تنزيه يعقوب عن ايقاع التحاسد بين بنيه
(مسألة) فإن قيل: فما معني تفضيل يعقوب عليه السلام ليوسف (ع) علي إخوته في البر والتقريب والمحبة، حتي أوقع ذلک التحاسد بينهم وبينه وأفضي إلي الحال المکروهة التي نطق بها القرآن، حتي قالوا علي ما حکاه الله تعالي عنهم: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَي أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [1] فنسبوه إلي الضلال والخطأ. وليس لکم أن تقولوا إن يعقوب (ع) لم يعلم بذلک من حالهم قبل أن يکون منه التفضيل ليوسف (ع). لأن ذلک لا بد من أن يکون معلوما منه من حيث کان في طباع البشر من التنافس والتحاسد.
(الجواب): قيل ليس فيما نطق به القرآن ما يدل علي أن يعقوب عليه السلام فضله بشئ من فعله وواقع من جهته، لأن المحبة التي هي ميل الطباع ليست مما يکتسبه الإنسان ويختاره، وإنما ذلک موقوف علي فعل الله تعالي فيه.
ولهذا ربما يکون للرجل عدة أولاد فيحب أحدهم دون غيره، وربما يکون المحبوب دونهم في الجمال والکمال.
وقد قال الله تعالي:
[ صفحه 67]
(وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ) [2] وإنما أراد ما بيناه من ميل النفس الذي لا يمکن الإنسان أن يعدل فيه بين نسائه، لأن ما عدا ذلک من البر والعطاء والتقريب وما أشبهه، يستطيع الإنسان أن يعدل بين النساء.
فإن قيل فکأنکم قد نفيتم عن يعقوب عليه السلام القبيح والاستفساد وأضفتموهما إلي الله تعالي فما الجواب عن المسألة من هذا الوجه؟.
قلنا: عنها جوابان: أحدهما لا يمتنع أن يکون الله تعالي علم أن أخوة يوسف عليه السلام سيکون بينهم ذلک التحاسد والفعل القبيح علي کل حال، وإن لم يفضل يوسف (ع) عليهم في محبة أبيه له، وإنما يکون ذلک استفسادا إذا وقع عنده الفساد وارتفع عند ارتفاعه، ولم يکن تمکينا.
والجواب الآخر أن يکون ذلک جاريا مجري التمکين (الامتحان) والتکليف الشاق، لأن هؤلاء الأخوة متي امتنعوا من حسد أخيهم والبغي عليه والإضرار به وهو غير مفضل عليهم ولا مقدم ولا يستحقونه من الثواب ما يستحقونه إذا امتنعوا من ذلک مع التقديم والتفضيل، فأراد الله تعالي منهم أن يمتنعوا علي هذا الوجه الشاق.
وإذا کان مکلفا علي هذا الوجه فلا استفساد في تمييله بطباع أبيهم إلي محبة يوسف (ع)، لأن بذلک ينتظم هذا التکليف ويجري هذا الباب مجري خلق إبليس، مع علمه تعالي بضلال من ضل عند خلقه، ممن لو لم يخلقه لم يکن ضالا. ومجري زيادة الشهوة فيمن يعلم منه تعالي هذه الزيادة أنه يفعل قبيحا لولاها لم يفعله.
ووجه آخر في الجواب عن أصل المسألة: وهو أنه يجوز أن يکون يعقوب کان مفضلا ليوسف (ع) في العطاء والتقريب والترحيب والبر الذي يصل إليه من جهته، وليس ذلک بقبيح لأنه لا يمتنع أن يکون يعقوب (ع) لم يعلم أن ذلک يؤدي إلي ما أدي إليه، ويجوز أن يکون رأي من سيرة أخوته
[ صفحه 68]
وسدادهم وجميل ظاهرهم ما غلب في ظنه معهم أنهم لا يحسدونه، وإن فضله عليهم. فإن الحسد وإن کان کثيرا ما يکون في الطباع، فإن کثيرا من الناس يتنزهون عنه ويتجنبونه، ويظهر من أحوالهم أمارات يظن معها بهم ما ذکرناه. وليس التفضيل لبعض الأولاد علي بعض في العطاء محاباة، لأن المحاباة هي المفاعلة من الحباء، ومعناها أن تحبو غيرک ليحبوک. وهذا خارج عن معني التفضيل بالبر، الذي لا يقصد به إذا ما ذکرناه.
فأما قولهم: إن أبانا لفي ضلال مبين. فلم يريدوا به الضلال عن الدين. وإنما أرادوا به الذهاب عن التسوية بينهم في العطية، لأنهم رأوا أن ذلک أصوب في تدبيرهم. وأصل الضلال هو العدول. وکل من عدل عن شئ وذهب عنه فقد ضل. ويجوز أيضا أن يريدوا بذلک الضلال عن الدين، لأنهم خبروا عن اعتقادهم. ويجوز أن يعتقدوا في الصواب الخطأ.
فإن قيل: کيف يجوز أن يقع من إخوة يوسف (ع) هذا الخطأ العظيم والفعل القبيح وقد کانوا أنبياء في الحال؟ فإن قلتم لم يکونوا أنبياء في تلک الحال، قيل لکم وأي منفعة في ذلک لکم وأنتم تذهبون إلي أن الأنبياء عليهم السلام لا يوقعون القبائح قبل النبوة ولا بعدها؟.
قلنا: لم تقم الحجة بأن إخوة يوسف (ع) الذين فعلوا به ما فعلوه کانوا أنبياء في حال من الأحوال، وإذا لم تقم بذلک حجة جاز علي هؤلاء الأخوة من فعل القبيح ما يجوز علي کل مکلف لم تقم حجة بعصمته، وليس لأحد أن يقول کيف تدفعون نبوتهم.
والظاهر أن الأسباط من بني يعقوب کانوا أنبياء، لأنه لا يمتنع أن يکون الأسباط الذين کانوا أنبياء غير هؤلاء الأخوة الذين فعلوا بيوسف (ع) ما قصه الله تعالي عنهم. وليس في ظاهر الکتاب أن جميع إخوة يوسف (ع) وما ساير أسباط يعقوب (ع) کادوا يوسف (ع) بما حکاه الله تعالي من الکيد.
وقد قيل إن هؤلاء الأخوة في تلک الأحوال لم يکونوا بلغوا الحلم ولا توجه إليهم التکليف. وقد يقع ممن
[ صفحه 69]
قارب البلوغ من الغلمان مثل هذه الأفعال، وقد يلزمهم بعض العقاب واللوم والذم، فإن ثبت هذا الوجه سقطت المسألة أيضا، مع تسليم أن هؤلاء الأخوة کانوا أنبياء في المستقبل.
پاورقي
[1] يوسف الآية 8.
[2] النساء الآية 129.