بازگشت

الامام والسلطة العباسية


کان القبض علي الإمام المهدي عليه السلام أحد الأهداف الکبري للدولة، حيث أنها تعلم ما في کيانها من ضعف وانحراف. وتعلم أن المهدي عليه السلام هو المذخور لرفع الظلم والجور عن الإنسانية، إذن وجوده يعتبر تهديداً لکيان الدولة العباسية الظالمة.

ولم تکن الدولة تعلم أنه سيتأخّر ظهوره، فإن من مميزات ظهور الإمام المهدي عليه السلام کونه محتمل الظهور في کلّ وقت، لکي يخافه کلّ ظالم ويخشاه کلّ منحرف.

وقد قامت السلطة العباسية بثلاث حملات للقبض عليه، إحداها قام بها المعتمد في الفترة المتأخرة عن وفاة الإمام العسکري عليه السلام والاُخريان قام بهما المعتضد الذي تولّي الحکم بعده.وأما الخلفاء المتأخرون فلم ينقل عنهم ذلک، ولعلّهم کانوا قد يئسوا من ذلک يأساً تاماً.

وقد انشغلت الدولة بحرب صاحب الزنج وغيره، ممّا أوجب انحراف السلطات عن أن تجرّد حملات اُخري للکبس والتفتيش عن الإمام، أثناء خلافة المعتمد، وهي التسعة عشر عاماً التي قضاها في الحکم بعد وفاة الإمام العسکري عليه السلام.

إلّا أن التجسس المستمر والرصد الدائم من قبل السلطات، کان قائماً علي قدم وساق، ومستمراً خلال ذلک الزمان، وکان يجابهه بأساليب السريّة والکتمان للمضاعفة التي کان السفيران الأوّلان يقومان بها في هذه الفترة الصعبة من الغيبة الصغري. بما في ذلک تحريم التصريح باسمه والدلالة علي مکانه. إلا لمن امتحن اللَّه قلبه للإيمان.

وفي خلال هذه الأعوام التسعة عشر، کان التجسّس قد أنتج شيئاً مهمّاً بالنسبة للدولة. وهو ثبوت فکرة السفارة لديها، بعد ثبوت وجود الإمام عليه السلام وأن هناک من يدّعي السفارة عن الإمام المهدي عليه السلام ويقبض المال بالوکالة عنه [1] إذن فهو موجود. ليس هذا فقط، بل يقود قواعده الشعبية ويقبض الأموال منهم. وهذه کانت من أعظم مهامّ المعتضد عند توليّه للخلافة أن يجدد الحملات للقبض علي الإمام المهدي عليه السلام.

انظر الي مقدار ما أتت به أخبار التجسس، انه يعلم بدار المهدي عليه السلام وهي دار أبيه وهولا يحاول أن يري المهدي عليه السلام أو أن يکلمه، وإنّما يأمر بقتله وحمل رأسه إليه، وبذلک يتحقّق الهدف الأعلي لکيان الدولة المتسلّط.

والخليفة لا يعيّن شخصاً أو اسماً معيناً. بل يغمض عن هذه الناحية لأنّه يريد أن يبقي هذا الأمر خفيّاً حتي علي هؤلاء القائمين بالعملية، ولا يهمّه بعد ذلک أن يقتلوا شخصاً غير المهدي ويأتوه برأسه. فحسبه أنه قام بالمحاولة.

ويتوخّي المعتضد من هذا الغموض أهدافاً:

الأوّل: عدم إثارة مسألة المهدي عليه السلام أمام هؤلاء الجلاوزة.

الثاني: عدم کشف مهمتهم الحقيقية أمامهم، محافظة علي سمعته وسمعة الدولة فإنّهم إن عرفوا أن المعتضد يکلّفهم القبض علي المهدي عليه السلام. أمکن تسرّب الخبر الي المجتمع، فيترتّب علي ذلک، ما لا يحمد للمعتضد عقباه.

الثالث: عدم کشف مهمتهم الحقيقية أمامهم للمحافظة علي سريّة المطلب، حتي عن خاصة رجال الدولة، وجهاز استخباراتها، فإن الأمر أهم وأدق من أن يعرفه الناس.

