تنزيه ابراهيم عن الشک في قدرة الله
(مسألة): فإن قال قائل: فما معني قوله تعالي حاکيا عن إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي کَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَي قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَي وَلَـکِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [1] .
[ صفحه 50]
أو ليس هذا الکلام والطلب من إبراهيم (ع) يدلان علي أنه لم يکن موقنا بأن الله تعالي يحيي الموتي؟ وکيف يکون نبيا من يشک في ذلک؟ أو ليس قد روي المفسرون أن إبراهيم (ع) مر بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر، ودواب البر والبحر تأکل منه، فأخطر الشيطان بباله استبعاد رجوع ذلک حيا مؤلفا، مع تفرق أجزائه وانقسام أعضائه في بطون حيوان البر والبحر؟ فشک فسأل الله تعالي ما تضمنته الآية، وروي أبو هريرة عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنه قال: نحن أحق بالشک من إبراهيم (ع).
(الجواب): قيل له ليس في الآية دلالة علي شک إبراهيم في إحياء الموتي، وقد يجوز أن يکون (ع) إنما سأل الله تعالي ذلک ليعلمه علي وجه يبعد عن الشبهة، ولا يعترض فيه شک ولا ارتياب.
وإن کان من قبل قد علمه علي وجه للشبهة فيه مجال، ونحن نعلم أن في مشاهدة ما شاهده إبراهيم من کون الطير حيا ثم تفرقه وتقطعه وتباين أجزائه ثم رجوعه حيا کما کان في الحال الأولي، من الوضوح وقوة العلم ونفي الشبهة ما ليس لغيره من وجوه الاستدلالات، وللنبي (ع) أن يسأل ربه تخفيف محنته وتسهيل تکليفه.
والذي يبين صحة ما ذکرناه قوله تعالي: (أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَي وَلَـکِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). فقد أجاب إبراهيم بمعني جوابنا بعينه، لأنه بين أنه لم يسأل ذلک لشک فيه وفقد إيمان به، وإنما أراد الطمأنينة، وهي ما أشرنا إليه من سکون النفس وانتفاء الخواطر والوساوس والبعد عن اعتراض الشبهة.
ووجه آخر: وهو أنه قد قيل إن الله تعالي لما بشر إبراهيم عليه السلام بخلته واصطفائه واجتبائه، سأل الله تعالي أن يريه إحياء الموتي ليطمئن قلبه بالخلة، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون صحة ما تضمنه الوحي إلا بالاستدلال.
فسأل إحياء الموتي لهذا الوجه لا للشک في قدرة الله تعالي علي ذلک.
[ صفحه 51]
ووجه آخر: وهو أن نمرود بن کنعان [2] لما قال لإبراهيم عليه السلام: إنک تزعم أن ربک يحيي الموتي، وأنه قد قال: أرسلک إلي لتدعوني إلي عبادته، فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن کان علي ذلک قادرا، فإن لم يفعل قتلتک.
قال إبراهيم (ع): (رَبِّ أَرِنِي کَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَي) فيکون معني قوله: (وَلَـکِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) علي هذا الوجه، أي لآمن من القتل ويطمئن قلبي بزوال الروع والخوف. وهذا الوجه الذي ذکرناه وإن لم يکن مرويا علي هذا الوجه فهو مجوز، وإن أجاز صلح أن يکون وجها في تأويل الآية مستأنفا متابعا.
ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يکون إبراهيم إنما سأل إحياء الموتي لقومه ليزول شکهم في ذلک وشبهتهم. ويجري مجري سؤال موسي (ع) الرؤية لقومه، ليصدر منه تعالي الجواب علي وجه يزيل منه شبهتهم في جواز الرؤية عليه تعالي.
ويکون قوله ليطمئن قلبي علي هذا الوجه، معناه أن نفسي تسکن إلي زوال شکهم وشبهتهم، أو ليطمئن قلبي إلي إجابتک إياي فيما أسألک فيه.
