بازگشت

مع الناقدين


لبست فکرة المهدي أشکالا ً متنوعة من البحث، ومرت عليها ألوان مختلفة من الجرح والتعديل، وأولاها الباحثون علي اختلافهم مزيدا ً من الاهتمام؛ وکثيرا ً من العناية، تفنن الناقدون لها في النقد، والمؤيدون لها في التأييد، واستخدموا في

نقدها وفي تأييدها الأدب المنظوم والمنثور وإن أساء الأدب کثير من أولئک في نقدهم، فکان من الضروري أن يقابلهم هؤلاء بالمثل.

ولو جمعت هذه المناقضات لکانت مجموعة نادرة من وحي التناقض في العقيدة يضحک لها الأدب، ويأسف لها الإسلام ويبکي لها نبي الإسلام.

وفي آخر من جاء من نقاد هذه الفکرة سعادة الدکتور أحمد أمين، والدکتور مؤلف کبير حين يکتب في التأريخ، وهو أديب ماهر حين يترجم أو ينقل، إذا کان في الترجمة والنقل ما يسمي أدبا ً، ولکن الدکتور يفقد معنويته حين يحاول أن يکون من الناقدين.

هذا ما توسمته في الدکتور أول يوم رأيته فيه ناقدا ً وقد ضمنت لي القراءات المتتابعة صحة هذا التوسم، وکأن الدکتور تعوزه الحاسة الدقيقة التي تعين له المفصل من الرأي ليوقع الضربة الفاصلة، وهذا أهم ما يحتاج إليه الناقدون.

والحق أني لم ألق کبير عناء في نقد آراء الأستاذ في کتاب المهدي والمهدوية؛ لأن مواضع الخلل فيها ظاهرة جدا ً، وقد رأي القارئ کثيرا ً من هذه الآراء في الأبحاث المتقدمة؛ وعلم مبلغها من العلم، وسيقف علي البقية منها في بقية الکتاب.

ونحن يمکننا أن نصنف النقود التي يذکرها الدکتور إلي صنفين:

الصنف الأول النقود التي تتعلق بنفس الفکرة.

الصنف الثاني النقود التي تتعلق بشؤون الفکرة؛ وأدوارها في التأريخ والمذاهب، والصنف الأول هو الذي عقدنا له هذا الفصل، وسيکون الصنف الثاني موضوع بحثنا الآتي.

يشيد الأستاذ بذکر العقل، ويؤمن بحکومته أشد الإيمان، ويجعل له الحکومة الفاضلة في رد الحديث ونقده ويدعوا إلي تحکيمه في فکرة المهدي، وفي الأحاديث التي نقلت في المهدي؛ وهو بهذه الفکرة من المنصفين، ونحن نرحب بقوله هذا ونؤيده أتم التأييد، علي أن يکون معني العقل الذي تجعل له الحکومة هو البرهان الصحيح الذي لا ينتفض ولا يمکن

أن تتخلف له نتيجة.

ولذلک وجب علينا تأويل کل آية دلت بظاهرها علي تجسيم الله، وتشبيهه حين قام البرهان العقلي علي استحالة ذلک، ونبذنا کل رواية ناقضت هذه العقيدة وإن کانت مروية في الصحيحين.

ولذلک أيضاً أوّلنا کل رواية أو حديث دل علي نفي العصمة عن الأنبياء والأئمة، ورددنا کل حديث لا يمکن فيه التأويل حين اضطرنا البرهان إلي القول بعصمتهم.

والسر في ذلک أن البرهان يقيني، ونتيجته لا تقبل التشکيک، ولا يمکن فيها الانتقاض، ولا قيمة للدليل إذا کان اليقين علي خِلافه لأنه يکون معلوم الکذب، أما الآيات فيجب تأويلها لأنها لا تخالف المعقول، وهذا شيء لا أظن أن يقع فيه خلاف من أحد.

أما إذا فسر العقلي الذي يدعونا الدکتور إلي تحکيمه بمشتهيات النفوس، وموافقة الميول، فلا يؤمن بحکمه منصف ولا يلتفت إليه عاقل، لأن هذه الميول متنوعة مختلفة، وليس نفس ميولها ومألوفاتها، ومن الجور أن نطلب من الدليل الواحد أن يوافق جميع هذه الميول، وتخصيص ميول الدکتور دون غيره استيثار يمنعه هو في کتابه الأخلاق.

من المضحک جداً أن نجعل موافقة الميول والمألوفات ميزانا ً في جرح الأخبار وتعديلها، والدکتور حين يدعونا إلي ذلک فهو يذکرنا عهد الطفولة الحبيب، حين کنا ننکر کل خبر يخالف مألوفاتنا، لا يعقل أن يکون في الدنيا ماء أُجاج، لأن الفرات يفيض بالماء العذب.

وکيف يعقل أن يتطاير الماء شررا ً إذا تلاطمت أمواجه في الوقت المظلم.

وکيف يعقل أن يجري الماء علي اتجاهين متعاکسين ثم يزيد ولا ينقص إلا في أيام الزيادة.

إذن فکل ما يُحدثنا به أصدقاؤنا من أخبار البحر المالح وأمواجه المتلاطمة في الليل، وعن المد والجزر فيه باطل لأنه يخالف المعقول.

بهذا الميزان کنا ننقد الأخبار، فهل يطلب الدکتور تجديد ذلک العهد والعودة إلي هذه المقاييس.

وأتذکَر أن بعض أصدقائنا قد احتفظ بهذه المقاييس الجميلة حتي تجاوز الأربعين فهو يقول عن الهاتف(التليفون) هو آلة سحرية، لأنه يستحيل أن ينتقل الکلام من مکان إلي مکان بواسطة سلک غير أجوف.

ولما أخبرناه عن المذياع ضحک من عقولنا کثيرا ً وقال هو أشد استحالة من الهاتف لأنکم تقولون أنه بغير سلک، والهاتف والمذياع والحاکي، وکل ما يشبه هذه الآلات سحر من عمل ساحر واحد ولکنکم لا تفقهون.

من المضحک جدا ً أن نحکم هذه المقاييس الناشئة من ضيق النظر وقلة الإحاطة من المضحک جدا ً أن نحکمها في أخبار الثقاة المأمونين، أو العقائد التي يؤسسها البرهان وإذن فلنستعرض النقود التي يوجهها الأستاذ إلي فکرة المهدي ليتضح لنا مخالفة الفکرة للعقل.

أحاديث المهدي تخالف العقل فيلزم ردها لأن هذه الفکرة تبتني: