بازگشت

ايوب


في أن أيوب عذب امتحانا ولم يعاقب:

(مسألة): فإن قيل: فما قولکم في الأمراض والمحن التي لحقت أيوب (ع) أو ليس قد نطق القرآن بأنها کانت جزاء علي ذنب في قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) والعذاب لا يکون إلا جزاء کالعقاب والآلام الواقعة علي سبيل الامتحان لا تسمي عذابا ولا عقابا، أو ليس قد روي جميع المفسرين أن الله تعالي إنما عاقبه بذلک البلاء لترکه الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر وقصته مشهورة يطول شرحها؟.

(الجواب): قلنا: أما ظاهر القرآن فليس يدل علي أن أيوب عليه السلام عوقب بما نزل به من المضار، وليس في ظاهره شئ مما ظنه السائل، لأنه تعالي قال: (وَاذْکُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَي رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) [1] والنصب هو التعب، وفيه لغتان بفتح النون والصاد، وضم النون وتسکين الصاد. والتعب هو المضرة التي لا تختص بالعقاب، وقد تکون علي سبيل الامتحان والاختبار.

وأما العذاب فهو أيضا يجري مجري المضار التي يختص إطلاق ذکرها بجهة دون جهة. ولهذا يقال للظالم والمبتدئ بالظلم أنه معذب ومضر ومؤلم، وربما قيل معاقب علي



[ صفحه 91]



سبيل المجاز. وليست لفظة العذاب بجارية مجري لفظة العقاب، لأن لفظة العقاب يقتضي ظاهرها الجزاء لأنها من التعقيب والمعاقبة، ولفظة العذاب ليست کذلک.

فأما إضافته ذلک إلي الشيطان، وإنما ابتلاه به فله وجه صحيح، لأنه لم يضف المرض والسقم إلي الشيطان، وإنما أضاف إليه ما کان يستضر به من وسوسته ويتعب به من تذکيره له ما کان فيه من النعم والعافية والرخاء، ودعائه له إلي التضجر والتبرم مما هو عليه، ولأنه کان أيضا يوسوس إلي قومه بأن يستقذروه ويتجنبوه ويستخفوه لما کان عليه من الأمراض الشنيعة المنتنة، ويخرجوه من بينهم.

وکل هذا ضرر من جهة اللعين إبليس، وقد روي أن زوجته (ع) کانت تخدم الناس في منازلهم وتصير إليه بما يأکله ويشربه، وکان الشيطان لعنه الله تعالي يلقي إليهم أن داءه (ع) يعدي، ويحسن إليهم تجنب خدمة زوجته من حيث کانت تباشر قروحه وتمس جسده، وهذه مضار لا شبهة فيها.

وأما قوله تعالي في سورة الأنبياء: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَي رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَکَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِکْرَي لِلْعَابِدِينَ) [2] فلا ظاهر لها أيضا يقتضي ما ذکروه، لأن الضر هو الضرر الذي قد يکون محنة کما يکون عقوبة.

فأما ما روي في هذا الباب عن جملة (جهلة) المفسرين فمما لا يلتفت إلي مثله، لأن هؤلاء لا يزالون يضيفون إلي ربهم تعالي وإلي رسله عليهم السلام کل قبيح ومنکر، ويقذفونهم بکل عظيم.

وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمله المتأمل علم أنه موضوع الباطل مصنوع، لأنهم رووا أن الله تعالي سلط إبليس علي مال أيوب عليه السلام وغنمه وأهله، فلما أهلکهم ودمر عليهم ورأي من صبره (ع) وتماسکه، قال إبليس لربه يا رب إن أيوب قد علم أنک ستخلف عليه ماله وولده فسلطني علي جسده، فقال تعالي قد



[ صفحه 92]



سلطتک علي جسده کله إلا قلبه وبصره، قال فأتاه فنفخه من لدن قرنه علي قدمه فصار قرحة واحدة، فقذف علي کناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدواب علي جسده، إلي شرح طويل نصون کتابنا عن ذکر تفصيله، فمن يقبل عقله هذا الجهل والکفر کيف يوثق بروايته، ومن لا يعلم أن الله تعالي لا يسلط إبليس علي خلقه، وأن إبليس لا يقدر علي أن يقرح الأجساد ولا يفعل الأمراض کيف يعتمد روايته؟.

