في مسألة التحکيم
(مسألة): فان قيل: فما الوجه في تحکيمه عليه السلام أبا موسي الأشعري وعمرو بن العاص؟ وما العذر في ان حکم في الدين الرجال. وهذا يدل علي شکه في إمامته وحاجته إلي علمه بصحة طريقته؟ ثم ما الوجه في تحکيمه فاسقين عنده عدوين له.
أو ليس قد تعرض لذلک ان يخلعا إمامته ويشککا الناس فيه وقد مکنهما من ذلک بأن حکمهما، وکانا غير متمکنين منه ولا أقوالهما حجة في مثله؟ ثم ما العذر في تأخره جهاد المرقة الفسقة وتأجيله ذلک مع امکانه واستظهاره وحضور ناصره؟ ثم ما الوجه في محو اسمه من الکتاب بالإمامة وتنظيره لمعاوية في ذکر نفسه بمجرد الاسم المضاف إلي الأب کما فعل ذلک به، وانتم تعلمون ان بهذه الأمور ضلت الخوارج مع شدة تخشنها في الدين وتمسکها بعلائقه ووثايقه؟.
(الجواب): قلنا کل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز ان نرجع عنه ونتشکک فيه لأجل أمر محتمل، وقد ثبت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ وبراءته من الذنوب والعيوب بأدلة عقلية وسمعية، فليس يجوز ان نرجع عن ذلک اجمع، ولا عن شئ منه، لما وقع من التحکيم للصواب بظاهره، وقبل النظر فيه کاحتماله للخطأ ولو کان ظاهره اقرب إلي الخطأ وأدني إلي مخالفة الصواب، بل الواجب في ذلک القطع علي مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل، أو صرف ماله ظاهر عن ظاهره، والعدول به إلي موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل.
وهذا فعلنا فيما ورد من آي القرآن التي تخالف بظاهرها الأدلة العقلية مما يتعلق به الملحدون أو المجبرة أو المشبهة، وهذه جملة قد کررنا ذکرها في کتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لکانت مغنية کافية، کما انها کذلک فيما ذکرناه من الأصول.
لکننا نزيد وضوحا في تفصيلها ولا نقتصر عليها کما لم نفعل ذلک
[ صفحه 196]
فيما صدرنا به هذا الکتاب من الکلام في تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعاصي.
فنقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام ما حکم مختارا، بل أحوج إلي التحکيم وألجئ إليه لان أصحابه (ع) کانوا من التخاذل والتقاعد والتواکل إلا القليل منهم علي ما هو معروف مشهور، ولما طالت الحرب وکثر القتل وجل الخطب ملوا ذلک وطلبوا مخرجا من مقارعة السيوف، واتفق من رفع أهل الشام المصاحف والتماسهم الرجوع إليها وإظهارهم الرضا بما فيها ما اتفق، بالحيلة التي نصبها عدو الله عمرو بن العاص، والمکيدة التي کادبها لما أحس بالبوار وعلو کلمة أهل الحق، وأن معاوية وجنده مأخوذون قد علتهم السيوف ودنت منهم الحتوف، فعند ذلک وجد هؤلاء الاغنام طريقا إلي الفرار وسبيلا إلي وقوف أمر المناجزة.
ولعل فيهم من دخلت عليه الشبهة لبعده عن الحق وغلط فهمه، وظن ان الذي دعي إليه أهل الشام من التحکيم وکف الحرب علي سبيل البحث عن الحق الاستسلام للحجة لا علي وجه المکيدة والخديعة، فطالبوه عليه السلام بکف الحرب والرضا بما بذله القوم فامتنع (ع) من ذلک امتناع عالم بالمکيدة ظاهر علي الحيلة، وصرح لهم بأن ذلک مکر وخداع، فأبوا ولجوا فأشفق (ع) في الامتناع عليهم والخلاف لهم وهم جم عسکره وجمهور أصحابه من فتنة صماء هي اقرب إليه من حرب عدوه، ولم يأمن ان يعتدي ما بينه وبينهم إلي ان يسلموه إلي عدوه أو يسفکوا دمه، فأجاب إلي التحکيم علي مضض.
ورد من کان قد اخذ بخناق معاوية وقارب تناوله وأشرف علي التمکن منه، حتي انهم قالوا للاشتر رحمه الله تعالي وقد امتنع من ان يکف عن القتال وقد أحس بالظفر وأيقن بالنصر، أتحب انک ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين عليه السلام بمکانه قد سلم إلي عدوه وتفرق أصحابه عنه.
وقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام عند رفعهم المصاحف اتقوا الله وامضوا علي حقکم، فإن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا
[ صفحه 197]
اعرف بهم منکم، قد صحبتهم أطفالا ورجالا فکانوا شر أطفال وشر رجال، انهم والله ما رفعوا المصاحف ليعملوا بها وانما رفعوها خديعة ودهاء ومکيدة.
فأجاب (ع) إلي التحکيم دفعا للشر القوي بالشر الضعيف، وتلافيا للضرر الأعظم بتحمل الضرر الأيسر، وأراد ان يحکم من جهته عبدالله بن العباس رحمة الله عليه فأبوا عليه ولجوا کما لجوا في أصل التحکيم، وقالوا لابد من يماني مع مضري.
