بازگشت

تنزيه سليمان عن الفتنة


(مسألة): فإن قيل: فما معني قوله تعالي: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَي کُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) [1] أو ليس قد روي في تفسير هذه الآية أن جنيا کان اسمه صخرا تمثل علي صورته وجلس علي سريره، وأنه أخذ خاتمه الذي فيه النبوة فألقاه في البحر، فذهبت نبوته وأنکره قومه حتي عاد إليه من بطن السمکة.

(الجواب): قلنا: أما ما رواه الجهال في القصص في هذا الباب فليس مما يذهب علي عاقل بطلانه، وأن مثله لا يجوز علي الأنبياء عليهم السلام، وأن النبوة لا تکون في خاتم ولا يسلبها النبي (ع) ولا ينزع عنه، وأن الله تعالي لا يمکن الجني من التمثيل بصورة النبي (ع) ولا غير ذلک مما افتروا به علي النبي (ع).

وإنما الکلام علي ما يقتضيه ظاهر القرآن، وليس في الظاهر أکثر من أن جسدا القي علي کرسيه علي سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان، مثل قوله تعالي: (الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَکُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْکَاذِبِينَ) [2] والکلام في ذلک الجسد ما هو إنما يرجع فيه إلي الرواية الصحيحة التي لا تقتضي إضافة قبيح إليه تعالي، وقد قيل في ذلک



[ صفحه 137]



أشياء

(منها): أن سليمان عليه السلام قال يوما في مجلسه وفيه جمع کثير: لأطوفن الليلة علي مائة امرأة تلد کل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله وکان له فيما روي عدد کثير من السراري، فأخرج کلامه علي سبيل المحبة بهذا الحال، فنزهه الله تعالي عن الکلام الذي ظاهره الحرص علي الدنيا والتثبت بها لئلا يقتدي به في ذلک، فلم تحمل من نسائه إلا امرأة واحدة فألقت ولدا ميتا، فحمل حتي وضع علي کرسيه جسدا بلا روح تنبيها له علي أنه ما کان يجب بأن يظهر منه ما ظهر، فاستغفر ربه وفزع إلي الصلاة والدعاء.

وهذا الوجه إذا صح ليس يقتضي معصية صغيرة علي ما ظنه بعضهم حتي نسب الاستغفار والإنابة إلي ذلک، وذلک لأن محبة الدنيا علي الوجه المباح ليس بذنب وإن کان غيره أولي منه، والاستغفار عقيب هذه الحال لا يدل علي وقوع ذنب في الحال ولا قبلها، بل يکون محمولا علي ما ذکرناه آنفا في قصة داود عليه السلام من الانقطاع إلي الله تعالي وطلب ثوابه.

فأما قول بعضهم: إن ذنبه من حيث لم يستثن بمشيئة الله تعالي لما قال: تلد کل امرأة واحدة منهن غلاما. وهذا غلط لأنه (ع) وإن لم يستثن ذلک لفظا قد استثناه ضميرا أو اعتقادا. إذ لو کان قاطعا مطلقا للقول لکان کاذبا أو مطلقا لما لا يأمن أن يکون کذبا، وذلک لا يجوز عند من جوز الصغائر علي الأنبياء عليهم السلام.

وأما قول بعضهم: إنه (ع) إنما عوتب واستغفر لأجل أن فريقين اختصما إليه، أحدهما من أهل جرادة امرأة له کان يحبها، فأحب أن يقع القضاء لأهلها فحکم بين الفريقين بالحق، وعوتب علي محبة موافقة الحکم لأهل امرأته، فليس هذا أيضا بشئ لأن هذا المقدار الذي ذکروه ليس بذنب يقتضي عتابا إذا کان لم يرد القضاء بما يوافق امرأته علي کل حال، بل مال طبعه إلي أن يکون الحق موافقا لقول فريقها، وأن يتفق أن يکون في جهتها



[ صفحه 138]



من غير أن يقتضي ذلک ميلا منه إلي الحکم أو عدولا عن الواجب.

(ومنها): أنه روي عن الجن لما ولد لسليمان عليه السلام ولد قالوا لنلقين من ولده مثل ما لقينا من أبيه، فلما ولد له غلام أشفق عليه منهم فاسترضعه في المزن وهو السحاب فلم يشعر إلا وقد وضع علي کرسيه ميتا تنبيها له علي أن الحذر لا ينقطع مع القدر.

(ومنها): أنهم ذکروا أنه کان لسليمان (ع) ولد شاب ذکي وکان يحبه حبا شديدا فأماته الله تعالي علي بساطه فجأة بلا مرض اختبارا من الله تعالي لسليمان (ع) وابتلاء لصبره في إماتة ولده، وألقي جسده علي کرسيه، وقيل إن الله جل ثنائه أماته في حجره وهو علي کرسيه فوضعه من حجره عليه.

ومنها: ما ذکره أبو مسلم، فإنه قال جايز أن يکون الجسد المذکور هو جسد سليمان (ع)، وأن يکون ذلک لمرض امتحنه تعالي به. وتلخيص الکلام: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَي کُرْسِيِّهِ جَسَدًا وذلک لشدة المرض.

والعرب تقول في الإنسان إذا کان ضعيفا إنه لحم علي وضم. کما يقولون: إنه جسد بلا روح تغليظا للعلة ومبالغة في فرط الضعف.

(ثُمَّ أَنَابَ) أي رجع إلي حال الصحة واستشهد علي الاختصار والحذف في الآية بقوله تعالي: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْکَ وَجَعَلْنَا عَلَي قُلُوبِهِمْ أَکِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ کُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّي إِذَا جَآؤُوکَ يُجَادِلُونَکَ يَقُولُ الَّذِينَ کَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [3] ولو أتي بالکلام علي شرحه لقول الذين کفروا منهم أي من المجادلين.

کما قال تعالي: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَي الْکُفَّارِ رُحَمَاء



[ صفحه 139]



بَيْنَهُمْ) إلي قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [4] .

وقال الأعشي في معني الاختصار والحذف: وکأن السموط علقها السلک - بعطفي جيداء أم غزال ولو أتي بالشرح لقال علقها السلک منها.

وقال کعب بن زهير: زالوا فما زال انعکاس ولا کشف - عند اللقاء ولا ميل معازيل وإنما أراد فما زال منهم انعکاس ولا کشف وشواهد هذا المعني کثيرة.


پاورقي

[1] ص 34.

[2] العنکبوت 1 - 3.

[3] الأنعام 25.

[4] الفتح 29.