تقديم و ترجمة للمؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم علي سيدنا محمد خاتم المرسلين وعلي الأئمة المعصومين، وبارک علي آله ومن تبعهم علي دينه إلي يوم الدين.
وأما بعد.. فإن الله أنعم علي ذرية آدم بالبصيرة يهتدون بها إلي الحق لمن أراده، وهيأ لهم أسباب الهداية بعد کل ميل عنها، فبعث فيهم رسله أنوارا تسطع في سمائهم کلما حلت بهم ظلمة، وبث بينهم رسالاته سلسبيلا دائما کلما أصابهم قحط من العلم ينهلون منها ما شاؤوا برکة ورحمة ومغفرة منه إنه هو الغفور الرحيم.
ثم ختم ذلک بخاتم رسله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبکتابه الکريم ليتم به نعمته علي خلقه، وجعل فيهم ذرية محمد آل بيته المعصومين مصابيح الهدي ومفاتيح الخلاص يهدون بدين جدهم من ضل، ويقيلون بسنته من عثر أو زل، واختار بفضل حکمته ورعايته ممن سار علي دربهم من العلماء والمؤمنين نخبة صالحة تتواصل باستمرار من السلف إلي الخلف، تنفض غبار التآمر عن هذا الدين الحنيف ليظل مصانا مشرقا إلي يوم القيامة بإذنه تعالي إنه هو السميع المجيب. من هنا کانت الحاجة ملحة أن نلجأ دائما إلي المعين الذي لا ينضب
[ صفحه 6]
لنرفد منه سواقينا الجافة، أعني إلي صدر الاسلام وعصور نهضته، وما نحياه اليوم ومنذ مئات السنين من ظلمات دامسة أريد لديننا فيها الهلاک والدثور.
فبالرغم من الاعتداءات السافرة علي تراثنا وخزائن علومنا وتعمد إحراقها وإغراقها من جحافل الغزاة وتتار الماضي والحاضر، إلا أنه يظل سناها وهاجا يبهر الأبصار والألباب. ويحضرني هنا هذا البيت الذي يقول: قد تنکر العين ضوء الشمس من رمد وينکر الفم طعم الماء من سقم فإنکار البعض لتاريخنا لا يعني طمسه وزواله.
فکلما توغلنا في الماضي استوقفتنا أطواد شامخة لعلماء ومفکرين أجلاء حفروا في الذاکرة أسطرا لا يمکن أن تمحي.
فکانت معلقات ذهبية تباهت بها أجيالنا وتوارثتها عبر العصور حتي يومنا هذا.
ولو أردنا أن نسترسل في تعداد کنوزنا تلک لما وسعنا ذلک، لما تحويه من قلائد نفيسة.
وحسبنا أن نختار منها علما عالما أديبا شاعرا يغني بمفرده فقر مکتبات عصرنا الحاضر، ويزين صدرها فيکون بمثابة واسطة العقد لها، عنيت به علم الهدي ذي المجدين الشريف المرتضي علي بن الحسين.
لماذا؟ وکيف؟ نترک للقلم والقرطاس مجال التعريف به. اسمه ونسبه: - هو السيد الشريف أبو القاسم علي بن طاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسي بن محمد بن موسي بن إبراهيم بن موسي الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. لقب بالمرتضي ذي المجدين علم الهدي.
[ صفحه 7]
کان أوحد أهل زمانه علما وکلاما وحديثا وشعرا فکانت بذلک مثالا للثقافة الکاملة.
أما والده فيکني بأبي أحمد ويلقب ب الطاهر، الأجل، ذو المناقب، الأوحد. کان نقيب الطالبيين وعالمهم وزعيمهم، جمع إلي رياسة الدين زعامة الدنيا لعلو همته وسماحة نفسه وعظيم هيبته وجليل برکته. وکان قوي المنة شديد العصبة يتلاعب بالدول، ويتجرأ علي الأمور.
وأما والدته فهي فاطمة بنت الحسن الملقب بالناصر الصغير نقيب العلويين في بغداد وعالمهم وزاهدهم وشاعرهم. وقد ورد في کتاب بحر العلوم حول نسب الشريف المرتضي ما يلي: أما النسب فهو أقصر الشرفاء نسبا، وأعلاهم حسبا، وأکرمهم أما وأبا، وبينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام عشر وسائط من جهة الأم والأب معا، وبينه وبين الإمام موسي بن جعفر عليهما السلام خمسة آباء کرام.
ولادته ووفاته: ولد السيف الشريف المرتضي في رجب سنة 355 ه - 966 م في بغداد، وتوفي بها في الخامس والعشرين من ربيع الأول من سنة 436 ه - 1044 م، وسنه يومئذ ثمانون سنة وثمانية أشهر، ودفن في داره أولا ثم نقل إلي جوار جده الحسين عليه السلام، حيث دفن في مشهده المقدس مع أبيه وأخيه وقبورهم ظاهرة مشهورة. [1] .
سماته الخلقية وصفاته الخلقية: کان الشريف المرتضي رحمه الله ربع القامة نحيف الجسم أبيض اللون
[ صفحه 8]
حسن الصورة.