فأما هذه الأمراض العظيمة النازلة بأيوب عليه السلام فلم تکن إلا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها، وهذه سنة الله تعالي في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام.

فقد روي عن الرسول صلي الله عليه وآله أنه قال وقد سئل أي الناس أشد بلاء فقال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس فنظهر من صبره (ع) علي محنته وتماسکه ما صار به إلي الآن مثلا، حتي روي أنه کان في خلال ذلک کله صابرا شاکرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفايدة، وأنه ما سمعت له شکوي ولا تفوه بتضجر ولا تبرم، فعوضه الله تعالي مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن رد عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالي: (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ) وفي سورة ص (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ) [3] ثم مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره علي ما وردت به الرواية، بأن أرکض برجلک الأرض فظهرت له عين فاغتسل منها فتساقط ما کان علي جسده من الداء.

قال الله تعالي: (ارْکُضْ بِرِجْلِکَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [4] والرکض هو التحريک ومنه رکضت الدابة.

فإن قيل، أفتصححون ما روي أن الجذام أصابه حتي تساقطت أعضاؤه؟.



[ صفحه 93]



قلنا: إن العمل المستقذرة التي ينفر من رآها وتوحشه کالبرص والجذام فلا يجوز شئ منها علي الأنبياء عليهم السلام لما تقدم ذکره في صدر هذا الکتاب، لأن النفور ليس بواقف علي الأمور القبيحة، بل قد يکون من الحسن والقبيح معا. وليس ينکر أن يکون أمراض أيوب عليه السلام وأوجاعه ومحنته في جسمه ثم في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغم والألم علي ما ينال المجذوم، وليس ننکر تزايد الألم فيه (عليه السلام)، وإنما ننکر ما اقتضي التنفير.

فإن قيل: أفتقولون أن الغرض مما ابتلي به أيوب عليه السلام کان الثواب أو العوض أو هما علي الاجتماع؟. وهل يجوز أن يکون ما في هذه الآلام من المصلحة واللطف حاصلا في غيرها مما ليس بألم أم تمنعون من ذلک؟.

قلنا: أما الآلام التي يفعلها الله تعالي لا علي سبيل العقوبة فليس يجوز أن يکون غرضه عز وجل فيها العوض من حيث کان قادرا علي أن يبتدي بمثل العوض، بل الغرض فيها المصلحة وما يؤدي إلي استحقاق الثواب.

فالعوض تابع والمصلحة أصل، وإنما يخرج بالعوض من أن يکون ظلما وبالغرض من أن يکون عبثا، فأما الألم، إذا کان فيه مصلحة ولطف، وهناک في المعلوم ما يقوم مقامه فيهما، إلا أنه ليس بألم. إما بأن يکون لذة أو ليس بألم ولا لذة، ففي الناس من ذهب إلي أن الألم لا يحسن في هذا الموضع، وإنما يحسن بحيث لا يقوم مقامه ما ليس بألم في المصلحة، والصحيح أنه حسن.

والله تعالي مخير في فعل أيهما شاء، والدليل علي صحة ما ذکرناه أنه لو قبح والحال هذه، لم يخل من أن يکون إنما قبح من حيث کان ظلما أو من حيث کان عبثا. ومعلوم أنه ليس بظلم، لأن العوض الزايد العظيم الذي يحصل عليه يخرجه من کونه ظلما. وليس أيضا بعبث لأن العبث هو ما لا غرض فيه، أو ما ليس فيه غرض مثله. وهذا الألم فيه



[ صفحه 94]



غرض عظيم جليل، وهو الذي تقدم بيانه.

ولو کان هذا الغرض غير کاف فيه ولا يخرجه من العبث لما أخرجه من ذلک إذا لم يکن هناک ما يقوم مقامه، وليس لهم أن يقولوا إنه إنما قبح وصار عبثا من حيث کان هناک ما يغني عنه، لأن ذلک يؤدي إلي أن کل فعلين ألمين کانا أو لذتين، أو ليسا بألمين ولا لذتين، أو أفعال تساوت في وجه المصلحة يقبح فعل کل واحد منهما، لأن العلة التي ادعيت حاصلة.

