بازگشت

تنزيه يوسف عن العزم علي المعصية


فإن قيل: فأي فائدة علي هذا التأويل في قوله تعالي: (لَوْلا أَن رَّأَي بُرْهَانَ رَبِّهِ) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟.

قلنا: يجوز أن يکون لما هم بدفعها وضربها، أراه الله تعالي برهانا علي أنه إن أقدم علي من هم به أهلکه أهلها وقتلوه، أو أنها تدعي عليه المراودة علي القبيح، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر الله تعالي أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمکروه، أو ظن القبيح به أو اعتقاده فيه.

فإن قيل: هذا الجواب يقضي لفظة (لولا) يتقدمها في ترتيب



[ صفحه 76]



الکلام، ويکون التقدير لولا أن رأي برهان ربه لهم بضربها، وتقدم جواب (لولا) قبيح، أو يقتضي أن يکون (لولا) بغير جواب.

قلنا: أما جواب (لولا) فجائز مستعمل، وسنذکر ذلک فيما نستأنفه من الکلام عند الجواب المختص بذلک، ونحن غير مفتقرين إليه في جوابنا هذا، لأن العزم علي الضرب والهم به قد وقع، إلا أنه انصرف عنه بالبرهان الذي رآه، ويکون تقدير الکلام وتلخيصه: ولقد همت به وهم بدفعها لولا أن رأي برهان ربه لفعل ذلک.

فالجواب المتعلق بلولا محذوف في الکلام، کما يحذف الجواب في قوله تعالي: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْکُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)، معناها: ولولا فضل الله عليکم ورحمته، وأن الله رؤوف رحيم لهلکتم، ومثله (کَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ - لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [1] معناها لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا ولم تحرصوا علي حطامها.

وقال امرؤ القيس: فلو أنها نفس تموت سوية - ولکنها نفس تساقط أنفسا أراد فلو أنها نفس تموت سوية لتقضت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا علي أن الکلام يقتضيه ويتعلق به. علي أن من حمل هذه الآية علي الوجه الذي لا يليق بنبي الله، وأضاف العزم علي المعصية إليه، لا بد له من تقدير جواب محذوف.

ويکون التقدير علي تأويله: ولقد همت بالزني وهم بمثله، لولا أن رأي برهان ربه لفعله.

فإن قيل: متي علقتم العزم في الآية والهم بالضرب أو الدفع کان ذلک مخالفا للظاهر.



[ صفحه 77]



قلنا: ليس الأمر علي ما ظنه هذا السائل، لأن الهم في هذه الآية متعلق بما لا يصح أن يتعلق به العزم والإرادة علي الحقيقة، لأنه تعالي قال: (ولقد همت به وهم بها) فتعلق الهم في ظاهر الکلام بذواتهما، والذات الموجودة الباقية لا يصح أن تراد ويعزم عليها، فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به مما يرجع إليهما ويختصان به ورجوع الضرب والدفع إليهما کرجوع رکوب الفاحشة فلا ظاهر للکلام يقتضي خلاف ما ذکرناه، ألا تري أن القائل إذا قال: قد هممت بفلان فظاهر الکلام يقتضي تعلق عزمه وهمه إلي أمر يرجع إلي فلان، وليس بعض الأفعال بذلک أولي من بعض، فقد يجوز أن يريد أنه هم بقصده أو بإکرامه أو بإهانته أو غير ذلک من ضروب الأفعال، علي أنه لو کان للکلام ظاهر يقتضي خلاف ما ذکرناه، وإن کنا قد بينا أن الأمر بخلاف ذلک لجاز أن نعدل عنه ونحمله علي خلاف الظاهر، للدليل العقلي الدال علي تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن القبائح.

فإن قيل: الکلام في قوله تعالي: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) خرج مخرجا واحدا. فلم جعلتم همها به متعلقا بالقبح؟ وهمه بها متعلقا بالضرب والدفع علي ما ذکرتم؟

قلنا: أما الظاهر، فلا يدل الأمر الذي تعلق به الهم والعزم منهما جميعا، وإنما أثبتنا همها به متعلقا بالقبيح لشهادة الکتاب، والآثار بذلک.

