بازگشت

تنزيه ابراهيم عن المجادلة


(مسألة): فإن قيل فما معني قوله تعالي: (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَي قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ) [1] فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، وکيف يحضر إبراهيم عليه السلام للملائکة الطعام وهو يعلم أنها لا تطعم؟ ومن أي شئ کانت مخافته منهم لما امتنعوا من تناول الطعام؟ وکيف يجوز أن يجادل ربه فيما قضاه وأمر به؟.

(الجواب): قلنا أما وجه تقديم الطعام فلأنه (ع) لم يعلم في الحال أنهم ملائکة لأنهم کانوا في صورة البشر فظنهم أضيافا، وکان من عادته (ع) أقراء الضيف، فدعاهم إلي الطعام ليستأنسوا به وينبسطوا، فلما امتنعوا أنکر ذلک منهم، وظن أن الامتناع لسوء يريدونه، حتي خبروه بأنهم رسل الله تعالي أنفذهم لإهلاک قوم لوط عليه السلام. [2] .



[ صفحه 60]



وأما الحنيذ: فهو المشوي بالأحجار. وقيل إن الحنيذ الذي يقطر ماؤه ودسمه. وقد قيل إن الحنيذ هو النضيج. وأنشد أبو العباس:



إذا ما اختبطنا اللحم للطالب القري

حنذناه حتي يمکن اللحم آکله



فإن قيل: فکيف صدقهم في دعواهم أنهم ملائکة؟.

قلنا: لا بد من أن يقترن بهذه الدعوي علم يقتضي التصديق. ويقال إنهم دعوا الله بإحياء العجل الذي کان ذبحه وشواه لهم، فصار حيا يرعي.

وأما قوله: يجادلنا، فقيل معناه يجادل رسلنا، وعلق المجادلة به تعالي من حيث کانت لرسله، وإنما جادلهم مستفهما منهم هل العذاب نازل علي سبيل الاستيصال أو علي سبيل التخويف؟ وهل هو عام للقوم أو خاص؟ وعن طريق نجاة لوط (ع) وأهله المؤمنين بما لحق القوم؟ وسمي ذلک جدالا لما کانت فيه من المراجعة والاستثبات علي سبيل المجاز، وقيل إن معني قوله يجادلنا في قوم لوط (ع): يسائلنا أن تؤخر عذابهم رجاء أن يؤمنوا أو أن يستأنفوا الصلاح. فخبره الله تعالي بأن المصلحة في إهلاکهم، وأن کلمة العذاب قد حقت عليهم، وسمي المسألة جدالا علي سبيل المجاز.

فإن قيل: فما معني قوله تعالي: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَي يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [3] فأتي بفعل مستقبل بعد لما، ومن شأن ما يأتي بعدها أن يکون ماضيا.

قلنا عن ذلک جوابان. أحدهما أن في الکلام محذوفا، والمعني: أقبل يجادلنا أو جعل يجادلنا، وإنما حذفه لدلالة الکلام عليه واقتضائه له.



[ صفحه 61]



والجواب الآخر: أن لفظه (لما) يطلب في جوابها الماضي، کطلب لفظه (إن) في جوابها المستقبل. فلما استحسنوا أن يأتوا في جواب (إن) بالماضي، ومعناه الاستقبال، لدلالة (أن) عليه، استحسنوا أن يأتوا بعد (لما) الاستقبال تعويلا علي أن اللفظة تدل علي مضيه. فکما قالوا إن زرتني زرتک، وهم يريدون إن تزرني أزرک. قالوا ولما تزرني أزرک، وهم يريدون لما زرتني زرتک.

وأنشدوا في دخول الماضي في جواب إن قول الشاعر.



إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

مني وما سمعوا من صالح دفنوا



وفي قول الآخر في دخول المستقبل جوابا بالماضي:



وميعاد قوم إن أرادوا لقاءنا

بجمع مني إن کان للناس مجمع



يروا خارجيا لم ير الناس مثله

تشير لهم عين إليه وإصبع



ويمکن في هذا جواب آخر، هو أن يجعل (يجادلنا) حالا لا جوابا للفظة لما. ويکون المعني أن البشري جاءته في حال الجدال للرسل.

فإن قيل: فأين جواب (لما) علي هذا الوجه؟.

قلنا يمکن أن نقدره في أحد موضعين: إما في قوله تعالي: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) ويکون التقدير: قلنا إن إبراهيم کذلک. والموضع الآخر أن يکون أراد تعالي (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَي يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) ناديناه يا إبراهيم. فجواب (لما) هو ناديناه، وإن کان محذوفا ودل عليه لفظة النداء. وکل هذا جايز.


پاورقي

[1] هود الآية 69.

[2] قصص الأنبياء ص - 112 - 113 ط 3 - دار إحياء التراث العربي - بيروت.

[3] هود الآية 74.