المستقبل.. تأملات في حشد من المؤشرات
نحاول أن نلج هذا الفصل من خلال النبوءة القرآنية في قوله تعالي: (وَلَقَدْ کَتَبْنَافِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّکْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
ومن خلال هذه النبوءة نتصور اتجاه البشرية الي يوم موعود ووراثة الانسانالصالح الارض وفاعلية القانون الاجتماعي الذي حدّدته آية قرآنية أخري وهي قولهتعالي: (اءِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ).
ونحن نعرف جميعاً أن البشارة والنبوءة تتمحور حول ظهور الانسان المنقذ فيفصل تاريخي تئن فيه الارض من ويلات الظلم والعذاب، فيرفع راية العدالة ويملاالارض خيراً بعد أن يطهرها من الشرور.
کما نعرف أيضاً أن هناک دائرتين واسعتين تکادان تتقاسمان العالم هما الدائرةالغربية بما في ذلک الولايات المتحدة الامريکية والکيان اليهودي السياسي الغاصب فيفلسطين ودائرة العالم الاسلامي والتي ينتمي اليها المستضعفون في الارض علي أساسالمساحة الانسانية المشترکة وهموم المصير.
ولان اميرکا في الوقت الحاضر تمثل أو تحاول الظهور بمظهر القطب الاکبر فيالعالم بعد انهيار منافسها التقليدي فستکون نموذجاً عند الحديث عن الغرب اضافةالي علاقتها الاستراتيجية مع اسرائيل هذه العلاقة التي تکتسب اهمية بالغة لارتباطهاالوثيق بمصير الامة الاسلامية واحتمالات نشوب صدام مصيري مع الکيانالاسرائيلي.
اميرکا هي تطور سيء للحضارة الغربية، التي تعاني من تمزقات في نسيجهاالداخلي يهددها بالافول.
وبالرغم من أن العلم الذي نهضت عليه الحضارة الغربية في انطلاقتها وتفوقهاالمادي فانه بالذات قد استحال غدّة سرطانية يهددها بالموت.
ذلک أن انفصالاً رهيباً قد وقع بين الضمير الانساني والعلم ولان الحضارةالغربية کانت مفتونة بالعلم الذي اضحي لديها کعجل السامري، فقد انتهي دورالضمير في بلورة قيم أخلاقية يمکنها أن ترشّد أو تحدّ من جموح حضارة مجنونةبکشوفها وآلاتها.
واصيبت الحضارة الغربية بتضخم الذات أو بنرجسية خطيرة.
«ولکن هذه «الذات» قد قامت في الواقع بدور «تلميذ الساحر»، فلقد أبدعتآلات لم تستطع السيطرة عليها، ثم استنامت لتلک الالات تقودها بعقل آلي،وتزدردها في أحشائها من جديد فصارت الحياة أرقاماً، واضحت السعادة مقيسةبعدد ما لديها من وحدات حرارية وهرمونات، وصار العصر عصر (کم) يخضعالضمير فيه للنزعة الکمية، کما صار عصر النسبية الاخلاقية، حيث استهل قرنهبالمبدأ القائل: «کل شيء في الحياة نسبي»، فلم يعد أحد يدرک معني «الفضيلةالمطلقة»، بل اءن الکلمة نفسها قد أضحت من المعميات، أضحت کلمة ميتة لا معنيلها، لان القرن العشرين وهو قرن العقل الوضعي الذي يشبه عقل الالة، لم يعد يفهمشيئاً وراء التصورات النسبية للمادة.
لقد مات معني الفضيلة «المطلقة»، من الوجه الذي مات منه مفهوم «العدالة» فيقول أحد الاوربيين:
«اءن تسوية جائرة خير من قضية عادلة»، وصارت الحياة الاقتصادية نفسهااءلي مصيرها، يوم وجد بعض الناس في أنفسهم قحة وجرأة ليؤکدوا أن «التجارة هيالسرقة الحلال».
وهکذا نجد أن أوربا النازعة اءلي «الکم» واءلي «النسبية» قد قتلت عدداً کبيراً منالمفاهيم الاخلاقية، حين جردتها من أرديتها النبيلة، وأحالتها ضروباً منالصعلکة، وکلمات منبوذة في اللغة، طريدة من الاستعمال ومن الضمير، وکأنماصارت القواميس «أحياناً» مقابر لکلمات لا توحي بشيء، لان مفهومها لا ينبضبالحياة.
