بازگشت

تنزيه سليمان عن المعصية


(مسألة): فإن قيل فما معني قوله تعالي: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ - إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ - فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِکْرِ رَبِّي حَتَّي تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ - رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) [1] أو ليس ظاهر هذه الآيات يدل علي أن مشاهدة الخيل الهاه واشغله عن ذکر ربه، حتي روي أن الصلاة فاتته وقيل إنها صلاة العصر، ثم إنه عرقب الخيل وقطع سوقها وأعناقها غيظا عليها، وهذا کله فعل يقتضي ظاهره القبح.

(الجواب): قلنا أما ظاهر الآية فلا يدل علي إضافة قبيح إلي النبي (ع) والرواية إذا کانت مخالفة لما تقتضيه الأدلة لا يلتفت إليها لو کانت قوية صحيحة ظاهرة، فکيف إذا کانت ضعيفة واهية؟

والذي يدل علي ما ذکرناه علي سبيل الجملة أن الله تعالي ابتدأ الآية بمدحه وتعريفه والثناء عليه، فقال: نعم العبد إنه أواب، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء ثم يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه، وأنه تلهي بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة والذي يقتضيه الظاهر أن حبه للخيل وشغفه بها



[ صفحه 134]



کان بإذن ربه وبأمره وتذکيره إياه لأن الله تعالي قد أمرنا بارتباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء، فلا ينکر أن يکون سليمان عليه السلام مأمورا بمثل ذلک. فقال إني أحببت حب الخير عن ذکر ربي، ليعلم من حضره أن اشتغاله بها واستعداده لها لم يکن لهوا ولا لعبا، وإنما أتبع فيه أمر الله تعالي وآثر طاعته.

وأما قوله: أحببت حب الخير ففيه وجهان. أحدهما: أنه أراد أني أحببت حبا ثم أضاف الحب إلي الخير. والوجه الآخر: أنه أراد أحببت اتخاذ الخير. فجعل قوله بدل اتخاذ الخير حب الخير.

فأما قوله تعالي: (رُدُّوهَا عَلَيَّ) فهو للخيل لا محالة علي مذهب سائر أهل التفسير.

فأما قوله تعالي: (حَتَّي تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ)، فإن أبا مسلم محمد بن بحر وحده قال إنه عائد إلي الخيل دون الشمس، لأن الشمس لم يجر لها ذکر في القصة. وقد جري للخيل ذکر فرده إليها أولي إذا کانت له محتملة، وهذا التأويل يبرئ النبي (ع) عن المعصية.

فأما من قال إن قوله تعالي (حَتَّي تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) کناية عن الشمس، فليس في ظاهر القرآن أيضا علي هذا الوجه ما يدل علي أن التواري کان سببا لفوت الصلاة، ولا يمتنع أن يکون ذلک علي سبيل الغاية لعرض الخيل عليه ثم استعادته لها.

فأما أبو علي الجبائي وغيره، فإنه ذهب إلي أن الشمس لما توارت بالحجاب وغابت کان ذلک سببا لترک عبادة کان يتعبد بها بالعشي، وصلاة نافلة کان يصليها فنسيها شغلا بهذه الخيل وإعجابا بتقليبها، فقال هذا القول



[ صفحه 135]



علي سبيل الاغتمام لما فاته من الطاعة، وهذا الوجه أيضا لا يقتضي إضافة قبيح إليه (ع) لأن ترک النافلة ليس بقبيح ولا معصية.

وأما قوله تعالي: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) فقد قيل فيه وجوه:

منها: أنه عرقبها ومسح أعناقها وسوقها بالسيف من حيث شغلته عن الطاعة، ولم يکن ذلک علي سبيل العقوبة لها لکن حتي لا يتشاغل في المستقبل بها عن الطاعات، لأن للإنسان أن يذبح فرسه لأکل لحمها، فکيف إذا انضاف إلي ذلک وجه آخر يحسنه.

وقد قيل أنه يجوز أن يکون لما کانت الخيل أعز ما له عليه أراد أن يکفر عن تفريطه في النافلة فذبحها وتصدق بلحمها علي المساکين. قالوا فلما رأي حسن الخيل راقته وأعجبته، أراد أن يقترب إلي الله تعالي بالمعجب له الرائق في عينه، ويشهد بصحة هذا المذهب قوله تعالي: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّي تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) [2] .

فأما أبو مسلم فإنه ضعف هذا الوجه وقال: لم يجر للسيف ذکر فيضاف إليه المسح، ولا يسمي العرب الضرب بالسيف والقطع به مسحا، قال فإن ذهب ذاهب إلي قول الشاعر:

مدمن يجلو بأطراف الذري - دنس الأسوق بالعضب الأفل فإن هذا الشاعر يعني أنه عرقب الإبل للأضياف فمسح بأسنمتها ما صار علي سيفه من دنس عراقبها وهو الدم الذي أصابه منها، وليس في الآية ما يوجب ذلک ولا ما يقاربه، وليس الذي أنکره أبو مسلم بمنکر لأن أکثر أهل التأويل وفيهم من يشار إليه في اللغة، روي أن المسح ههنا هو القطع وفي الاستعمال المعروف: مسحه بالسيف إذا قطعه وبتره. والعرب تقول مسح علاوتها أي ضربها.

ومنها: أن يکون معني مسحها هو أنه أمر يده عليها صيانة لها وإکراما



[ صفحه 136]



لما رأي من حسنها. فمن عادة من عرضت عليه الخيل أن يمر يده علي أعرافها وأعناقها وقوائمها.

ومنها: أن يکون معني المسح ههنا هو الغسل، فإن العرب تسمي الغسل مسحا، فکأنه لما رأي حسنها أراد صيانتها وإکرامها فغسل قوائمها وأعناقها وکل هذا واضح.


پاورقي

[1] ص 30 - 33.

[2] آل عمران 92.