي عن المثلة ولو بالکلب العقور.
فمن ينهي عن التمثيل بقاتله مع الغيظ الذي يجده الإنسان علي ظالمه وميله إلي الاستيفاء والانتقام، کيف يمثل بمن لا ترة بينه وبينه ولا حسيکة له في قلبه؟ وهذا ما لا يظنه به (عليه السلام) إلا مؤف العقل.
فأما حبسه (عليه السلام) المال المکتسب من مهور البغايا علي غني وباهلة، فله ان کان صحيحا وجه واضح، وهو ان ذلک المال دني الأصل خسيس السبب، ومثله ما ينزه عنه ذو الأقدار من جلة المؤمنين ووجوه المسلمين. وإن کان حلالا طلقا فليس کل حلال يتساوي الناس في التصرف فيه. فإن من المکاسب والمهن والحرف ما يحل ويطيب ويتنزه ذوو المرؤات والأقدار عنها.
وقد فعل النبي صلي الله عليه وآله نظير ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه روي عنه انه (صلي الله عليه وآله) نهي عن کسب الحجام، فلما روجع فيه أمر المراجع له ان يطعمه رقيقه ويعلفه ناضحه، وإنما قصد (صلي الله عليه وآله) إلي الوجه الذي ذکرناه من التنزيه، وان کان ذلک الکسب حلالا طلقا. وهاتان القبيلتان معروفتان بالدناءة ولؤم الأصل مطعون عليهما في ديانتهما أيضا، فخصهما بالکسب اللئيم وعوض من له في ذلک المال سهم من الجلة، والوجوه من غير ذلک المال. وکل هذا واضح لمن تدبره.
پاورقي
[1] المعارج 29 - 31.
[2] المائدة 38.
[3] البقرة 79.
[4] يوسف 31.
[5] ص 44.
[6] المائدة 106.
[7] هکذا وردت والاصوب (الرجل).