تنزيه موسي عن العصيان بالقتل
(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في قتل موسي عليه السلام للقبطي وليس يخلو من أن يکون مستحقا للقتل أو غير مستحق، فإن کان مستحقا فلا معني لندمه (ع)، وقوله: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وقوله: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [1] وإن کان غير مستحق فهو عاص في قتله، وما بنا حاجة إلي أن نقول إن القتل لا يکون صغيرة لأنکم تنفون الصغير والکبير من المعاصي عنهم عليهم السلام.
(الجواب): قلنا مما يجاب به عن هذا السؤال إن موسي عليه السلام لم يعتمد القتل ولا أراده، وإنما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته علي رجل من عدوه بغي عليه وظلمه وقصد إلي قتله، فأراد موسي (ع) أن يخلصه من يده ويدفع عنه مکروهه، فأدي ذلک إلي القتل من غير قصد إليه، فکل ألم يقع علي سبيل المدافعة للظالم من غير أن يکون مقصودا فهو حسن غير قبيح ولا يستحق عليه العوض به، ولا فرق بين أن تکون المدافعة من الإنسان عن نفسه، وبين أن يکون عن غيره في هذا الباب والشرط في الأمرين أن يکون
[ صفحه 101]
الضرر غير مقصود، وأن يکون القصد کله إلي دفع المکروه والمنع من وقوع الضرر. فإن أدي ذلک إلي ضرر فهو غير قبيح.
ومن العجب، أن أبا علي الجبائي ذکر هذا الوجه في تفسيره، ثم نسب مع ذلک موسي (ع) إلي أنه فعل معصية صغيرة، ونسب معصيته إلي الشيطان. وقد قال في قوله (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي في هذا الفعل الذي لم تأمرني به، وندم علي ذلک وتاب إلي الله منه، فيا ليت شعري، ما الذي فعل بما لم يؤمر به، وهو إنما دافع الظالم ومانعه، ووقعت الوکزة منه علي وجه الممانعة من غير قصد.
ولا شبهة في أن الله تعالي أمره بدفع الظلم عن المظلوم، فکيف فعل ما لم يؤمر به، وکيف يتوب من فعل الواجب؟ وإذا کان يريد أن ينسب المعصية إليه فما الحاجة به إلي ذکر المدافعة والممانعة، وله أن يجعل الوکزة مقصودة علي وجه تکون المعصية به صغيرة.
فإن قيل: أليس لا بد أن يکون قاصدا إلي الوکزة وإن لم يکن مريدا بها إتلاف النفس؟.
قلنا: ليس يجب ما ظننته، وکيف يجعل الوکزة مقصودة، وقد بينا الکلام علي أن القصد کان إلي التخليص والمدافعة، ومن کان إنما يريد المدافعة لا يجوز أن يقصد إلي شئ من الضرر، وإنما وقعت الوکزة وهو لا يريدها، إنما أراد التخليص، فأدي ذلک إلي الوکزة والقتل.
ووجه آخر: وهو أن الله تعالي کان عرف موسي عليه السلام استحقاق القبطي للقتل بکفره، وندبه إلي تأخير قتله إلي حال التمکن، فلما رأي موسي (ع) منه الإقدام علي رجل من شيعته تعمد قتله تارکا لما ندب إليه من تأخير قتله. فأما قوله: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) ففيه وجهان:
[ صفحه 102]
أحدهما: أنه أراد أن تزيين قتلي له وترکي لما ندبت إليه من تأخيره وتفويتي ما استحقه عليه من الثواب من عمل الشيطان.
والوجه الآخر: أنه يريد أن عمل المقتول من عمل الشيطان، مفصحا بذلک عن خلافه لله تعالي واستحقاقه للقتل.
وأما قوله (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)، فعلي معني قول آدم عليه السلام (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَکُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [2] والمعني أحد وجهين: إما علي سبيل الانقطاع والرجوع إلي الله تعالي والاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه وإن لم يکن هناک ذنب، أو من حيث حرم نفسه الثواب المستحق بفعل الندب. وأما قوله (فَاغْفِرْ لِي) فإنما أراد به: فاقبل مني هذه القربة والطاعة والانقطاع.
ألا تري أن قبول الاستغفار والتوبة يسمي غفرانا؟ وإذا شارک هذا القبول غيره في معني استحقاق الثواب والمدح به جاز أن يسمي بذلک، ثم يقال لم ذهب إلي أن القتل منه (ع) کان صغيرة، ليس يخلو من أن يکون قتله متعمدا وهو مستحق للقتل، وقتله عمدا وهو غير مستحق، أو قتله خطأ، وهو مستحق.
والقسم الأول يقتضي أن لا يکون عاصيا جملة والثاني لا يجوز مثله علي النبي (ع)، لأن قتل النفس عمدا بغير استحقاق لو جاز أن يکون صغيرة علي بعض الوجوه جاز ذلک في الزنا وعظائم الذنوب، فإن ذکروا في الزنا وما أشبهه التنفير، فهو في القتل أعظم. وإن کان قتله خطأ غير عمد وهو مستحق أو غير مستحق، ففعله خارج من باب القبيح جملة. فما الحاجة إلي ذکر الصغيرة؟.
[ صفحه 103]
پاورقي
[1] القصص الآية 16.
[2] الأعراف الآية 23.