اشتهر بالبذل والسخاء والاغضاء عن الحساد والأعداء، بالرغم مما وصمه به هؤلاء من البخل وقلة الإنفاق. وخير دليل علي سخائه وبذله ما تعهد به مدرسته العلمية وتلامذته من إنفاق وبذل. وله في ذم الحرص والطمع قصائد ومقطوعات في ديوانه تذکر منها هذه الأبيات:
لا در در الحرص والطمع
ومذلة تأتيک من نجع
وإذا انتفعت بما ذللت به
فلأنت حقا غير منتفع
ومصارع الأحياء کلهم
في الدهر بين الري والشبع
وإذا علمت بفرقتي جدتي
فعلام فيما فاتني جزعي
وکان رحمه الله ميالا إلي الزهد في الدنيا راغبا عنها ذاما لها، داعيا إلي الاعتبار فيها، سالکا سبيل أجداده الکرام، والصحابة العظام، من جعلها مجازا للآخرة، ومزادا لدار القرار.
ويختصر ذلک بهذه الأبيات من ديوانه:
لا تقربن عضيهة
إن العضائه مخزيات
واجعل صلاحک سرمدا
فالباقيات الصالحات
في هذه الدنيا ومن
فيها لنا أبدا عظات
إما صروف مقبلا
ت أو صروف مدبرات
والذل موت للفتي
والعز في الدنيا حياة
والذخر في الدارين إما
طاعة أو مأثرات
إلا أنه مع زهده في الدنيا وتقشفه فيها کان ذا مقام سياسي في الدولة خطير، وذلک بفضل ما أوتي من أصالة الرأي ووقارة العلم والمال، مع عز العشيرة وکثرة الرجال.
وکان رحمه الله مشغوفا بالعلم منصرفا إليه بين دراسة وتدريس، محبا
[ صفحه 9]
لتلامذته وملازميه.
وقد اتخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة تضم طلاب الفقه والکلام والتفسير واللغة والشعر والعلوم کالفلک والحساب وغيره، حتي سميت دار العلم، وکان له فيها مجلس للمناظرات.
والملفت للنظر حسب ما روي المحققون أن مدرسته کانت جامعة إنسانية، اجتمع فيها کثير من طلاب العلم من مختلف المذاهب والملل دون تفريق بين ملة وملة ومذهب ومذهب.
وهذا يدل علي رحابة صدره وسعة أفقه وعمق نظرته الانسانية وترفعه عن العصبية والطائفية والمذهبية التي کان يعتبرها نابعة من الجهل وضيق الأفق. کما أنه - قدس الله سره - شغف بجمع الکتب وولع بإقتنائها، ويکفي ما ذکر أن خزانته ضمت ثمانين ألف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته علي ما حصره وأحصاه صديقه وتلميذه أبو القاسم التنوخي.
عصره ومعاصروه وأصحابه: عاش الشريف المرتضي في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجريين وهي فترة انکماش الدولة العباسية وضعفها ووهنها أيام سيطرة أمراء الإقليم علي حکم أقاليمهم وتولي بني بويه شؤون السلطة في بغداد.
وکان له بفضل ما أوتي من شرف العلم والنسب وما تحلي به من غزارة العلم وقوة الشخصية وعزة النفس ووفارة المال وجميل الخصال وسمو الرتبة وجليل المکانة أصدقاء کثر جلهم من أهل العلم والأدب والفضل والشرف، ويکفي أن نذکر بعض أساتذته وتلامذته ممن کانت لهم المراکز والرتب العلمية والدينية والدنيوية، إضافة إلي صلاته الوثيقة بالخلفاء والملوک والوزراء والأمراء والقادة، لنتبين المکانة العالية التي کان يتمتع بها رحمه الله.
ونذکر علي سبيل المثال:
[ صفحه 10]
من أساتذته ومشايخه:
- الشيخ المفيد العالم المتکلم المشهور، اشتهر بکثرة علمه. وهو محمد بن محمد بن عبد السلام العکبري البغدادي المکني بأبي عبد الله وابن المعلم.
- ابن نباتة: الشاعر المشهور وهو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد بن نباتة السعدي.
- المرزباني: وهو أبو عبد الله محمد بن عمران بن موسي بن عبيد الله المعروف بالمرزباني. کان راوية للأخبار والآداب والشعر.
- ابن جنيقا: وهو أبو القاسم بن عبد الله بن عثمان بن يحيي الدقاق المعروف بابن جنيقا. کان قاضيا محدثا ثقة مأمونا حسن الخلق.
- أبو عبد الله القمي: وهو الحسين بن علي بن الحسين بن بابويه، أخو الشيخ الصدوق، کان جليل القدر عظيم الشأن في الحديث. وقد وثقه أصحاب التراجم، وأخباره مشهورة في کتبهم.
من تلامذته:
- الطوسي: وهو أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، الفقيه الأصولي والمحدث الشهير.
- أبو يعلي الديلمي سالار: وهو محمد بن حمزة أو ابن عبد العزيز الطبرستاني. وکان ينوب عن أستاذه المرتضي في التدريس، وهو فقيه متکلم.