ولقد تعاظم خطر تلک النزعة الکمية في أوربا طبقاً «للعامل المضاعف» المتمثلفي القوة الفنية، والذي تملکه صناعة غزت العالم، کأنها أخطبوط يضاعف بصورةهائلة شهوة الاءنسان اءلي المادة، فهي تملي علي الطفل اتجاهه في الحياة، بحيث لا يختارطريقه فيها اءلاّ وقد وضع نصب عينيه ما يأخذ من المجتمع لا ما يعطي، اءنه يبحث عنحظه لا عن رسالته، وتلک طريقة جيدة لاءعداد مدير المستقبل في المستعمرات، لانذلک الموظف لم يعد لديه أدني قدر من التحفظ الذي يحول بينه وبين الاخذ بمبدأالنسبية الاخلاقية في بلاده، بل والمضي فيه اءلي أبعد مدي. فهناک في المستعمرات
تسلک الاخلاق النسبية في نفوس الناس باسم «السيادة القومية»، وبذلک يسقطقناع «التحفظ» کأنه مسحوق يذوب بحرارة الشمس، في جو حميت فيه الشهواتالمنطلقة، والغرائز المطلقة، فالناس ما بين راغب وآخذ.
والناس في أوربا ذاتها، قد لزمهم ما درجوا عليه في حياة المستعمرات منعادات وأذواق وأفکار، فلم تعد مطامحهم تسعي لاءدراک «علة» الشيء، ولا«کيفية» حدوثه، واءنما هي متعلقة بالبحث عن «الکم»، غير أنهم يحاولون نفاقاً أنيستروا هذه النزعة بما يتيسر لهم من البلاغة واللسن، لکن هذه البلاغة سرعان ماتختفي لتنکشف الامور علي حقيقتها، وتتسمي بأسمائها، فاءذا بالقط قط، وقد کانمنذ قليل نمرا، واءذا بالنزعة الکمية تشمل مرافق الحياة الاجتماعية جميعاً، في الاءنتاج،وفي عمليات الدفع والشراء، بل وفي عملية الاکل أيضاً، فالحياة تجري علي سنن«الکم» وحده.
لقد أصبح «الرقم» سلطاناً في المجتمع الفني الالي الذي قام بأوربا منذ عام1900، وصار الاءحصاء لا معقب لحکمه، فليس للفطرة الاءنسانية، أعني الضميرالاءنساني ذاته، دخل في الحياة الجديدة، شأنه في ذلک شأن ما لا يدخل في عدادالارقام، ولا يقاس بالکميات. وبذلک أصبحت حياة الانسان وظيفة تکمل الارقامفالماکينات هي التي تحرر وتحسب بل وتسخر الانسان في حرکة اجهزتها».
وهذا ما جعل مبدع «الساعة الخامسة والعشرون» يسجل هذه النبوءة: «انانهيار المجتمع التکني هذا، سيعقبه اعتراف بالموهبات الانسانية والعقلية، وسيشرقهذا النور العظيم من الشرق ولاشک.. من آسيا..
ولکن ليس من روسيا.. ان الروس قد انحنوا خاضعين أمام نور الغربالکهربائي..
لذلک لن يعيشوا ليروا الاشراق.. سيکتسح الانسان الشرقي المجتمع التکني،وسيستعمل النور الکهربائي لاءنارة الشوارع والبيوت.. لکنه لن يصير له عبداًأبداً... ولن يقيم الهياکل کما هو الحال اليوم في بربرية المجتمع التکني الغربي..
انه لن يضيء بنور «النيون» خطوط الفکر والقلب.. ان انسان الشرق سيجعلمن نفسه سيّداً للالات وللمجتمع التکني، مستعيناً بعقله کما يستعين رئيس الفرقةالموسيقية بعبقريته المستمدّة من الجرس الموسيقي..».
ومالک بن نبي يشير الي نقطة هامة هي: «أن العالم الاسلامي لا يستطيع فيغمرة هذه الفوضي أن يجد هداه خارج حدوده، بل لا يمکنه في کل حال أن يلتمسهفي العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولکن عليه أن يبحث عن طريق جديد ليکشفعن ينابيع اءلهامه الخاصّة».