وکل هذا جائز، وليس في الظاهر ما يمنع منه، لأن قوله: (وَلَـکِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ما تعلق في ظاهر الآية بأمر لا يسوغ العدول عنه مع التمسک بالظاهر، وما تعلقت هذه الطمأنينة به غير مصرح بذکره، قلنا إن تعلقه بکل أمر يجوز أن يتعلق به.
فإن قيل: فما معني قوله تعالي أولم تؤمن؟ وهذا اللفظ استقبال. وعندکم أنه کان مؤمنا فيما مضي.
قلنا معني ذلک أو لم تکن قد آمنت؟ والعرب تأتي بهذا اللفظ، وإن کان في ظاهره الاستقبال، وتريد به الماضي.
فيقول أحدهم لصاحبه: أولم تعاهدني علي کذا وکذا، وتعاقدني علي أن لا تفعل کذا وکذا؟ وإنما يريد الماضي دون المستقبل.
[ صفحه 52]
فإن قيل: فما معني قوله تعالي: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْکَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَي کُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَکَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَکِيمٌ). [3] .
قلنا قد اختلف أهل العلم في معني قوله تعالي (فَصُرْهُنَّ إِلَيْکَ)، فقال قوم: معني قوله فصرهن: أدنهن وأملهن.
قال الشاعر في وصف الإبل:
تظل معقلات السوق خرصا - تصور أنوفها ريح الجنوب أراد أن ريح الجنوب تميل أنوفها وتعطفها.
وقال الطرماح: [4] .
عفايف أذيال أوان يصرها
هوي والهوي للعاشقين صؤر
ويقول القائل لغيره: صر وجهک إلي، أي أقبل به علي.
ومن حمل الآية علي هذا الوجه لا بد أن يقدر محذوفا في الکلام يدل عليه سياق اللفظ، ويکون تقدير الکلام: خذ أربعة من الطير فأملهن إليک ثم قطعهن ثم اجعل علي کل جبل منهن جزءا. وقال قوم إن معني صرهن أي قطعهن وفرقهن، واستشهدوا بقول توبة بن الحمير: [5] .
فلما جذبت الحبل لطت نسوعه
بأطراف عيدان شديد أسورها
فأدنت لي الأسباب حتي بلغتها
بنهضي وقد کاد ارتقائي يصورها
وقال الآخر:
يقولون أن الشام يقتل أهله
فمن لي أن لم آته بخلود
تغرب آبائي فهلا صراهم
من الموت أن لم يذهبوا وجدودي
[ صفحه 53]
أراد: قطعهم. والأصل صري يصري صريا، من قولهم يأت يصري في حوضه إذا استسقي ثم قطع، والأصل صري، فقدمت اللام وأخرت العين.
هذا قول الکوفيين، وأما البصريون فإنهم يقولون إن صار يصير، ويصور بمعني واحد، أي قطع. ويستشهدون بالأبيات التي تقدمت، وبقول الخنساء: فظلت الشم منها وهي تنصار وعلي هذا الوجه لا بد في الکلام من تقديم وتأخير، ويکون التقدير: فخذ أربعة من الطير إليک فصرهن أي قطعهن. فإليک من صلة خذلان التقطيع لا يعدي بإلي.
فإن قيل فما معني قوله تعالي: (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَکَ سَعْيًا) وهل أمره بدعائهن وهن أحياء أو أموات؟ وعلي کل حال فدعاؤهن قبيح، لأن أمر البهائم التي لا تعقل ولا تفهم قبيح. وکذلک أمرهن وهن أعضاء متفرقة أظهر في القبح.
قلنا لم يرد ذلک إلا حال الحياة دون التفرق والتمزق. فأراد بالدعاء الإشارة إلي تلک الطيور. فإن الانسان قد يشير إلي البهيمة بالمجئ أو الذهاب فتفهم عنه. ويجوز أن يسمي ذلک دعاء. إما علي الحقيقة أو علي المجاز.