وهي ممن يجوز عليها فعل القبيح، ولم يؤمن دليل ذلک من جوازه عليها کما أمن ذلک فيه (ع)، والموضع إلي يشهد بذلک من الکتاب قوله تعالي: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [2] وقوله تعالي: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) [3] وقوله تعالي حاکيا عنها (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن



[ صفحه 78]



نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [4] وفي موضع آخر: (قَالَتْ فَذَلِکُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ). [5] والآثار واردة بإطباق مفسري القرآن ومتأوليه، علي أنها همت بالمعصية والفاحشة، وأما هو عليه السلام فقد تقدم من الأدلة العقلية ما يدل علي أنه لا يجوز أن يفعل القبيح ولا يعزم عليه.

وقد استقصينا ذلک في صدر هذا الکتاب.

فأما ما يدل من القرآن، علي أنه عليه السلام ما هم بالفاحشة ولا عزم عليها فمواضع کثيرة منها قوله تعالي: (کَذَلِکَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء) [6] وقوله تعالي (ذَلِکَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [7] ولو کان الأمر کما قال الجهال من جلوسه منها مجلس الخائن وانتهائه إلي حل السراويل وحوشي من ذلک، لم يکن السوء والفحشاء منصرفين عنه، ولکان خائنا بالغيب، وقوله تعالي حاکيا عنها: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) [8] .

وفي موضع آخر: (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وقول العزيز لما رأي القميص قد من دبر (إِنَّهُ مِن کَيْدِکُنَّ إِنَّ کَيْدَکُنَّ عَظِيمٌ) [9] فنسب الکيد إلي المرأة دونه، وقوله تعالي حاکيا عن زوجها لما وقف علي أن الذنب منها وبراءة يوسف (ع) منه: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِکِ إِنَّکِ کُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) [10] وعلي مذهبهم الفاسد أن کل واحد منهما مخطئ فيجب أن يستغفر فلم اختصت بالاستغفار دونه، وقوله تعالي حاکيا عنه: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي کَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَکُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ - فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ



[ صفحه 79]



فَصَرَفَ عَنْهُ کَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [11] فالاستجابة تؤذن ببراءته من کل سوء، وتنبئ أنه لو فعل ما ذکروه لکان قد يصرف عنه کيدهن.

وقوله تعالي: (قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) [12] والعزم علي المعصية من أکبر السوء، وقوله تعالي حاکيا عن الملک: (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا کَلَّمَهُ قَالَ إِنَّکَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِکِينٌ أَمِينٌ) [13] ولا يقال ذلک فيمن فعل ما أدعوه عليه.

فإن قيل: فأي معني لقول يوسف: (وَمَا أُبَرِّيءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ). [14] .

قلنا: إنما أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم علي المعصية، وهو لا يبرئ نفسه مما لا تعري منه طباع البشر. وفي ذلک جواب آخر اعتمده أبو علي الجبائي واختاره، وإن کان قد سبق إليه جماعة من أهل التأويل وذکروه، وهو أن هذا الکلام الذي هو وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إنما هو من کلام المرأة لا من کلام يوسف عليه السلام.

واستشهدوا علي صحة هذا التأويل بأنه منسوق علي الکلام المحکي عن المرأة بلا شک. ألا تري أنه تعالي قال: (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [15] أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ - ذَلِکَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي کَيْدَ الْخَائِنِينَ - وَمَا أُبَرِّيءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [16] فنسق الکلام علي کلام المرأة وعلي هذا التأويل يکون التبرؤ من الخيانة الذي هو ذلک لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ من کلام المرأة لا من کلام يوسف (ع) ويکون المکني عنه في قولها (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) هو



[ صفحه 80]



يوسف (ع) دون زوجها، لأن زوجها قد خانته في الحقيقة بالغيب، وإنما أرادت أني لم أخن يوسف (ع) وهو غائب في السجن، ولم أقل فيه لما سئلت عنه وعن قصتي معه إلا الحق، ومن جعل ذلک من کلام يوسف (ع) جعله محمولا علي إني لم أخن العزيز في زوجته بالغيب، وهذا الجواب کأنه أشبه بالظاهر، لأن الکلام معه لا ينقطع عن اتساقه وانتظامه.

فإن قيل: فأي معني لسجنه إذا کان عند القوم متبرئا من المعصية متنزها عن الخيانة.

قلنا: قد قيل إن العلة في ذلک الستر علي المرأة والتمويه والکتمان لأمرها حتي لا تفتضح وينکشف أمرها لکل أحد، والذي يشهد بذلک قوله تعالي: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّي حِينٍ) [17] .