فقال (ع) فضموا الاشتر وهو يماني إلي عمرو، فقال الأشعث بن قيس: الاشتر هو الذي طرحنا فيما نحن فيه. واختاروا أبا موسي مقترحين له (ع) ملزمين له تحکيمه، فحکمهما بشرط ان يحکما بکتاب الله تعالي ولا يتجاوزاه، وانهما متي تعدياه فلا حکم لهما.
هذا غاية التحرز ونهاية التيقظ، لانا نعلم انهما لو حکما بما في الکتاب لاصابا الحق. وعلمنا ان أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أولي بالأمر، وانه لا حظ لمعاوية وذويه في شئ منه. ولما عدلا إلي طلب الدنيا ومکر أحدهما بصاحبه ونبذا الکتاب وحکمه وراء ظهورهما، خرجا من التحکيم وبطل قولهما وحکمهما، وهذا بعينه موجود في کلام أمير المؤمنين عليه السلام لما ناظر الخوارج واحتجوا عليه في التحکيم. وکل ما ذکرناه في هذا الفصل من ذکر الأعذار في التحکيم والوجوه المحسنة له مأخوذة من کلامه عليه السلام. وقد روي ذلک عنه عليه السلام مفصلا مشروحا.
فأما تحکيمهما مع علمه بفسقهما فلا سؤال فيه، إذ کنا قد بينا ان الإکراه وقع علي أصل الاختيار وفرعه، وأنه عليه السلام ألجئ إليه جملة ثم إلي تفصيله، ولو خلي عليه السلام واختياره ما أجاب إلي التحکيم أصلا، ولا رفع السيوف عن أعناق القوم. لکنه أجاب إليه ملجأ کما أجاب إلي ما اختاروه بعينه کذلک.
وقد صرح (ع) بذلک في کلامه حيث يقول: لقد أمسيت أميرا وأصبحت مأمورا، وکنت أمس ناهيا وأصبحت اليوم منهيا.
[ صفحه 198]
وکيف يکون التحکيم منه (ع) دالا علي الشک، وهو (ع) ناه عنه وغير راض به ومصرح بما فيه من الخديعة؟ وانما يدل علي شک من حمله عليه وقاده إليه، وانما يقال ان التحکيم يدل علي الشک إذا کنا لا نعرف سببه والحامل عليه، أو کان لا وجه له إلا ما يقتضي الشک.
فأما إذا کنا قد عرفنا ما اقتضاه وادخل فيه، وعلمنا انه (ع) ما أجاب عليه إلا لدفع الضرر العظيم، ولان تزول الشبهة عن قلب من ظن به (ع) أنه لا يرضي بالکتاب ولا يجيب إلي تحکيمه، فلا وجه لما ذکروه.
وقد أجاب (ع) عن هذه الشبهة بعينها في مناظرتهم لما قالوا له: أشککت؟ فقال عليه السلام: أنا أولي بأن لا أشک في ديني أم النبي صلي الله عليه وآله؟ أو ما قال الله تعالي لرسوله: (قُلْ فَأْتُوا بِکِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَي مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن کُنتُمْ صَادِقِينَ). [1] .
واما قول السائل، فإنه (ع) تعرض لخلع إمامته ومکن الفاسقين من ان يحکما عليه بالباطل، فمعاذ الله ان يکون کذلک، لانا قد بينا انه (ع) انما حکمهما بشرط لو وفيا به وعملا عليه، لأقرا إمامته واوجبا طاعته، لکنهما عدلا عنه فبطل حکمهما، فما مکنهما من خلع إمامته ولا تعرض منهما لذلک.
ونحن نعلم ان من قلد حاکما أو ولي أميرا ليحکم بالحق ويعمل بالواجب فعدل عما شرط عليه وخالفه، لا يسوغ القول بأن من ولاه عرضه لباطل ومکنه من العدول عن الواجب، ولم يلحقه شئ من اللوم بذلک، بل کان اللوم عائدا علي من خالف ما شرط عليه. فأما تأخيره جهاد الظالمين وتأجيل ما يأتي من استيصالهم، فقد بينا العذر فيه، وان أصحابه (ع) تخاذلوا وتواکلوا واختلفوا، وان الحرب بلا أنصار وبغير أعوان لا يمکن. والمتعرض لها مغرر بنفسه وأصحابه.
[ صفحه 199]
فأما عدوله عن التسمية بأمير المؤمنين واقتصاره علي التسمية المجردة، فضرورة لحال دعت إليها.
وقد سبق إلي مثل ذلک سيد الأولين والآخرين رسول الله صلي الله عليه وآله في عام الحديبية، وقصته مع سهل بن عمرو، وأنذره عليه السلام بأنه: ستدعي إلي مثل ذلک وتجيب علي مضض. فکان کما أنذر وخبر رسول الله صلي الله عليه وآله. واللوم بلا إشکال زايل عما اقتدي فيه بالرسول صلي الله عليه وآله. وهذه جملة تفصيلها يطول، وفيها لمن أنصف من نفسه بلاغ وکفاية.
پاورقي
[1] القصص 49.