وبدأت الحملة کما أمر المعتضد، وتوجّه ثلاثة أشخاص الي سامراء، وبحثوا عن الدار، فوجدوها کما وصفها لهم المعتضد، ورأوا في الدهليز خادماً أسود وفي يده تکة ينسجها. فسألوه عن الدار ومَن فيها. فقال: صاحبها. قال رشيق الذي هو قائد حملة الاغتيال: فواللَّه ما التفت إلينا وقلّ اکتراثه بنا.

ثم إنّهم استمرّوا في مهمّتهم، فکبسوا الدار وتجسّسوا خلالها فوجدوا غرفة سريّة وعليها ستر جميل جديد.

ولم يکن في الدار أحد، فرفعوا الستر، فرأوا بيتاً کبيراً کأنه بحر فيه ماء. وفي أقصي البيت حصير يبدو کأنه علي الماء. وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة، قائم يصلي. وبقي مشتغلاً بصلاته متوجهاً الي ربّه لم يلتفت إليهم، کأنّه لم يرهم ولم يسمعهم.

فسبق أحد الرجلين اللذين کانا مع رشيق ليتخطّي البيت، فغرق في الماء، ومازال يضطرب حتّي أنقذه صاحباه وأخرجاه مغشياً عليه وبقي ساعة. ثم همّ الرجل الآخر أن يتخطّي البيت فغرق في الماء أيضاً. فأصابه ما أصاب صاحبه.

فبقي رشيق وحده وهو قائد الحملة، مبهوتاً واجماً، وآيس من تحقيق الغرض، وأراد أن يلطف من خاطر هذا المصلي ويزيل ما يکون قد علق بذهنه من هذه الحملة، فتوجّه إليه قائلاً: المعذرة الي اللَّه وإليک فواللَّه ما علمت کيف الخبر ولا إلي من أجي ء. وأنا تائب الي اللَّه. قال رشيق: فواللَّه ما التفت الي شي ء. وما انتقل عمّا کان فيه فهالنا ذلک، وانصرفنا عنه.

اُنظر الرعاية الإلهية وکيف انتصر المهدي عليه السلام علي هؤلاء الجلاوزة المنحرفين وکيف استطاع أن يؤثّر الرعب الذي هو کرامة له من اللَّه سبحانه وتعالي.

وحين آيس رشيق من بلوغ الغرض، وذاق صاحباه الغرق والعذاب، اضطرّ الي الانصياع للتحدّي واعترف بالعجز. إنه لم يتوقّع شيئاً ممّا رآه، فضلاً عن کل ما رآه، ولم يعلم إلا أن المعتضد أرسله الي شخص ما ليقبض عليه. إنّه يواجه الهول والتحدّي الصريح الأوّل في حياته، بشکل لا يجد حيلة، ولا يعرف إلي تذليله طريقاً.

إذن، فلصاحب هذا البيت شأن غير اعتيادي، شأن أعلي من القوي الاعتيادية التي يعرفها رشيق. والمعتضد إنّما أغمض له لاشک لسبب في نفسه.. إذ لعلّه يعرف شأن صاحب هذا البيت علي الإجمال. إنّه هو الذي أوقعه في هذا الهول والتحدي بالرغم من أن التحدي في واقعه متوجّه الي المعتضد نفسه أکثر ممّا هو متوجه الي رشيق.

فينبغي التخلّص من المسألة، وإلقاء المسؤولية کلّها علي کاهل المعتضد، والاعتذار من صاحب الدار، ذي الشأن المجهول الرهيب.

وصحب هؤلاء الجلاوزة هول في داخل قلوبهم، وتوجّهوا توّاً الي بغداد، ليحملوا هذا الخبر العجيب الرهيب الي المعتضد. وکان المعتضد ينتظرهم، وقد أمر الحجّاب والحرس علي أن يدخل هذا الوفد عليه في أي وقت کان،ليلاً أو نهاراً. فإن مهمتهم أعمق وأعقد من أن تحتمل التأجيل.

ودخل عليه الوفد وهو يحمل هولة بين جنبيه، ونقل له الحکاية کما وقعت. فقال: ويحکم لقيکم أحد قبلي جري منکم الي أحد سبب أو قول؟ فقالوا: لا. فقال: أنا نفيٌّ من جدّي - أي ليس من بني العباس - وحلف بأشد أيمان له، أنّه إذا بلغه أنهم أخبروا أحداً بهذا الخبر ليضربنّ أعناقهم. قال رشيق: فما جسرنا أن نحدّث به إلاّ بعد موت المعتضد.

