يعيش مئات السنين
وهذا نقد ثانٍ يوجهه الدکتور إلي القرآن أيضا ً، لأنه يخبر عما يخالف الطبيعة في عمر نوح النبي فيقول: (ولقد أرسلنا نوحا ً إلي قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)، [1] ولم يحدثنا عن عمره قبل أن يُرسَل نبيا ً، وکم بلغ عمره بعد الطوفان إلي حين وفاته.
ويخبرنا أيضا ً عما يخالف المألوف في عمر إبليس، لأنه ينبئ عن وجوده قبل خلق الإنسان الأول، ويقول عنه أنه(من المنظرين إلي يوم الوقت المعلوم). [2] .
ويخبرنا بنظير ذلک عن المسيح أيضا ً، لأنه يقول: (وما قتلوه يقينا ً، بل رفعه الله غليه وکان الله عزيزا ً حکيما ً وإن من أهل الکتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يکون عليهم شهيدا ً). [3] .
لابد أن يؤمن جميع أهل الکتاب بالمسيح قبل موته وإذن فالمسيح لم يمت ولم يقتل والآية الأخري: (إني متوفيک ورافعک إليّ) [4] تجري علي ضرب من المجاز والتشبيه.
وفي الأحاديث والتأريخ قصص نادرة للمعمرين، والأستاذ قد قرأها مرارا ً لأنه من المؤرخين.
وقصة لقمان بن عاد الذي عاش عمر سبعة نسور معروفة عند المؤرخين، وقول العرب: طال الأبد علي لبد من الأمثال السائرة عندهم، وکذلک قول النابغة:
أخي عليها الذي أخني علي لبد ولبد هو آخر النسور السبعة التي عاش عمرها لقمان هذا، وفيه يقول الأعشي:
أنت الذي ألهيت قيلا ً بکأسه
ولقمان إذ خبرت لقمان في العمر
لنفسک إذ تختار سبعة أنسر
إذا مضي نسر خلوت إلي نسر
فعمر حتي خال إن نسوره
خلود وهل تبقي النفوس علي الدهر
وقال لأدناهنّ إذ حلّ ريشه
هلکت وأهلکت ابن عاد وما تدري
وفيه يقول لبيد:
وقلد جري لبد فأدرک جريه
ريب المنون وکان غير مثقل
لما رأي لبد النسور تطايرت
رفع القوادم کالفقير الأعزل
من تحته لقمان يرجو نهضة
ولقد يري لقمان أن لا يأتلي
وناهيک بعمر سبعة نسور، والنسر من أطول الحيوانات عمرا ً وأقلّ ما قاله المؤرخون عن لقمان هذا أنه قد بلغ خمسمائة وستّين سنة وقيل أضعاف ذلک.
وقول المؤرخين عن قس بن ساعدة الأيادي أنّه عاش سبعمائة سنة معروف وقيل أقل من ذلک.
والذين عاشوا بين الثلاثمائة والأربعمائة کثيرون في التاريخ. فمن هؤلاء الربيع بن ضبيع الفراري الذي يقول:
أصبح منّي الشباب قد حسرا
إن ينأ عني فقد ثوي عصرا
ها أنا ذا آمل الخلود وقد
أدرک عقلي ومولدي حجرا [5] .
وهو الذي يقول لعبد الملک بن مروان في أيام خلافته عشت مائتي سنة في فترة عيسي، وعشرين ومائة في الجاهلية، وستّين في الإسلام وقصته معروفة.
ومنهم دويد بن زيد بن نهد الذي يقول:
ألقي عليّ الدهر رجلا ً ويدا ً
والدهر ما أصلح يوما ً أفسدا
يصلح ما أفسده اليوم غدا ً
وقد بلغ من العمر أربعمائة وستا ً وخمسين سنة علي ما يذکره المؤرّخون. [6] .
