بازگشت

في قدرة موسي علي الصبر و تنزيهه عن النسيان


(مسألة) فإن قيل: فما وجه قوله تعالي فيما حکاه عن موسي عليه السلام والعالم الذي کان صحبه وقيل إنه الخضر عليه السلام من الآيات التي ابتداؤها: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا - قَالَ لَهُ مُوسَي هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلَي أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا - قَالَ إِنَّکَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا - وَکَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا - قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَکَ أَمْرًا - قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّي أُحْدِثَ لَکَ مِنْهُ ذِکْرًا) [1] إلي آخر الآيات المتضمنة لهذه القصة.

وأول ما تسألون عنه في هذه الآيات أن يقال لکم کيف يجوز أن يتبع موسي عليه السلام غيره ويتعلم منه، وعندکم أن النبي (ع) لا يجوز أن يفتقر إلي غيره؟

وکيف يجوز أن يقول له إنک لن تستطيع معي صبرا والاستطاعة عندکم هي القدرة وقد کان موسي عل مذهبکم قادرا علي الصبر؟

وکيف قال موسي ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لک أمرا فاستثني المشيئة في الصبر وأطلق فيما ضمنه من طاعته واجتناب معصيته؟

وکيف قال لقد جئت شيئا أمرا وشيئا نکرا وما أتي العالم منکرا في الحقيقة؟

وما معني قوله لا تؤاخذني بما نسيت وعندکم أن النسيان لا يجوز علي الأنبياء عليهم السلام؟

ولم نعت موسي (ع) النفس بأنها زکية ولم تکن کذلک علي الحقيقة؟

ولم قال في الغلام: (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَکُفْرًا) [2] فإن کان الذي خشية الله تعالي علي ما ظنه قوم، فالخشية لا يجوز عليه تعالي؟ وإن کان هو



[ صفحه 119]



الخضر (ع) فکيف يستبيح دم الغلام لأجل الخشية والخشية لا تقتضي علما ولا يقينا؟.

(الجواب): قلنا: إن العالم الذي نعته الله تعالي في هذه الآيات فلا يجوز إلا أن يکون نبيا فاضلا، وقد قيل إنه الخضر عليه السلام، وأنکر أبو علي الجبائي ذلک وزعم أنه ليس بصحيح قال: لأن الخضر (ع) يقال إنه کان نبيا من أنبياء بني إسرائيل الذين بعثوا من بعد موسي (ع)، وليس يمتنع أن يکون الله تعالي قد أعلم هذا العالم ما لم يعلمه موسي، وأرشد موسي (ع) إليه ليتعلم منه، وإنما المنکر أن يحتاج النبي (ع) في العلم إلي بعض رعيته المبعوث إليهم.

فأما أن يفتقر إلي غيره ممن ليس له برعية فجائز، وما تعلمه من هذا العالم إلا کتعلمه من الملک الذي يهبط عليه بالوحي، وليس في هذا دلالة علي أن ذلک العالم کان أفضل من موسي في العلم، لأنه لا يمتنع أن يزيد موسي في سائر العلوم التي هي أفضل وأشرف مما علمه، فقد يعلم أحدنا شيئا من سائر المعلومات وإن کان ذلک المعلوم يذهب إلي غيره ممن هو أفضل منه وأعلم.

وأما نفي الاستطاعة فإنما أراد بها أن الصبر لا يخف عليک أنه يثقل علي طبيعتک، کما يقول أحدنا لغيره: إنک لا تستطيع أن تنظر إلي. وکما يقال للمريض الذي يجهده الصوم وإن کان قادرا عليه: إنک لا تستطيع الصيام ولا تطيقه، وربما عبر بالاستطاعة عن الفعل نفسه کما قال الله تعالي حکاية عن الحواريين: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّکَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء) [3] فکأنه علي هذا الوجه قال: إنک لن تصبر ولن يقع منک الصبر.

ولو کان إنما نفي القدرة علي ما ظنه الجهال، لکان العالم وهو في ذلک سواء، فلا معني لاختصاصه بنفي الاستطاعة، والذي يدل علي أنه نفي عنه



[ صفحه 120]



الصبر لاستطاعته قول موسي (ع) في جوابه: (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا) ولم قل ستجدني إن شاء الله مستطيعا. ومن حق الجواب أن يطابق الابتداء، فدل جوابه علي أن الاستطاعة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه.

وأما قوله: (وَلَا أَعْصِي لَکَ أَمْرًا) فهو أيضا مشروط بالمشيئة، وليس بمطلق علي ما ذکر في السؤال، فکأنه قال ستجدني صابرا ولا أعصي لک أمرا إن شاء الله. وإنما قدم الشرط علي الأمرين جميعا وهذا ظاهر في الکلام.

