و أصبح لا يجوز علي العقول غمام مختلف
وهذا نوع جديد من انقد، يؤسسه الأستاذ علي رأي جديد في الإمامة، يضيف إلي شرائط الإمامة شرطا ً جديدا ً لم يقل به أحد من المسلمين، ويفرض هذا الشرط فرضا ً علي جميع العقول، ثم يؤسس نقده علي هذا الرأي المفروض.
يشترط الدکتور في الإمام أن يکون ظاهرا ً غير مستور ويري أن هذا الحکم يجب أن يکون إجماعيا ً تخضع له جميع العقول لأن الذي يفرضه هو الدکتور أحمد أمين، ولذلک کان الاختفاء من الإمام مخلا ً بإمامته، وأصبح لا يجوز علي العقول إمام مختف، وما أجدرنا بالسکوت عن أمثال هذه الأقيسة لو لم يکن الکاتب هو الدکتور أحمد أمين، والدکتور من الأدباء النابهين الذين يحسب النشء لآرائهم ألف حساب والذين يستقون من علمه في العراق وفي الأقطار العربية والمسلمة أضعاف تلاميذه في مصر ومن لهؤلاء القرّاء المتفاوتين في المدارک أن يعلموا أن الأستاذ يتجني علي الشيعة في هذا النقد ويجني علي العقول بهذا الفرض والأستاذ نفسه يعترف بأنه ليس من المعصومين، يحاول الدکتور أن يجعل شرائط الإمامة أعظم من شرائط النبوة فهل سمعت بأعجب من هذا وقد قلت أن الأستاذ يفقد معنويته إذا حاول أن يکون من الناقدين فکيف إذا حاول أن يکون مبتکرا ً وناقدا ً في وقت واحد.
الإمامة نيابة عامة عن النبوة فلا يعقل أن تکون شرائطها أعظم من شرائط النبوة، ولم يذهب إلي هذا أحد من المسلمين، والشيعة الذين يقولون أن الإمامة منصب إلهي لا يشترطون في الإمام أکثر مما يشترطون في النبي والأستاذ يعلم ذلک جيدا ً لأنه مؤرخ کبير، والمذاهب والآراء تشکل جزءً مهما ً من أجزاء التأريخ.
وبعد فلماذا لا يجوز للإمام أن يختفي إذا قضت المصلحة له بالاختفاء کما جاز للأنبياء أن تحتجب إذا أوجبت المصلحة عليهم الاحتجاب.
وقد حدثنا القرآن عن غيبة موسي عن قومه أربعين ليلة، واحتجاب يونس مدة اختلف فيها المفسرون، وقرأنا في سيرة النبي اختفائه في الغار ثلاثة أيام وقبله في الشعب ثلاث سنين، وحدثنا التاريخ عن الأنبياء السابقين بأمثال ذلک، وقد يفرق الأستاذ في الغيبة
بين طول المدة وقصرها، وهذه التفرقة لا ينبغي أن يفکر بها الأستاذ إذا کان السبب
للغيبة هو اقتضاء المصلحة، والمصلحة التي تکون سببا ً للاحتجاب مدة قصيرة قد تکون
سببا ً للاحتجاب مدة طويلة، وقد سمعنا حديث القرآن عن غيبة المسيح، وغيبة المسيح
هذه تزيد علي غيبة المهدي بتسعة قرون.
ولماذا لا يجوز للإمام أن يحتجب إذا ألجأته الأمة إلي الاحتجاب بنفسه، کما ألجأت آبائه إلي الاحتجاب بمذهبهم.
لماذا لا يجوز له أن يحتجب حقنا ً لدمه أن يطل، وحفظا ً لدعوته أن تستأصل.
وأي عقل يحرم عليه الفرار من ظلم الظالمين وجور الجائرين.
ولأي سبب معقول يحرم عليه تأجيل دعوته إلي غد إذا استحال عليه أن يبلغها اليوم.
العقول تحرم علي المظلوم أن يقدم نفسه لقمة سائغة لأعدائه يستبيحون دمه ويستحلون حرمته.
والعقول تحتم علي صاحب المبدأ أن ينتظر الفرصة المناسبة لنشر مبدئه وبث دعوته، بهذا تحکم العقول أيها الأستاذ، وعلي هذا تتفق.
وکلنا نعلم ما لقي أهل البيت من الجور والتشريد، وما لقي أتباعهم من القتل والتعذيب، ألا يکون هذا مسوغا ً لبقية العترة أن يحتجب حقنا ً لدمه الحاضر؛ وتمهيدا ً لدعوته في المستقبل، علي أن کل نهضة يجب أن يتقدمها تجمع، وکل ثورة يجب أن يسبقها سکون، وقد علمنا أن الأسد يتحفز ثم يثب، وإن البرکان يتجمع ثم يثور، هذه سنّة الطبيعة، وهذه سنّة العقول أيضا ً ولن تجد لسنة الله تبديلا ً، وکلما ازدادت الحرکة أهمية، وکلما کبرت النهضة شأنا ً، وجب أن يکون التريث قبلها أکثر، وأن يکون التجمع لها أشد، فکيف کان الناهض يريد أن يملأ الأرض عدلا ً بعد ما ملئت جورا ً، وهل يمکن هذا إلا بعد رقي البشر في معارفهم وعلومهم، وهذا يحتاج إلي مضي أزمان، لا بد للناهض أن ينتظر الوقت المناسب لنهضته، ولا بد للدکتور أن يصدق بهذه الفکرة، لأني أعلم أنه من المتفائلين للعالم بالصلاح وهل يحيل علي العالم أن يصل إلي الذروة في العدل الخلقي کما وصل علي الذروة في العلم المادي.
أنا أعيذ الدکتور من هذه النظرة لأنها نظرة المتشائمين.