ومنهم عبد المسيح بن بقلة الغساني الذي يقول:
حلبت الدهر أشطره حياتي
ونلت من المني فوق المزيد
وکافحت الأمور وکافحتني
ولم أحفل بمعضلة کؤود
وکدت أنال في الشرف الثريا
ولکن لا سبيل إلي الخلود
وقد عاش ثلاثمائة وخمسين عاما ً. [7] .
ومنهم أکثم بن صيفي بن رباح الأسدي أحد حکّام العرب المشهورين وقد عاش ثلاثمائة وثمانين سنة، ومنهم الحارث بن مضاض الجرهمي الذي يقول:
کأن لم يکن بين الحجون إلي الصفا
أنيس ولم يسمر بمکّة سامر
بلي نحن کنّا أهلنا فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وقد عاش أربعمائة سنة، ومنهم عمرو بن جمعة الدوسي الذي يقول:
ثلاث مئين قد مررن کواملا ً
وها أنا هذا أرتجي مر أربع
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه
إذا رام تطايرا ً يقال له قع
أخبر أخبار القرون التي مضت
ولابد يوما ً أن يطار بمصرعي
وقد بلغ ما يرجوه فقد مرّت عليه أربعمائة سنة علي ما يقول بعض المؤرّخين، ويقول بعضهم أن هذه الأبيات لعامر بن الظرب العدواني وقد بلغ الثلاثمائة.
ومنهم المستوغر عمر بن ربيعة بن کعب الذي يقول:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وعمرت من عدد السنين مئيتا
مئة أتت من بعدها مئتان لي
وازددت من عدد الشهور سنينا ً
هل قد بقي إلا ّ کما قد فاتنا
يوم يکر وليلة تحدونا
قد بلغ من العمر ثلاثمائة وعشرين عاما ً وقيل أکثر من ذلک. [8] .
وما أکثر المعمرين في التاريخ، وقد قرأ الدکتور أخبارهم مرارا ً لأنه من المؤرخين والأحاديث عن عمر الرجال مثبتة في الصحاح من جوامع الحديث، وقد روي مسلم بعض هذه الأحاديث في کتاب الفتن من صحيحه، وأحاديث الخضر مشهورة بين المسلمين وإن ظهر التشکيک فيها من الدکتور في ص112 من کتاب المهدي والمهدوية.
هذا حکم القرآن والتأريخ في نقض رأي الأستاذ الجليل، أما العلم الحديث فقد أثبت امکان تعمير الإنسان ألوفا ً من السنين کما تعمّر الأشجار، وقد أجري العلماء تجارب کثيرة لتحقيق هذه النتيجة، وقد أثبتت التجارب صحتها، فقد بقيت أجزاء الحيوان بعد انفصالها حية نامية واستمرت علي حياتها ونموها مدة طويلة من السنين، لا تصل إليها بحسب العادة، وکانوا يتعاهدون هذه الأجزاء بالأغذية المناسبة، وأجريت نظائر هذه التجارب في أعضاء الإنسان وقلبه، وکليته، فکانت حية نامية ما دام الغذاء موفورا ً لها.
وفي مجلة المقتطف کلمة مفصلة عن هذه التجارب، وهذه النتيجة يجدها القارئ في العدد الثالث من سنتها التاسعة والخمسين.
وبعد هذا فهل الدکتور الجليل لا يزال مصرا ً علي أن طول العمر شيء يخالف العقل وهل تصدق معي أن الدکتور في رأيه هذا يحيلنا إلي مقاييس الأطفال، وإن بلغ ما بلغ من العلم، ورحم الله ذلک الصديق القديم.
يقول الأستاذ:
پاورقي
[1] سورة العنکبوت آية 14.
[2] سورة الحجر الآيات 37،38.
[3] سورة النساء الآيات 157،158،159.
[4] سورة آل عمران آية 55.
[5] أنظر ص 171 من أمالي السيد المرتضي.
[6] أنظر ص 171 من أمالي السيد المرتضي.
[7] أنظر ص 188 من المصدر المتقدم.
[8] ص169 من نفس المصدر.