وأما قوله: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) فقد قيل أنه أراد شيئا عجبا، وقيل أنه أراد شيئا منکرا، وقيل إن الأمر أيضا هو الداهية. فکأنه قال جئت داهية.

وقد ذهب بعض أهل اللغة إلي أن الأمر مشتق من الکثرة من أمر القوم إذا کثروا، وجعل عبارة عما کثر عجبه، وإذا حملت هذه اللفظة علي العجب فلا سؤال فيها، وإن حملت علي المنکر کان الجواب عنها وعن قوله لقد جئت شيئا نکرا واحدا. وفي ذلک وجوه:

منها: أن ظاهر ما أتيته المنکر ومن يشاهده ينکره قبل أن يعرف علته.

ومنها: أن يکون حذف الشرط فکأنه قال إن کنت قتلته ظالما فقد جئت شيئا نکرا. ومنها: أنه أراد أنک أتيت أمرا بديعا غريبا، فإنهم يقولون فيما يستغربونه ويجهلون علته أنه نکر ومنکر، وليس يمکن إن يدفع خروج الکلام مخرج الاستفهام والتقرير دون القطع.

ألا تري إلي قوله: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) وإلي قوله: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَکِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ). ومعلوم أنه إن کان قصد بخرق السفينة إلي التغريق، فقد أتي منکرا. وکذلک إن کان قتل النفس علي سبيل الظلم.



[ صفحه 121]



وأما قوله: (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) فقد ذکر فيه وجوه ثلاثة:

أحدها: أنه أراد النسيان المعروف، وليس ذلک بعجب مع قصر المدة، فإن الانسان قد ينسي ما قرب زمانه لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلک.

والوجه الثاني: إنه أراد لا تأخذني بما ترکت. ويجري ذلک مجري قوله تعالي: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَي آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ) [4] أي ترک، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن أبي بن کعب عن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: وقال موسي لا تؤاخذني بما نسيت. يقول بما ترکت من عهدک.

والوجه الثالث: إنه أراد لا تؤاخذني بما فعلته مما يشبه النسيان فسماه نسيانا للمشابهة کما قال المؤذن لأخوة يوسف عليه السلام: إنکم لسارقون أي إنکم تشبهون السراق. وکما يتأول الخبر الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلي الله عليه وآله أنه قال: کذب إبراهيم (ع) ثلاث کذبات في قوله سارة أختي، وفي قوله بل فعله کبيرهم هذا.

وقوله إني سقيم، والمراد بذلک إن کان هذا الخبر صحيحا أنه فعل ما ظاهره الکذب. وإذا حملنا هذه اللفظة علي غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها. وإذا حملناها علي النسيان في الحقيقة کان الوجه فيه أن النبي صلي الله عليه وآله إنما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالي أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه.

فأما فيما هو خارج عما ذکرناه فلا مانع من النسيان، ألا تري أنه إذا نسي أو سهي في مأکله أو مشربه علي وجه لا يستمر ولا يتصل، فنسب إلي أنه مغفل، فإن ذلک غير ممتنع، وأما وصف النفس بأنها زکية فقد قلنا إن ذاک خرج مخرج الاستفهام لا علي سبيل الإخبار.

وإذا کان استفهاما فلا سؤال علي هذا الموضع.

وقد اختلف المفسرون في هذه النفس، فقال أکثرهم إنه کان صبيا لم يبلغ



[ صفحه 122]



الحلم، وأن الخضر وموسي عليهما السلام مرا بغلمان يلعبون، فأخذ الخضر (ع) منهم غلاما فأضجعه وذبحه بالسکين.

ومن ذهب إلي هذا الوجه يجب أن يحمل قوله زکية علي أنه من الزکاة الذي هو الزيادة والنماء، لأن الطهارة في الدين من قولهم: زکت الأرض تزکو إذا زاد ريعها.

وذهب قوم إلي أنه کان رجلا بالغا کافرا ولم يکن يعلم موسي (ع) باستحقاقه القتل، فاستفهم عن حاله. ومن أجاب بهذا الجواب إذا سئل عن قوله تعالي: (حَتَّي إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ) [5] يقول لا يمتنع تسمية الرجل بأنه غلام علي مذهب العرب وإن کان بالغا.

فأما قوله: (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَکُفْرًا) فالظاهر يشهد أن الخشية من العالم لا منه تعالي. والخشية ههنا قيل: العلم. کما قال الله تعالي: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) [6] وقوله تعالي: (إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ) [7] وقوله عز وجل: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) [8] وکل ذلک بمعني العلم.

