بازگشت

تنزيه الأنبياء کافة عن الصغائر و الکبائر


(واعلم) أن جميع ما تنزه الأنبياء عليهم السلام عنه، ونمنع من وقوعه منهم من يستند إلي دلالة العلم المعجز إما بنفسه أو بواسطة، وتفسير هذه الجملة، أن العلم المعجز إذا کان واقعا موقع التصديق لمدعي النبوة والرسالة، وجاريا مجري قوله تعالي له: صدقت في أنک رسولي ومؤد عني.

فلا بد من أن يکون هذا المعجز مانعا من کذبه علي الله سبحانه في ما يؤديه عنه، لأنه تعالي لا يجوز أن يصدق الکذاب، لأن تصديق الکذاب قبيح. يقول: إن الصغيرة يسقط عقابها بغير موازنة، فکأنهم معترفون بأنه لا يقع منهم ما يستحقون به الذم والعقاب.

وهذه موافقة للشيعة في المعني، لأن الشيعة إنما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث کان کل شئ منها يستحق به فاعله الذم والعقاب، لأن الاحباط باطل عندهم، وإذا بطل الاحباط فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، وإذا کان استحقاق الذم والعقاب منفيا عن الأنبياء عليهم السلام وجب أن تنتفي عنهم ساير الذنوب، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلقا بالاحباط، فإذا بطل الاحباط فلا بد من الاتفاق علي أن شيئا من المعاصي لا يقع من الأنبياء (ع) من حيث يلزمهم استحقاق الذم والعقاب، لکنه يجوز أن نتکلم في هذه المسألة علي سبيل التقدير ونفرض أن الأمر في الصغائر والکبائر علي ما تقوله المعتزلة، ومتي فرضنا ذلک لم نجوز أيضا عليهم الصغائر لما سنذکره ونبينه إنشاء الله تعالي.



[ صفحه 18]



کما قلنا إن الکذب قبيح، فأما الکذب في غير ما يؤديه عن الله وسائر الکبائر فإنما دل المعجز علي نفيها، من حيث کان دالا علي وجوب إتباع الرسول وتصديقه فيما يؤديه، وقبوله منه، لأن الغرض في بعثة الأنبياء عليهم السلام، تصديقهم بالأعلام، المعجز هو أن يمتثل ما يأتون به، فما قدح في الامتثال والقبول وأثر فيهما، يجب أن يمنع المعجز منه، فلهذا قلنا: إنه يدل علي نفي الکذب والکبائر عنهم في غير ما يؤدونه بواسطة، وفي الأول يدل بنفسه، فإن قيل: لم يبق إلا أن تدلوا علي أن تجويز الکبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والامتثال، قلنا: لا شبهة في أن من نجوز عليه کبائر المعاصي ولا نأمن منه الإقدام علي الذنوب، لا تکون أنفسنا ساکنة إلي قبول قوله أو استماع وعظه کسکونها إلي من لا نجوز عليه شيئا من ذلک، وهذا هو معني قولنا إن وقوع الکبائر منفر عن القبول، والمرجع فيما ينفر وما لا ينفر إلي العادات واعتبار ما تقتضيه، وليس ذلک مما يستخرج بالأدلة والقياس، ومن رجع إلي العادة علم ما ذکرناه، وأنه من أقوي ما ينفر عن قبول القول، فإن حظ الکبائر في هذا الباب لم يزد علي حد السخف والمجون والخلاعة ولم ينقص منه.

فإن قيل: أو ليس قد جوز کثير من الناس علي الأنبياء عليهم السلام الکبائر مع أنهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرايع، وهذا ينقض قولکم إن الکبائر منفرة.

قلنا: هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه، لأنا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق، وأن لا يقع امتثال الأمر جملة.

وإنما أردنا ما فسرناه من أن سکون النفس إلي قبول قول من يجوز ذلک عليه لا يکون علي حد سکونها إلي من لا يجوز ذلک عليه، وإنا مع تجويز الکبائر نکون أبعد من قبول القول.

کما إنا مع الأمان من الکبائر نکون أقرب إلي قبول القول.

وقد يقرب من الشئ ما لا يحصل الشئ عنده، کما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده، ألا تري أن



[ صفحه 19]



عبوس الداعي للناس إلي طعامه وتضجره وتبرمه منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع مع ما ذکرناه الحضور والتناول، ولا يخرجه من أن يکون منفرا، وکذلک طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يرتفع الحضور مع ما ذکرناه ولا يخرجه من أن يکون مقربا، فدل علي أن المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذکرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

فإن قيل: فهذا يقتضي أن الکبائر لا تقع منهم في حال النبوة، فمن أين أنها لا تقع منهم قبل النبوة، وقد زال حکمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم، ولم يبق وجه يقتضي التنفير.

