بازگشت

تنزيه موسي عن سؤال الرؤية لنفسه


(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالي: (وَلَمَّا جَاء مُوسَي لِمِيقَاتِنَا وَکَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْکَ قَالَ لَن تَرَانِي) [1] أو ليس هذه الآية تدل علي جواز الرؤية عليه تعالي لأنها لو لم تجز لم يسغ أن يسألها موسي (ع) کما يجوز أن يسأله اتخاذ الصاحبة والولد؟.

(الجواب): قلنا: أولي ما أجيب به عن هذه الآية أن يکون موسي عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه، وإنما سألها لقومه.

فقد روي أن قومه طلبوا ذلک منه، فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه تعالي. فلجوا به وألحوا عليه في أن يسأل الله تعالي أن يريهم نفسه، وغلب في ظنه أن الجواب إذا ورد من جهته جلت عظمته کان أحسم للشبهة وأنفي لها، فاختار السبعين الذين حضروا للميقات لتکون المسألة بمحضر منهم، فيعرفوا ما يرد من الجواب، فسئل عليه السلام علي ما نطق به القرآن، وأجيب بما يدل علي أن الرؤية لا يجوز عليه عز وجل.

ويقوي هذا الجواب أمور:

منها: قوله تعالي: (يَسْأَلُکَ أَهْلُ الْکِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ کِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَي أَکْبَرَ مِن ذَلِکَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ). [2] .



[ صفحه 112]



ومنها: قوله تعالي: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَي لَن نُّؤْمِنَ لَکَ حَتَّي نَرَي اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْکُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ). [3] .

ومنها: قوله تعالي: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَکْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِکُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُکَ) [4] فأضاف ذلک إلي السفهاء، وهذا يدل علي أنه کان بسببهم من حيث سألوا ما لا يجوز عليه تعالي.

ومنها: ذکر الجهرة في الرؤية وهي لا تليق إلا برؤية البصر دون العلم، وهذا يقوي أن الطلب لم يکن للعلم الضروري علي ما سنذکره في الجواب التالي لهذا الکلام.

ومنها: قوله تعالي: (أَنظُرْ إِلَيْکَ) لأنا إذا حملنا الآية علي طلب الرؤية لقومه، أمکن أن يکون قوله أنظر إليک علي حقيقته، وإذا حملنا الآية علي العلم الضروري احتيج إلي حذف في الکلام، فيصير تقديره أرني أنظر إلي الآيات التي عندها أعرفک ضرورة.

ويمکن في هذا الوجه الأخير خاصة أن يقال: إذا کان المذهب الصحيح عندکم أن النظر في الحقيقة غير الرؤية، فکيف يکون قوله أنظر إليک علي حقيقته، في جواب من حمل الآية علي طلب الرؤية لقومه، فإن قلتم: لا يمتنع أن يکونوا إنما التمسوا الرؤية التي يکون معها النظر والتحديق إلي الجهة فسأل علي حسب ما التمسوا، قيل لکم: هذا ينقض قولکم في هذا الجواب بين سؤال الرؤية وبين سؤال جميع ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد، وما يقتضي الجسمية بأن تقول: الشک في الرؤية لا يمنع من صحة معرفة السمع، والشک في جميع ما ذکر يمنع من ذلک، لأن الشک الذي لا يمنع من معرفة السمع إنما هو في الرؤية التي يکون معها نظر ولا يقتضي التشبيه.



[ صفحه 113]



فإن قلتم يحمل ذکر النظر علي أن المراد به نفس الرؤية علي سبيل المجاز، لأن عادة العرب أن يسموا الشئ باسم طريقه وما قاربه وما داناه، قيل لکم فکأنکم قد عدلتم عن مجاز إلي مجاز، فلا قوة في هذا الوجه، والوجوه التي ذکرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولي، وليس لأحد أن يقول: لو کان موسي (ع) إنما سأل الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلي نفسه فيقول أرني أنظر إليک، ولا کان الجواب أيضا مختصا به في قوله: لن تراني، وذلک أنه غير ممتنع وقوع الإضافة علي هذا الوجه، مع أن المسألة کانت من أجل الغير إذا کان هناک دلالة تؤمن من اللبس، فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع إليه: أسألک أن تفعل بي کذا وکذا وتجيبني إلي کذا وکذا، ويحسن أن يقول المشفوع إليه: قد أجبتک وشفعتک وما جري مجري هذه الألفاظ. وإنما حسن هذا لأن للسائل في المسألة غرضا، وإن رجعت إلي الغير لتحققه بها وتکلفه کتکلفه إذا اختصه.

فإن قيل: کيف يسأل الرؤية لقومه مع علمه باستحالتها، ولئن جاز ذلک ليجوز أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من کونه جسما وما أشبهه متي شکوا فيه.

قلنا: إنما صحت المسألة في الرؤية ولم تصح فيما سألت عنه، لأن مع الشک في جواز الرؤية التي لا يقتضي کونه جسما يمکن معرفة السمع، وإنه تعالي حکيم صادق في أخباره، فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالي استحالة ما شکوا في جوازه، ومع الشک في کونه جسما لا يصح معرفة السمع فلا ينتفع بجوابه ولا يثمر علما.

