بازگشت

تنزيه يوسف عن الصبر علي الاستعباد


(مسألة): فإن قيل: کيف صبر يوسف عليه السلام علي العبودية، ولم لم ينکرها ويبرأ من الرزق، وکيف يجوز علي النبي الصبر علي أن يستعبد ويسترق؟

(الجواب): قيل له: إن يوسف عليه السلام في تلک الحال لم يکن نبيا علي ما قاله کثير من الناس، ولما خاف علي نفسه القتل جاز أن يصبر علي الاسترقاق. ومن ذهب إلي هذا الوجه يتناول قوله تعالي: (وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ). [1] علي أن الوحي لم يکن في تلک الحال، بل کان في غيرها. ويصرف ذلک إلي الحال المستقبلة المجمع علي أنه کان فيها نبيا.

ووجه آخر: وهو أن الله تعالي لا يمتنع أن يکون أمره بکتمان أمره والصبر علي مشقة العبودية امتحانا وتشديدا في التکليف، کما امتحن أبويه إبراهيم وإسحق عليهما السلام، أحدهما بنمرود، والآخر بالذبح.



[ صفحه 73]



ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يکون قد خبرهم بأنه غير عبد، وأنکر عليهم ما فعلوا من استرقاقه، إلا أنهم لم يسمعوا منه ولا أصغوا إلي قوله، وإن لم ينقل ذلک. فليس کل ما جري في تلک الأزمان قد اتصل بنا.

ووجه آخر: وهو أن قوما قالوا أنه خاف القتل، فکتم أمر نبوته وصبر علي العبودية.

وهذا جواب فاسد لأن النبي (ع) لا يجوز أن يکتم ما أرسل به خوفا من القتل، لأنه يعلم أن الله تعالي لم يبعثه للأداء إلا وهو عاصم له من القتل حتي يقع الأداء وتسمع الدعوة، وإلا لکان ذلک نقضا للغرض.

(مسألة): فإن قيل: فما تأويل قوله تعالي حاکيا عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَي بُرْهَانَ رَبِّهِ کَذَلِکَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). [2] .

(الجواب): إن الهم في اللغة ينقسم إلي وجوه: منها العزم علي الفعل کقوله تعالي: (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْکُمْ أَيْدِيَهُمْ فَکَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنکُمْ) [3] أي أرادوا ذلک وعزموا عليه.

قال الشاعر:



هممت ولم أفعل وکدت وليتني

ترکت علي عثمان تبکي حلائله



ومثله قول الخنساء:



وفضل مرداسا علي الناس حلمه

وإن کل هم همه فهو فاعله



ومثله قول حاتم الطائي: ولله صلعوک يساور همه - ويمضي علي الأيام والدهر مقدما ومن وجوه الهم، خطور الشئ بالبال وإن لم يقع العزم عليه.

قال الله



[ صفحه 74]



تعالي: (إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنکُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا) [4] وإنما أراد تعالي أن الفشل خطر ببالهم، ولو کان الهم في هذا المکان عزما، لما کان الله تعالي ولا هما لأنه تعالي يقول: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَي فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [5] وإرادة المعصية، والعزم عليها معصية.

وقد تجاوز ذلک قوم حتي قالوا إن العزم علي الکبيرة کبيرة وعلي الصغيرة صغيرة وعلي الکفر کفر.

ولا يجوز أن يکون الله تعالي ولي من عزم علي الفرار عن نصرة نبيه صلي الله عليه وآله وإسلامه إلي السوء، ومما يشهد أيضا بذلک قول کعب بن زهير:

فکم فيهم من سيد متوسع - ومن فاعل للخير إن هم أو عزم ففرق کما تري بين الهم والعزم.

وظاهر التفرقة قد يقتضي اختلاف المعني.

ومن وجوه الهم أن يستعمل بمعني المقاربة، فيقولون هم بکذا وکذا أي کاد أن يفعله.

قال ذو الرمة: أقول لمسعود بجرعاء مالک - وقد هم دمعي أن يلج أوائله والدمع لا يجوز عليه العزم، وإنما أراد أنه کاد وقرب.

وقال أبو الأسود الدؤلي:



وکنت متي تهمم يمينک مرة

لتفعل خيرا تقتفيها شمالکا



وعلي هذا خرج قوله تعالي جدارا يريد أن ينقض أي يکاد.

قال الحارثي:



يريد الرمح صدر أبي براء

ويرغب عن دماء بني عقيل





[ صفحه 75]



ومن وجوه الهم الشهوة وميل الطباع، لأن الانسان قد يقول فيما يشتهيه ويميل طبعه إليه: ليس هذا من همي وهذا أهم الأشياء إلي. والتجوز باستعمال الهمة مکان الشهوة ظاهر في اللغة.

وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري قال: أما همها فکان أخبث الهم، وأما همه (ع) فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء. فإذا کانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة علي ما ذکرناه نفينا عن نبي الله ما لا يليق به وهو العزم علي القبيح، وأجزنا باقي الوجوه لأن کل واحد منها يليق بحاله.

فإن قيل: فهل يسوغ حمل الهم في الآية علي العزم والإرادة؟ ويکون مع ذلک لها وجه صحيح يليق بالنبي (ع)؟.

قلنا: نعم، متي حملنا الهم ههنا علي العزم، جاز أن نعلقه بغير القبيح ويجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه، کما يقول القائل: قد کنت هممت بفلان، أي بأن أوقع به ضربا أو مکروها.


پاورقي

[1] يوسف الآية 15.

[2] يوسف الآية 24.

[3] المائدة الآية 11.

[4] آل عمران 122.

[5] الأنفال الآية 16.