إذن يعرف المعتضد ذلک جيّداً، ولکنّه يخاف منه علي حاشيته وأساس ملکه.

إنّ هؤلاء الثلاثة بالرغم من أنّه حاول الإغماض عليهم في کلامه، قد اطّلعوا علي الحقيقة وواجهوا الحق، حتي اضطرّ رشيق الي التنازل والتوبة. إلاّ أنه لا ينبغي أن يکون الناس الآخرون کرشيق عارفين بالحق أو منصاعين له ومن ثم نراه يحلف لهم بأغلظ الأيمان ويهدّدهم بالقتل، إن بلغه أنّهم أخبروا أحداً بذلک. فلم يجسروا أن يخبروا به إلّا بعد موته. فإنّ أيمانه وتهديده إنّما يکون رسمياً في حال حياته لا بعد موته.

وظنّ المعتضد، أن هذه الحملة، إنّما فشلت باعتبار قلّة العدد وباعتبار سرية التخطيط والتنفيذ، فلا أقل من احتمال نجاح الحملة لوکثر العدد وانکشف الغرض ولم يستطع أولم يرد أن يفهم أن هذا العقل الذي تحدّاه مرة واحدة، يمکنه أن يتحدّاه عشرات المرات، ولن تستطيع أي قوة في البشر أن تسيطر أو تقضي عليه.

ومن هنا جرّب حملةً أکبر، وبعث عدداً أکثر، وأتبعه بجيش کبير. فانظر الي هذا الجبن أمام فرد واحد، والفزع الذي تتّصف به الدولة تجاه هذا الأمر العظيم.

وينبغي في هذا الصدد أن نذکر الرواية بنصّها [2] قال الراوي:

ثم بعثوا عسکراً أکثر، فلمّا دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن فاجتمعوا علي بابه وحفظوه حتي لا يصعد ولا يخرج. وأميرهم - يعني قائد الحملة - قائم يصل [3] العسکر کلّهم. فخرج من السکة التي علي باب السرداب، ومرّ عليهم. فلما غاب، قال الأمير: انزلوا عليه. فقالوا: أليس هو الذي مرّ عليک؟ فقال: ما رأيته قال: ولم ترکتموه؟ قالوا:إنّا حسبنا أنّک تراه. إنّه يقرأ القرآن.

إنّ القرآن الکريم هو حلقة الوصل بين جميع الفئات الإسلامية، والعلامة الرئيسية لتمسّک الفرد بالإسلام، فالمهدي عليه السلام يريد أن يفهمهم ضمناً - لو کانوا يفهمون - حرمة الاعتداء عليه وقتله، باعتباره مؤمناً بالقرآن الذي تعترف السلطات بقدسيته في ظاهر سلوکها.

ومن طريف حال هؤلاء الجلاوزة، انهم لم يبادروا للقبض علي الإمام عليه السلام، بل وقفوا علي باب السرداب وعن اقتحامه. إنّهم يخافون مواجهة المهدي عليه السلام ويحتاجون الي مدد أکبر وعدد أکثر. فهم منتظرون لوصول المدد من بغداد الي سامراء.

وفي هذه الأثناء استغلّ الإمام المهدي عليه السلام أروع لحظة من لحظات ذلک الحصار، لحظة اقترنت بالدقة في التوقيت والضبط في التدبير والعناية الإلهية التي ترعاه. إنّها لحظة غفلة قائد الحملة عن الترصّد والانتباه. لحظة لم يأتِ فيها المدد، ولم تصدر الأوامر بعد باقتحام المکان.

وهنا خرج إمامهم من السرداب ومرّ علي قائد الحملة ولم يشاهده، وأختفي حيث لا يمکن أن يصل إليه هذا الجيش. وهکذا تظافرت هذه الاُمور لکي تنتج النتيجة الکبري ولکي ينفذ المخطط الإلهي العظيم لإنقاذ مستقبل البشرية بالإمام المهدي عليه السلام من الظلم والجور [4] .


پاورقي

[1] إعلام الوري: 421.

[2] بحار الأنوار: 13:118.

[3] في المصدر: يصلي وهو خطأ مطبعي لا محالة.

[4] تاريخ الإسلام، السيد منذر الحکيم: 147:4.