وقد قال بعض من تکلم في هذه الآية: قد کان جايز أن يسأل موسي (ع) لقومه ما يعلم استحالته وإن کان دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متي کان المعلوم أن في ذلک صلاحا للمکلفين في الدين، وأن ورود الجواب يکون لطفا لهم في النظر في الأدلة وإصابة الحق منها، غير أن من أجاب بذلک شرط أن يبين النبي (ع) أنه عالم باستحالة ما سأل فيه، وأن غرضه في السؤال أن يرد الجواب فيکون لطفا.



[ صفحه 114]



وجواب آخر في الآية: وهو أن يکون موسي عليه السلام إنما سأل ربه تعالي أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي يضطر عندها إلي المعرفة، فتزول عنه الخواطر ومنازعة الشکوک والشبهات، ويستغني عن الاستدلال، فتخف المحنة. عنه بذلک، کما سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالي أن يريه کيف يحيي الموتي طلبا لتخفيف المحنة، وإن کان قد عرف ذلک قبل أن يراه. والسؤال وإن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم کما تفيد الادراک بالبصر.

قال الشاعر: رأيت الله إذا سمي نزارا - واسکنهم بمکة قاطنينا واحتمال الرؤية للعلم أظهر من أن يدل عليه لاشتهاره ووضوحه.

فقال الله تعالي لن تراني أي لم تعلمني علي هذا الوجه الذي التمسته، ثم أکد ذلک بأن أظهر في الجبل من الآيات والعجائب ما دل به علي أن المعرفة الضرورية في الدنيا مع التکليف وبيانه لا يجوز، فإن الحکمة تمنع منها، والوجه الأول أولي لما ذکرناه متقدما من الوجوه، لأن موسي (ع) لا يخلو من أن يکون شاکا في أن المعرفة الضرورية لا يصح حصولها في الدنيا أو غير شاک، فإن کان شاکا فالشک فيما يرجع إلي أصول الديانات وقواعد التکليف لا يجوز علي الأنبياء (ع)، لا سيما وقد يجوز أن يعلم ذلک علي حقيقته بعض أمتهم فيزيد عليهم في المعرفة، وهذا أبلغ في التنفير عنهم من کل شئ يمنع منهم، وإن کان موسي عليه السلام عالما بذلک وغير شاک فيه، فلا وجه لسؤاله إلا أن يقال إنه سأل لقومه، فيعود إلي معني الجواب الأول.

فقد حکي جواب ثالث في هذه الآية عن بعض من تکلم في تأويلها من أهل التوجيه، وهو أنه قال: يجوز أن يکون موسي عليه السلام في وقته مسألته ذلک کان شاکا في جواز الرؤية عليه تعالي، فسأل عن ذلک ليعلم هل يجوز عليه أم لا، قال: وليس شکه في ذلک بمانع أن يعرف الله تعالي بصفاته،



[ صفحه 115]



بل يجري مجري شکه في جواز الرؤية علي بعض ما لا يري من الأعراض في أنه غير مخل بما يحتاج إليه في معرفته تعالي، قال ولا يمتنع أن يکون غلطه في ذلک ذنبا صغيرا وتکون التوبة الواقعة منه لأجله.

وهذا الجواب يبعد من جهة أن الشک في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها وإن کان لا يمتنع من معرفته بصفاته، فإن الشک في ذلک لا يجوز علي الأنبياء عليهم السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلک علي حقيقته، فيکون النبي (ع) شاکا فيه وأمته عارفون به مع رجوعهم في المعارف بالله تعالي، وما يجوز عليه تعالي وما لا يجوز، وهذا يزيد في التنفير علي کل ما يوجب تنزيه الأنبياء عليهم السلام عنه.

فإن قيل: فعن أي شئ کانت توبة موسي عليه السلام علي الجوابين المتقدمين؟.

قلنا: أما من ذهب إلي أن المسألة کانت لقومه، فإنه يقول إنما تاب لأنه أقدم علي أن يسأل عن لسان قومه يؤذن له وليس للأنبياء عليهم السلام ذلک، لأنه لا يؤمن من أن يکون الصلاح في المنع منه، فيکون ترک إجابتهم منفرا عنهم. وليس تجري مسألتهم علي سبيل الاستسرار، وبغير حضور قومهم يجري مجري ما ذکرناه لأنه ليس يجوز أن يسألوا مستسرين ما لم يؤذن لهم فيه، لأن منعهم منه لا يقتضي تنفيرا.

ومن ذهب إلي أنه سأل المعرفة الضرورية يقول أنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التکليف. وفي الناس من قال إنه تاب من حيث ذکر في الحال ذنبا صغيرا مقدما.

والذي يجب أن يقال في تلفظه بذکر التوبة إنه وقع علي سبيل الانقطاع إلي الله تعالي والرجوع إليه والتقرب منه وإن لم يکن هناک ذنب معروف. وقد يجوز أن يکون أيضا الغرض في ذلک مضافا إلي ما ذکرناه من الاستکانة والخضوع والعبادة وتعليمنا وتفهيمنا علي ما نستعمله وندعو به عند نزول الشدائد وظهور الأهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصة علي التوبة



[ صفحه 116]



مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالي، فإن الأنبياء (ع) وإن لم يقع منهم القبائح فقد يقع من غيرهم، ويحتاج من وقع ذلک منه إلي التوبة والاستغفار والاستقالة وهذا بين بحمد الله ومنه.


پاورقي

[1] الأعراف 143.

[2] النساء 153.

[3] البقرة 55.

[4] الأعراف 155.