بازگشت

تنزيه ابراهيم عن الکذب


(مسألة): فإن قيل فما معني قوله تعالي مخبرا عن إبراهيم عليه السلام لما قال له قومه (أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ - قَالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن کَانُوا يَنطِقُونَ) [1] وإنما عني بالکبير الصنم الکبير. وهذا



[ صفحه 43]



کذب لا شک فيه، لأن إبراهيم (ع) هو الذي کسر الأصنام، فإضافته تکسيرها إلي غيره مما لا يجوز أن يفعل شيئا لا يکون إلا کذبا.

(الجواب): قيل له الخبر مشروط غير مطلق، لأنه قال إن کانوا ينطقون ومعلوم أن الأصنام لا تنطق، وأن النطق مستحيل عليها. فما علق بهذا المستحيل من الفعل أيضا مستحيل، وإنما أراد إبراهيم بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يقدر أن يخبر عن نفسه بشئ.

فقال إن کانت هذه الأصنام تنطق فهي الفاعلة للتکسير، لأن من يجوز أن ينطق يجوز أن يفعل.

وإذا علم استحالة النطق عليها علم استحالة الفعل عليها، وعلم باستحالة الأمرين أنها لا يجوز أن تکون آلهة معبودة، وأن من عبدها ضال مضل، ولا فرق بين قوله إنهم فعلوا ذلک إن کانوا ينطقون، وبين قوله إنهم ما فعلوا ذلک ولا غيره لأنهم لا ينطقون ولا يقدرون.

وأما قوله (ع) فاسألوهم إن کانوا ينطقون، فإنما هو أمر بسؤالهم أيضا علي شرط، والنطق منهم شرط في الأمرين، فکأنه قال: إن کانوا ينطقون فاسألوهم، فإنه لا يمتنع أن يکونوا فعلوه. وهذا يجري مجري قول أحدنا لغيره: من فعل هذا الفعل؟ فيقول زيد. إن کان فعل کذا وکذا. ويشير إلي فعل يضيفه السائل إلي زيد، وليس في الحقيقة من فعله.

ويکون غرض المسؤول نفي الأمرين جميعا عن زيد، وتنبيه السائل علي خطئه في إضافة ما أضافه إلي زيد، وقد قرأ بعض القراء وهو محمد بن علي السهيفع اليماني: فعله کبيرهم بتشديد اللام، والمعني فلعله، أي فلعل فاعل ذلک کبيرهم.

وقد جرت عادة العرب بحذف اللام الأولي من لعل فيقولون عل، قال الشاعر: عل صروف الدهر أو دولاتها - تديلنا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها



[ صفحه 44]



أي لعل صروف الدهر.

وقال الآخر:



يا أبتا علک أو عساکا

يسقيني الماء الذي سقاکا



فإن قيل: فأي فايدة في أن يستفهم عن أمر يعلم استحالته، وأي فرق في المعني بين القراءتين؟.

قلنا: لم يستفهم ولا شک في الحقيقة، وإنما نبههم بهذا القول علي خطيئتهم في عبادة الأصنام.

فکأنه قال لهم إن کانت هذه الأصنام تضر وتنفع وتعطي وتمنع، فلعلها هي الفاعلة لذلک التکسير، لأن من جاز منه ضرب من الأفعال جاز منه ضرب آخر، وإذا کان ذلک الفعل الذي هو التکسير لا يجوز علي الأصنام عند القوم، فما هو أعظم منه أولي بأن لا يجوز عليها وأن لا يضاف إليها، والفرق بين القراءتين ظاهر، لأن القراءة الأولي لها ظاهر الخبر، فاحتجنا إلي تعليقه بالشرط ليخرج من أن يکون کذبا.

والقراءة الثانية تتضمن حرف الشک والاستفهام، فهما مختلفان علي ما تري.

فإن قيل: أليس قد روي بشر بن مفضل عن عوف عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال إن إبراهيم عليه السلام ما کذب متعمدا قط إلا ثلاث مرات کلهن يجادل بهن عن دينه قوله إني سقيم، وإنما تمارض عليهم لأن القوم خرجوا من قريتهم لعيدهم وتخلف هو ليفعل بآلهتهم ما فعل.

وقوله بل فعله کبيرهم، وقوله لسارة إنها أختي لجبار من الجبابرة لما أراد أخذها.

قلنا: قد بينا بالأدلة العقلية التي لا يجوز فيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر، أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الکذب.

فما ورد بخلاف ذلک من الأخبار لا يلتفت إليه، ويقطع علي کذبه إن کان لا يحتمل تأويلا



[ صفحه 45]



صحيحا لايقا بأدلة العقل، فإن احتمل تأويلا يطابقها تأولناه ووفقنا بينه وبينها.

وهکذا نفعل فيما يروي من الأخبار التي تتضمن ظواهرها الجبر والتشبيه.

فأما قوله (ع) إني سقيم، فسنبين بعد هذه المسألة بلا فصل وجه ذلک، وأنه ليس بکذب. وقوله بل فعله کبيرهم قد بينا معناه وأوضحنا عنه.

وأما قوله (ع) لسارة أنها أختي، فإن صح فمعناه أنها أختي في الدين، ولم يرد أخوة النسب.

وأما ادعائهم علي النبي صلي الله عليه وآله أنه قال: ما کذب إبراهيم (ع) إلا ثلاث مرات، فالأولي أن يکون کذبا عليه (ع) لأنه صلي الله عليه وآله کان أعرف بما يجوز علي الأنبياء (ع) وما لا يجوز عليهم، ويحتمل إن کان صحيحا أن يريد ما أخبر بما ظاهره الکذب إلا ثلاث دفعات، فأطلق عليه اسم الکذب لأجل الظاهر، وإن لم يکن علي الحقيقة کذلک.


پاورقي

[1] الأنبياء الآية 62 - 63.