ومن خلال رمزية بعض الاخبار الواردة عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم يمکننا أن نتصورالدجال الاعور هو هذه الحضارة الغربية المادّية والتي نهضت بعين مفتوحة هي العلموعين أخري مفقودة هي الضمير فهي «تنظر الکون بعين واحدة تنظر الي مادته دونالروح والخلق الرفيع والمثل العليا».
ويسجل المفکر مالک بن نبي ملاحظة اثبتها نموذج باريلوتشي عندما يقول:ولکن سخرية مؤسية خيمت علي هذا البؤس، فلاول مرة في التاريخ الانساني تصبحعلة البؤس وفرة الانتاج، لا قلة الثروات، وتلک أمارة عبقرة القرن العشرين، فلقداستطاعت بعلمها أن تجعل من أسباب الرفاهية عوامل فاقة وشقاء. فأين اءذاً مکانالداء..؟ هل هو في تفوق المنحني البياني للاءنتاج علي منحني الاستهلاک..؟ هذهمسألة صبيانية!! فالفنيون الذين يلمون بمعرفة الحساب يعرفون کيف يصححون
المسائل، ويعيدون المنحنيات اءلي مستوي معين، وبذلک يکون الحل رياضياً يتلخصفي اءعدام الفائض، فهذا أبسط شيء، وبهذه الصورة تم اءحراق القطن والقمح والبن،علي الرغم من أن شعوباً کثيرة لا تجد أثراً منها في بلادها. وهکذا وجدنا أنالحضارة التي أبدعت نظرية «مالتوس» القائلة بتحديد النسل للموازنة بين الثروةوبين مستهلکيها، تشرع في تطبيق هذا التحديد علي الاشياء المستهلکة لا عليالمستهلکين.
لم تنهض أية سلطة روحية للتنديد بتلک الفضيحة، فأولئک الذين کانوايستطيعون اءنقاذ أوربا من فوضاها الاقتصادية لم تکن حاجات الشعوب لديهممربحة، فاءن الشعوب المستعمرة العارية الجائعة لم تکن تستطيع أن تشتري شيئاً،فلقد اعتبرها المستعمرون مجرد أدوات للعمل، فخرجت بذلک من عداد المستهلکين.
اءن النظام الذي خلق الفوضي في أوربا ذو صبغتين، فهو علمي واستعماري فيآن، فاءذا ما کان في أوربا فکّر بمنطق العالِم، أما اءذا انساح في العالم فاءنه يفکر بعقليةالاستعمار، حتي اءذا وافي اءبّان الازمة عام 1930 کان المنطقان قد امتزجا، وبلغالوحش بهذا الامتزاج أبلغ أحوال الضراوة.
وبتأملنا للظواهر في تخلقها، نجد أن حريق عام 1939، لم يکن سوي عودةللضرام، في لحظة نقم فيها ميکيافيلي علي نفسه، وسخط الشيطان علي عمله، فهدمما کان قد بناه، وتلک لحظة تهب فيها ريح القضاء المبرم علي شراع الاءنسانيةالمشرع، حتي يبلغ القدر مداه، لقد علمنا رسول الله (محمد) صلي الله عليه و آله و سلم وهو النبيالاجتماعي درساً قال فيه «من حفر مغواة لاخيه أوشک أن يقع فيها»، وکان أخوفما يخاف علي أمته ما ترتکب من مظالم لا ما تتعرض له منها.
ولقد صدق تاريخ عصرنا لسوء الحظ هذا الحکم، فأوربا التي کان عليها أنتهدي سعي الاءنسانية، قد اتخذت من مشاعل الحضارة «فتيلاً» يحرق بدل أنيضيء، وفي ضوء ما أشعلت من نار أشاعت وهجها في المستعمرات حتي جارت
علي أرضها هي؛ أوربا هذه رأينا الفوضي تنتشر فيها؛ نفس الفوضي التي أشاعتهافي بقية أجزاء الارض، ونفس الضلال. بل اءنها قد تجرعت نفس الکأس المحتوم؛کأس الاستسلام لقوي الشر الاسطورية، نعم.. الاسطورية».