وعلي هذا الوجه کأنه يقول إنني علمت بإعلام الله تعالي لي أن هذا الغلام متي بقي کفر أبويه (کفروا أبواه)، ومتي قتل بقيا علي إيمانها. فصارت تبقيته مفسدة ووجب احترامه، ولا فرق بين أن يميته الله تعالي وبين أن يأمر بقتله.

وقد قيل أن الخشية هاهنا بمعني الخوف الذي لا يکون معه يقين ولا قطع.

وهذا يطابق جواب من قال إن الغلام کان کافرا مستحقا للقتل بکفره، وانضاف إلي استحقاقه ذلک بالکفر خشية إدخال أبويه في الکفر وتزيينه (وترديده) لهما.

قال قوم إن الخشية ههنا هي الکراهية. يقول القائل:



[ صفحه 123]



فرقت بين الرجلين خشية أن يقتتلا، أي کراهة لذلک، وعلي هذا التأويل والوجه الذي قلنا أنه بمعني العلم لا يمتنع أن تضاف الخشية إلي الله تعالي.

فإن قيل: فما معني قوله تعالي (أَمَّا السَّفِينَةُ فَکَانَتْ لِمَسَاکِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) [9] والسفينة البحرية تساوي المال الجزيل، وکيف يسمي مالکها بأنه مسکين والمسکين عند قوم شر من الفقير؟ وکيف قال: (وَکَانَ وَرَاءهُم مَّلِکٌ يَأْخُذُ کُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [10] ومن کان وراءهم قد سلموا من شره ونجوا من مکروهة وإنما الحذر مما يستقبل.

قلنا أما قوله: لمساکين ففيه أوجه: منها أنه لم يعن بوصفهم بالمسکنة الفقر، وإنما أراد عدم الناصر وانقطاع الحيلة. کما يقال لمن له عدو يظلمه ويهضمه أنه مسکين ومستضعف وإن کان کثير المال واسع الحال. ويجري هذا مجري ما روي عنه عليه السلام من قوله: مسکين مسکين رجل لا زوجة له. وإنما أراد وصفه بالعجز وقلة الحيلة وإن کان ذا مال واسع.

ووجه آخر: وهو أن السفينة الواحدة البحرية التي لا يتعيش إلا بها ولا يقدر علي التکسب إلا من جهتها کالدار التي يسکنها الفقير هو وعياله ولا يجد سواها، فهو مضطر إليها ومنقطع الحيلة إلا منها. فإذا انضاف إلي ذلک أن يشارکه جماعة في السفينة حتي يکون له منها الجزء اليسير، کان أسوأ حالا وأظهر فقرا.

ووجه آخر: إن لفظة المساکين قد قرئت بتشديد السين وفتح النون، فإذا صحت هذه الرواية فالمراد بها البخلاء. وقد سقط السؤال. فأما قوله



[ صفحه 124]



تعالي: (وَکَانَ وَرَاءهُم مَّلِکٌ يَأْخُذُ کُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) فهذه اللفظة يعبر بها عن الإمام والخلف معا. فهي ها هنا بمعني الإمام.

ويشهد بذلک قوله تعالي: (مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ) يعني من قدامه وبين يديه.

وقال الشاعر:



ليس علي طول الحياة ندم

ومن وراء المرء ما لا يعلم



وقال الآخر: أليس ورائي إن تراخت منيتي - لزوم العصي تحني عليها الأصابع ولا شبهة في أن المراد بجميع ذلک: القدام.

وقال بعض أهل العربية إنما صلح أن يعبر بالوراء عن الإمام إذا کان الشئ المخبر عنه بالوراء يعلم أنه لا بد من بلوغه ثم يسبقه ويخلفه.

فتقول العرب: البرد وراءک وهو يعني قدامک، لأنه قد علم أنه لا بد من أن يبلغ البرد ثم يسبق.

ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يريد أن ملکا ظالما کان خلفهم وفي طريقهم عند رجوعهم علي وجه لا انفکاک لهم منه ولا طريق لهم إلا المرور به، فخرق السفينة حتي لا يأخذها إذا عادوا عليه.

ويمکن أن يکون وراءهم علي وجه الإتباع والطلب والله أعلم بمراده.


پاورقي

[1] الکهف 65 - 70.

[2] الکهف 80.

[3] المائدة 112.

[4] طه 115.

[5] الکهف 74.

[6] النساء 128.

[7] البقرة 229.

[8] التوبة 28.

[9] الکهف 79.

[10] الکهف 79.