قلنا: الطريقة في الأمرين واحدة، لأنا نعلم أن من يجوز عليه الکفر والکبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما، لا يکون حال الواعظ لنا الداعي إلي الله تعالي ونحن نعرفه مقارفا للکبائر مرتکبا لعظيم الذنوب، وإن کان قد فارق جميع ذلک وتاب منه عندنا، وفي نفوسنا کحال من لم نعهد منه إلا النزاهة والطهارة، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السکون والنفور، ولهذا کثيرا ما يعير الناس.

وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسکن إلي قبول قوله، کسکوننا إلي من لا يجوز ذلک عليه في حال من الأحوال ولا علي وجه من الوجوه.

ولهذا من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وإن وقعت التوبة منها، ويجعلون ذلک عيبا ونقصا وقادحا ومؤثرا.

وليس إذا کان تجويز الکبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة، وناقصا عن رتبته في باب التنفير، وجب أن لا يکون فيه شئ من التنفير، لأن الشيئين قد يشترکان في التنفير، وإن کان أحدهما أقوي من صاحبه.

ألا تري أن کثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماک فيهما منفر لا محالة، وأن القليل من السخف الذي لا يقع إلا في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضا، وإن فارق الأول في قوة النفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الأول من أن يکون منفرا في نفسه.



[ صفحه 20]



فإن قيل: فمن أين قلتم إن الصغائر لا تجوز علي الأنبياء في حال النبوة وقبلها؟

قلنا: الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الکبائر في الحالتين عند التأمل، لأنا کما نعلم أن من يجوز کونه فاعلا لکبيرة متقدمة قد تاب منها واقلع عنها ولم يبق معه شئ من استحقاق عقابها وذمها، لا يکون سکوننا إليه کسکوننا إلي من لا يجوز عليه ذلک.

وکذلک نعلم أن من يجوز عليه الصغائر من الأنبياء (ع) أن يکون مقدما علي القبائح مرتکبا للمعاصي في حال نبوته أو قبلها، وإن وقعت مکفرة لا يکون سکوننا إليه کسکوننا إلي من نأمن منه کل القبائح ولا نجوز عليه فعل شئ منها.

فأما الاعتذار في تجويز الصغائر بأن العقاب والذم عنها ساقطان فليس بشئ، لأنه لا معتبر في باب التنفير بالذم والعقاب حتي يکون التنفير واقعا عليهما، ألا تري أن کثيرا من المباحات منفر ولا ذم عليه ولا عقاب وکثيرا من الخلق والهيئات منفر وهو خارج عن باب الذم.

علي أن هذا القول يوجب علي قائله تجويز الکبائر عليهم قبل البعثة، لأن التوبة والاقلاع قد أزالا الذم والعقاب اللذين يقف التنفير علي هذا القول عليهما.

فإن قيل: کيف تنفر الصغاير وإنما حظها تقليل الثواب وتنقيصه؟ لأنها بکونها صغائر قد خرجت من اقتضاء الذم والعقاب، ومعلوم أن قلة الثواب غير منفرة.

ألا ترون أن کثيرا من الأنبياء عليهم السلام قد يترکون کثيرا من النوافل مما لو فعلوه لاستحقوا کثيرا من الثواب، ولا يکون ذلک منفرا عنهم.

قلنا: إن الصغاير لم تکن منفرة من حيث قلة الثواب معها، بل إنما کانت کذلک من حيث کانت قبائح ومعاصي لله تعالي، وقد بينا أن الملجأ في باب المنفر إلي العادة والشاهد.

وقد دللنا علي أنهما يقتضيان بتنفير جميع الذنوب والقبائح علي الوجه الذي بيناه.



[ صفحه 21]



وبعد: فإن الصغاير في هذا الباب بخلاف الامتناع من النوافل، لأنها تنقص ثوابا مستحقا ثابتا. وترک النوافل ليس کذلک. وفرق واضح في العادة بين الانحطاط عن رتبة ثبتت واستحقت، وبين قوتها. وإن لا تکون حاصلة جملة.

ألا تري أن من ولي ولاية جليلة وارتقي إلي رتبة عالية، يؤثر في حالة العزل عن تلک الولاية والهبوط عن تلک الرتبة، ولا يکون حاله هذه کحاله لو لم ينل تلک الولاية ولا ارتقي إلي تلک الرتبة. وهذا الکلام الذي ذکرناه يبطل قول من جوز علي الأنبياء عليهم السلام الصغائر علي اختلاف مذاهبهم في تجويز ذلک عليهم علي سبيل العمد أو التأويل.