وليس له أن يقول إن الألم إنما يقبح إذا کان فيه من المصلحة، مثل ما في فعل هو لذة من حيث کان يغني عنه ما ليس بألم، وذلک أن العوض الذي في مقابلته يخرجه من کونه ضررا ويدخله في أن يکون نفعا، ويجريه علي أقل الأحوال مجري ما ليس بضرر، فقد عاد الأمر إلي أن الألم بالعوض قد ساوي ما ليس بألم وحصل فيه من الغرض المودي إلي المصلحة مثل ما فيه، فيجب أن يکون مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء.

فإن قيل: ما أنکرتم أيکون الفرق بين الأمرين إن اللذة قد يحسن أن يفعل بمجرد کونها لذة، ولا يفتقر في حسن فعلها إلي أمر زايد، والألم ليس کذلک، فإنه لا يحسن أن يکون مجردا ولا بد من أمر زايد يجعله حسنا.

قلنا: هذا فرق بين الأمرين في غير الموضع الذي جمعنا بينهما فيه، لأن غرضنا إنما کان في التسوية بين الألم واللذة إذا کان کل واحد منهما مثل في صاحبه من المصلحة، وأن يحکم بصحة التخيير في الاستصلاح بکل واحد منهما، وإن کنا لا ننکر أن بينهما فرقان من حيث کان أحدهما نفعا يجوز الابتداء به واستحقاق الشکر عليه، والآخر ليس کذلک، إلا أن هذا الوجه وأن لم يکن في الألم فليس يقتضي قبحه، ووجوب فعل اللذة.

ألا تري أن اللذة قد يساويها في المصلحة فعل ما ليس بألم ولا لذة، فيکون المکلف تعالي مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء، وإن کان يجوز ويحسن أن يفعل اللذة بمجردها من غير عوض زايد، ولا يحسن ذلک الفعل الآخر الذي جعلناه في مقابلتها متي تجرد، وإنما يحسن لغرض زايد ولم يخرجهما اختلافهما في هذا الوجه من تساويهما فيما ذکرناه من الحکم. وإذا کانت اللذة قد تساوي



[ صفحه 95]



في الحکم الذي ذکرناه من التخيير في الاستصلاح ما ليس بلذة، وبينا أن العوض قد أخرج الألم من کونه ضررا، وجعله بمنزلة ما ليس بألم، فقد بان صحة ما ذکرناه لأن التخيير بين اللذة وما ليس بلذة ولا ألم، إذا حسن متي اجتمعا في المصلحة. فکذلک يحسن التخيير بين اللذة وما جري مجري ما ليس بألم ولا ضرر من الألم الذي يقابله المنافع، وليس بعد هذا إلا قول من يوجب فعل اللذة لکونها نفعا، وهذا مذهب ظاهر البطلان لا حاجة بنا إلي الکلام عليه من هذا الموضوع:

فإن قيل: ما أنکرتم ما يکون الاستصلاح بالألم إذا کان هناک ما يستصلح به، وليس بألم يجري في القبيح والعبث مجري من بذل المال لمن يحتمل عنه ضرب المقارع، ولا غرض له إلا إيصال المال في أن ذلک عبث قبيح؟.

قلنا: أما قبح ما ذکرته فالوجه فيه غير ما ظننته من أن هناک ما يقوم مقامه في الغرض، لأنا قد بينا أن ذلک لو کان هو وجه القبح لکان کل فعل فيه غرض يقوم غيره فيه مقامه عبثا وقبيحا، وقد علمنا خلاف ذلک.

وإنما قبح بذل المال لمن يحتمل الضرب، والغرض إيصال المال إليه من حيث حسن أن يبتدئ بدفع المال الذي هو الغرض من غير تکلف الضرب، فصار عبثا وقبيحا من هذا الوجه وليس يمکن مثل ذلک في الألم إذا قابله ما ليس بألم لأن ما فيه من العوض لا يمکن الابتداء به.



[ صفحه 96]




پاورقي

[1] ص الآية 41.

[2] الآية (83 - 84) من سورة الأنبياء.

[3] ص الآية 43.

[4] ص الآية 42.