وجواب آخر في الآية علي أن الهم فيها هو العزم، وهو أن يحمل الکلام علي التقديم والتأخير، ويکون تلخيصه ولقد همت به ولولا أن رأي برهان ربه لهم بها ويجري ذلک مجري قولهم: قد کنت هلکت لولا أن تدارکتک، وقتلت لولا أني قد خلصتک.

والمعني لولا تدارکي لهلکت ولولا تخليصي لقتلت، وإن لم يکن وقع في هلاک ولا قتل.

قال الشاعر:



ولا يدعني قومي صريخا لحرة

لئن کنت مقتولا ويسلم عامر



وقال الآخر: فلا يدعني قومي ليوم کريهة - لئن لم اعجل طعنه أو اعجل فقدم جواب لئن في البيتين جميعا.

وقد استبعد قوم تقديم جواب لولا عليها، وقالوا لو جاز ذلک لجاز قولهم، قام زيد لولا عمرو، وقصدتک لولا بکر.

وقد بينا بما أوردناه من الأمثلة والشواهد جواز تقديم جواب لولا، وأن القائل قد يقول قد کنت قمت لولا کذا وکذا، وقد کنت قصدتک لولا أن



[ صفحه 81]



صدني فلان، وإن لم يقع قيام ولا قصد. وهذا هو الذي يشبه الآية دون ما ذکروه من المثال. وبعد، فإن في الکلام شرطا وهو قوله تعالي: (لَوْلا أَن رَّأَي بُرْهَانَ رَبِّهِ)، فکيف يحمل علي الإطلاق مع حصول الشرط؟ فليس لهم أن يجعلوا جواب لولا محذوفا، لأن جعل جوابها موجودا أولي. وليس تقديم جواب لولا بأبعد من حذفه جملة من الکلام. وإذا جاز عندهم الحذف لئلا يلزم تقديم الجواب جاز لغيرهم تقديم الجواب حتي لئن لا يلزم الحذف.

فإن قيل: فما البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام حتي انصرف لأجله عن المعصية، وهل يصح أن يکون البرهان ما روي من أن الله تعالي أراه صورة أبيه يعقوب (ع) عاضا علي إصبعه متوعدا له علي مقاربة المعصية، أو يکون ما روي من أن الملائکة نادته بالنهي والزجر في الحال فانزجر.

قلنا: ليس يجوز أن يکون البرهان الذي رآه فانزجر به عن المعصية ما ظنه العامة من الأمرين اللذين ذکرناهما، لأن ذلک يفضي إلي الإلجاء وينافي التکليف ويضاد المحنة، ولو کان الأمر علي ما ظنوه لما کان يوسف عليه السلام يستحق بتنزيهه عما دعته إليه المرأة من المعصية مدحا ولا ثوابا، وهذا من أقبح القول فيه (ع)، لأن الله تعالي قد مدحه بالامتناع عن المعصية وأثني عليه بذلک فقال تعالي: (کَذَلِکَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)، فأما البرهان، فيحتمل أن يکون لطفا لطف الله تعالي به في تلک الحال أو قبلها، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزه عنها، وهو الذي يقتضي کونه معصوما لأن العصمة هي ما اختير (ما اختار) عنده من الألطاف، التنزه عن القيح والامتناع من فعله.

ويجوز أن يکون معني الرؤية ههنا بمعني العلم، کما يجوز أن يکون بمعني الادراک، لأن کلا الوجهين يحتمله القول.



[ صفحه 82]



وذکر آخرون: إن البرهان ههنا إنما هو دلالة الله تعالي ليوسف (ع) علي تحريم ذلک الفعل، وعلي أن من فعله استحق العقاب لأن ذلک أيضا صارف عن الفعل ومقو لدواعي الامتناع منه وهذا أيضا جايز.


پاورقي

[1] التکاثر 5 - 6.

[2] يوسف الآية 30.

[3] يوسف الآية 23.

[4] يوسف الآية 51.

[5] يوسف الآية 32.

[6] يوسف 24.

[7] يوسف 52.

[8] يوسف 32.

[9] يوسف 28.

[10] يوسف 29.

[11] يوسف 33 - 34.

[12] يوسف 51.

[13] يوسف 54.

[14] يوسف 53.

[15] حصحص الحق: بأن بعد کتمانه.

[16] يوسف الآية 51 - 53.

[17] يوسف الآية 35.