إلا أن أبا علي الجبائي ومن وافقه في قوله إن ذنوب الأنبياء لا تکون عمدا، وإنما يقدمون عليها تأويلا، ويمثل لذلک بقصة آدم (ع)، فإنه نهي عن جنس الشجرة دون عينها فتأول فظن أن النهي يتناول العين، فلم يقدم علي المعصية مع العلم بأنها معصية قد ناقض، فإنه إنما ذهب إلي هذا المذهب تنزيها للأنبياء عليهم السلام، واعتقادا أن تعمد المعصية مع العلم يوجب کبرها، فنزهه عن معصية وأضاف إليه معصيتين، لأنه مخطئ علي مذهبه في الإعراض عن تأمل مقتضي النهي، وهل يتناول الجنس أو العين لأن ذلک واجب عليه ومخطئ في التناول من الشجرة، وهاتان معصيتان.

وبعد: فإن تعمد المعصية ليس يجب أن يکون مقتضيا لکبرها لا محالة، لأنها لا يمتنع أن يکون مع التعمد لصاحبها من الخوف والوجل ما يوجب صغرها، ويمنع من کبرها.

وليس له أن يقول إن النظر فيما کلفه من الامتناع من الجنس أو النوع لم يکن واجبا عليه، لأن ذلک إن لم يکن واجبا عليه فکيف يکون مکلفا، وکيف يکون تناوله معصية؟ ولا بد علي هذا من أن يخطر الله تعالي بباله ما يقتضي وجوب النظر في ذلک عليه. وإذا وجب عليه النظر ولم يفعله فقد تعمد الإخلال بالواجب، ولا فرق في باب التنفير بين الإقدام علي المعصية والإخلال بالواجب. فإذا جاز عنده أن يتعمد الإخلال



[ صفحه 22]



بالواجب ولا يکون منه کبيرا، جاز أن يتعمد منه نفس التناول ولا يکون منه کبيرا. ف

أما ما حکيناه عن النظام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما، من أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام تقع منهم علي سبيل السهو والغفلة، وأنهم مع ذلک مؤاخذون بها، فليس بشئ، لأن السهو يزيل التکليف ويخرج الفعل من أن يکون ذنبا مؤاخذا به، ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم.

وحصول السهو في أنه مؤثر في ارتفاع التکليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والأدلة، فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء في صحة تکليفهم مع السهو، جاز أن يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التکليف مع فقد سائر ما ذکرناه وهذا واضح، فأما الطريق الذي به يعلم أن الأئمة عليهم السلام لا يجوز عليهم الکبائر في حال الإمامة، فهو أن الإمام إنما احتيج إليه لجهة معلومة، وهي أن يکون المکلفون عند وجوده أبعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب علي ما دللنا عليه في غير موضع، فلو جازت عليه الکبائر لکانت علة الحاجة إليه ثابتة. فيه. وموجبة وجود إمام يکون إماما له، والکلام في إمامته کالکلام فيه، وهذا يؤدي إلي وجود ما لا نهاية له من الأئمة وهو باطل أو الانتهاء إلي إمام معصوم وهو المطلوب.

ومما يدل أيضا علي أن الکبائر لا تجوز عليهم، أن قولهم قد ثبت أنه حجة في الشرع کقول الأنبياء (ع)، بل يجوز أن ينتهي الحال إلي أن الحق لا يعرف إلا من جهتهم، ولا يکون الطريق إليه إلا من أقوالهم علي ما بيناه في مواضع کثيرة، وإذا ثبت هذا جملة جروا مجري الأنبياء (ع) فيما يجوز عليهم وما لا يجوز، فإذا کنا قد بينا أن الکبائر والصغائر لا يجوزان علي الأنبياء (ع) قبل النبوة ولا بعدها، لما في ذلک من التنفير عن قبول أقوالهم، ولما في تنزيههم عن ذلک من السکون إليهم، فکذلک يجب أن يکون الأئمة



[ صفحه 23]



عليهم السلام منزهين عن الکبائر والصغائر قبل الإمامة وبعدها، لأن الحال واحدة. وإذ قد قدمنا ما أردنا تقديمه في هذا الباب فنحن نبتدئ بذکر الکلام علي ما تعلقوا به من جواز الکبائر علي الأنبياء (ع) من الکتاب.



[ صفحه 24]