وقد قال أبو جعفر الطبري أن ذلک ليس بأمر ولا دعاء، ولکنه عبارة عن تکوين الشئ ووجوده، کما قال تعالي في الذين مسخهم: (کُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [6] وإنما أخبر عن تکوينهم کذلک من غير أمر ولاء دعاء، فيکون المعني علي هذا التأويل.
ثم اجعل علي کل جبل منهن جزءا، فإن الله تعالي يؤلف تلک الأجزاء ويعيد الحياة فيها، فيأتينک سعيا، وهذا وجه قريب فإن قيل علي الوجه الأول: کيف يصح أن يدعوها وهي أحياء؟ وظاهر الآية يشهد بخلاف ذلک، لأنه تعالي قال: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَي کُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا).
وقال عقيب هذا الکلام من غير فصل: (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَکَ
[ صفحه 54]
سَعْيًا). فدل ذلک علي أن الدعاء توجه إليهن وهن أجزاء متفرقة. قلنا ليس الأمر علي ما ذکر في السؤال، لأن قوله: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَي کُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا) لا بد من تقدير محذوف بعده، وهو: (فإن الله يؤلفهن ويحييهن ثم ادعهن يأتينک سعيا).
ولا بد لمن حمل الدعاء لهن في حال التفرق وانتفاء الحياة من تقدير محذوف في الکلام عقيب قوله: (ثُمَّ ادْعُهُنَّ) لأنا نعلم أن تلک الأجزاء والأعضاء لا تأتي عقيب الدعاء بلا فصل، ولا بد من أن يقدر في الکلام عقيب قوله ثم ادعهن، فإن الله تعالي يؤلفهن ويحييهن فيأتينک سعيا.
فأما أبو مسلم الأصفهاني فإنه فرارا من هذا السؤال حمل الکلام علي وجه ظاهر الفساد. لأنه قال إن الله تعالي أمر إبراهيم (ع) بأن يأخذ أربعة من الطيور، ويجعل علي کل جبل طيرا، وعبر بالجزء عن الواحد من الأربعة، ثم أمره بأن يدعوهن وهن أحياء من غير إماتة تقدمت ولا تفرق من الأعضاء، ويمرنهن علي الاستجابة لدعائه، والمجئ إليه في کل وقت يدعوها فيه. ونبه ذلک علي أنه تعالي إذا أراد إحياء الموتي وحشرهم أتوه من الجهات کلها مستجيبين غير ممتنعين کما تأتي هذه الطيور بالتمرين والتعويد.
وهذا الجواب ليس بشئ لأن إبراهيم عليه السلام إنما سأل الله أن يريه کيف يحيي الموتي، وليس في مجئ الطيور وهن أحياء بالعادة والتمرين، دلالة علي ما سئل عنه ولا حجة فيه. وإنما يکون في ذلک بيانا لمسألته إذا کان علي الوجه الذي ذکرناه.
فإن قيل إذا کان إنما أمره بدعائهن بعد حال التأليف والحياة، فأي فايدة في الدعاء وهو قد علم لما رآها تتألف أعضاءها من بعد وتترکب أنها قد عادت إلي حال الحياة؟ فلا معني في الدعاء إلا أن يکون متناولا لها وهي متفرقة.
قلنا للدعاء فائدة بينة، لأنه لا يتحقق من بعد رجوع الحياة إلي الطيور وإن شاهدها متألفة، وإنما يتحقق ذلک بأن تسعي إليه وتقرب منه.
[ صفحه 55]
پاورقي
[1] البقرة الآية 260 أنظر قصص الأنبياء ص 96 و 97 الطبعة الثالثة - دار إحياء التراث العربي - بيروت.
[2] هو ابن کوش بن حام ضرب به المثل بالجبروت.
[3] البقرة الآية 260.
[4] الطرماح بن حکيم الطائي: من شعراء صدر الإسلام، اعتنق مذهب الخوارج وصار من کبار شعرائهم.
[5] من عشاق العرب المشهورين، اشتهر بحبه لليلي الأخيلية وقوله الشعر فيها.
[6] البقرة الآية 65 والأعراف الآية 166.