بازگشت

تنزيه يونس عن الظلم


(مسألة): فإن قيل فما معني قوله تعالي: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَي فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَکَ إِنِّي کُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [1] وما معني غضبه وعلي من کان غضبه وکيف ظن أن الله تعالي لا يقدر عليه؟ وذلک مما لا يظنه مثله؟ وکيف اعترف بأنه من الظالمين والظلم قبيح؟.

(الجواب): قلنا أما من يونس عليه السلام خرج مغاضبا لربه من حيث لم ينزل بقومه العذاب، فقد خرج في الافتراء علي الأنبياء عليهم السلام وسوء الظن بهم عن الحد، وليس يجوز أن يغاضب ربه إلا من کان معاديا له وجاهل بأن الحکمة في سائر أفعاله، وهذا لا يليق باتباع الأنبياء (ع) من المؤمنين فضلا عمن عصمه الله تعالي ورفع درجته، أقبح من ذلک ظن الجهال وإضافتهم إليه عليه السلام أنه ظن أن ربه لا يقدر عليه من جهة القدرة التي يصح بها الفعل.

ويکاد يخرج عندنا من ظن بالأنبياء عليهم السلام مثل ذلک عن باب التمييز والتکليف. وإنما کان غضبه (ع)



[ صفحه 142]



علي قومه لبقائهم علي تکذيبه وإصرارهم علي الکفر ويأسه من إقلاعهم وتوبتهم، فخرج من بينهم خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم بينهم.

وأما قوله تعالي: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)، فمعناه أن لا نضيق عليه المسلک ونشدد عليه المحنة والتکليف، لأن ذلک مما يجوز أن يظنه النبي، ولا شبهة في أن قول القائل قدرت وقدرت بالتخفيف والتشديد معناه التضييق.

قال الله تعالي: (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ). [2] .

وقال تعالي: (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ). [3] أي يوسع ويضيق.

وقال تعالي: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [4] أي ضيق، والتضييق الذي قدره الله عليه هو ما لحقه من الحصول في بطن الحوت وما ناله في ذلک من المشقة الشديدة إلي أن نجاه الله تعالي منها.

وأما قوله تعالي: (فَنَادَي فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَکَ إِنِّي کُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [5] فهو علي سبيل الانقطاع إلي الله تعالي والخشوع له والخضوع بين يديه، لأنه لما دعاه لکشف ما امتحنه به وسأله أن ينجيه من الظلمات التي هي ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل، فعل ما يفعله الخاضع الخاشع من الانقطاع والاعتراف بالتقصير، وليس لأحد أن يقول کيف يعترف بأنه کان من الظالمين ولم يقع منه ظلم، وهل هذا إلا الکذب بعينه؟ وليس يجوز أن يکذب النبي (ع) في حال خضوع ولا غيره،



[ صفحه 143]



وذلک أنه يمکن أن يريد بقوله إني کنت من الظالمين، أي من الجنس الذي يقع منهم الظلم، فيکون صدقا، وإن ورد علي سبيل الخضوع والخشوع لأن جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم.

فإن قيل: فأي فايدة في أن يضيف نفسه إلي الجنس الذي يقع منهم الظلم إذا کان الظلم منتفيا عنه في نفسه؟.

قلنا: الفايدة في ذلک التطامن لله تعالي والتخاضع ونفي التکبر والتجبر، لأن من کان مجتهدا في رغبة إلي مالک قدير، فلا بد من أن يتطأطأ، ويجتهد في الخضوع بين يديه، ومن أکبر الخضوع أن يضيف نفسه إلي القبيل الذي يخطئون ويصيبون کما يقول الإنسان، إذا أراد أن يکسر نفسه وينفي عنها دواعي الکبر والخيلاء: إنما أنا من البشر ولست من الملائکة، وأنا ممن يخطئ ويصيب. وهو لا يريد إضافة الخطأ إلي نفسه في الحال، بل يکون الفايدة ما ذکرناها.

ووجه آخر: وهو إنا قد بينا في قصة آدم عليه السلام لما تأولنا قوله تعالي: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) أن المراد بذلک أنا نقصناها الثواب وبخسناها حظها منه، لأن الظلم في أصل اللغة هو النقص والثلم، ومن ترک المندوب إليه. وهو لو فعله لاستحق الثواب، يجوز أن يقال إنه ظلم نفسه من حيث نقصها ذلک الثواب، وليس يمتنع أن يکون يونس عليه السلام أراد هذا المعني لأنه لا محالة قد ترک کثيرا من المندوب، فإن استيفاء جميع الندب يتعذر، وهذا أولي مما ذکره من جوز الصغائر علي الأنبياء عليهم السلام، لأنهم يدعون أن خروجه کان بغير إذن من الله تعالي له. فکان قبيحا صغيرا، وليس ذلک بواجب علي ما ظنوه، لأن ظاهر القرآن لا يقتضيه. وإنما أوقعهم في هذه الشبهة قوله (إِنِّي کُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

وقد بينا وجه ذلک وأنه ليس بواجب أن يکون خبرا عن المعصية، وليس لهم أن يقولوا کيف يسمي من ترک النفل بأنه ظالم؟ وذلک أنا قد بينا وجه هذه التسمية في اللغة وإن کان



[ صفحه 144]



إطلاق اللفظة في العرف لا يقتضيه.

وعلي من سأل عن ذلک مثله إذا قيل له کيف يسمي کل من قبل معصية بأنه ظالم؟ وإنما الظلم المعروف هو الضرر المحض الموصل إلي الغير؟ فإذا قالوا إن في المعصية معني الظلم وإن لم يکن ضررا يوصل إلي الغير من حيث نقصت ثواب فاعلها.

قلنا: وهذا المعني يصح في الندب، علي أن يجري ما يستحق من الثواب مجري المستحق، وبعد فإن أبا علي الجبائي وکل من وافقه في الامتناع من القول بالموازنة في الاحباط لا يمکنه أن يجيب بهذا الجواب، فعلي أي وجه يا ليت شعري يجعل معصية يونس (ع) ظلما. وليس فيها من معني الظلم شئ.

وأما قوله تعالي: (فَاصْبِرْ لِحُکْمِ رَبِّکَ وَلَا تَکُن کَصَاحِبِ الْحُوتِ) [6] فليس علي ما ظنه الجهال من أنه (ع) ثقل عليه أعباء النبوة لضيق خلقه. فقذفها، وإنما الصحيح أن يونس لم يقو علي الصبر علي تلک المحنة التي ابتلاه الله تعالي بها وعرضه لنزولها به لغاية الثواب فشکي إلي الله تعالي منها وسأله الفرج والخلاص، ولو صبر لکان أفضل. فأراد الله تعالي لنبيه صلي الله عليه وآله أفضل المنازل وأعلاها.



[ صفحه 145]




پاورقي

[1] الأنبياء 87.

[2] الطلاق 7.

[3] الرعد 26.

[4] الفجر 16.

[5] الأنبياء 87.

[6] القلم 48.