- أبو الصلاح الحلبي: وهو الشيخ تقي الدين بن النجم الحلبي خليفة المرتضي في البلاد الحلبية ومن کبار علماء الإمامية.
[ صفحه 11]
- ابن البراج: وهو أبو القاسم القاضي السعيد عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج.
- أبو الفتح الکراجکي: وهو الشيخ الإمام العلامة أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الکراجکي، عالم، فاضل، متکلم، فقيه، محدث، ثقة جليل القدر.
- عماد الدين ذو الفقار: وهو السيد الإمام عماد الدين ذو الفقار محمد بن معبد بن الحسن بن أبي جعفر الملقب بحميدان، أمير اليمامة بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن يوسف بن الأخيضر بن موسي الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. کان فقيها عالما متکلما ورعا.
- الدوريستي: هو أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباسي الرازي الدوريستي. من أکابر علماء الإمامية اشتهر في جميع الفنون.
من الخلفاء: الطائع لأمر الله، والقادر، وابنه القائم بأمر الله وأبو العباس محمد بن القائم بأمر الله.
من الملوک: بهاء الدولة البويهي وأبناؤه شرف الدولة، وسلطان الدولة، ورکن الدين جلال الدولة، وأبو کاليجار المرزبان.
من الوزراء: أبو غالب محمد بن خلف، وأبو علي الرخجي: وأبو علي الحسن بن حمد، وأبو سعيد بن عبد الرحيم، وأبو الفتح، وأبو الفرج محمد بن
[ صفحه 12]
جعفر بن فسانجس، وأبو طالب محمد بن أيوب بن سليمان البغدادي، وأبو منصور بهرام بن مافنة.
من النقباء: والده الشريف أبو أحمد الموسوي، وخاله الشريف أحمد بن الحسن الناصر، وأخوه الشريف أبو الحسن محمد الرضي، والشريف أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأبو الحسن الزينبي، وأبو الحسين بن الشبيه العلوي.
من الأمراء: أبو الغنائم محمد بن مزيد، وأبو علي أستاذ هرمز، وأبو منصور بويه بن بهاء الدولة، وأبو شجاع بکران بن بلفوارس، وعنبر الملکي، وعقيل غريب بن مقفي.
من العلماء والقضاة والأدباء: الشيخ أبو الحسن عبد الواحد بن عبد العزيز الشاهد، وسعد الأئمة أبو القاسم وابنه معتمد الحضرة أبو محمد، وأبو الحسين لبن الحاجب، وأبو إسحاق الصابي، وابن شجاع الصوفي، وأبو الحسين الاقساسي العلوي، وأبو الحسين البتي أحمد بن علي الکاتب، والقاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأبو الحسن السمسمي، والشاعر أبو بکر محمد بن عمر العنبري.
قيل في الشريف المرتضي الکثير في تعداد مزاياه وفضائله ومراتبه، ومما قيل فيه:
- في مرآة الجنان: إمام أئمة العراق بين الاختلاف والافتراق، إليه فزع علماؤنا، وأخذ عنه عظماؤنا، صاحب مدارسها وجامع شاردها وآنسها،
[ صفحه 13]
ممن سارت أخباره وعرفت بها أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، وتواليفه في أصول الدين، وتصانيفه في أحکام المسلمين مما يشهد أنه فرع تلک الأصول، ومن أهل ذلک البيت الجليل.
- في جامع الأصول قال ابن الأثير: إن مروج المائة الرابعة بقول فقهاء الشافعية هو أبو حامد أحمد بن طاهر الاسفرايني، وبقول علماء الحنفية أبو بکر محمد بن موسي الخوارزمي، وباعتقاد المالکية أبو محمد عبد الوهاب بن نصر، وبرواية الحنبلية هو أبو عبد الله الحسين ابن علي بن حامد، وبرواية علماء الإمامية هو الشريف المرتضي الموسوي.
- في تتمة يتيمة الدهر قال الثعالبي: قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلي المرتضي في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والکرم، وله شعر في نهاية الحسن.
تصانيفه: وقد بلغت تصانيفه ورسائله ومؤلفاته مئة وسبعة عشر مصنفا کما ورد في کتابه (رسائل الشريف المرتضي - المجموعة الأولي) المطبوعة في قم سنة 1405 ه. لاحظ الصفحات من 33 إلي 39.
وهکذا نجد الشريف المرتضي طيب الله ثراه، قد مخر عباب هذا البحر الزاخر المتلاطم الأمواج الدينية منها والأدبية والفکرية والسياسية والاجتماعية، فکان کالمارد تحدي العواصف والأعاصير ممتشقا ذهنا وقادا وقلبا کبيرا، وعلما غزيزا، وعزيمة لا تلين.
فکان بحق علما في حياته، وقدوة بعد مماته.
دار الأضواء ت في 20 / 9 / 1988 9 / صفر / 1409 ه
[ صفحه 15]
پاورقي
[1] جاء ذلک في ترجمة في کتاب رسائل الشريف المرتضي المجموعة الأولي - مطبعة سيد الشهداء - قم 1405 ه في الصفحة 39.