المهدي في ديوان الخلفاء
يستوقفني الفکر طويلا حين أريد الدخول إلي بحث الإمامة، وحين أحاول أن أضع بين يدي القاريء مفتاحه الأول، فإن لهذا البحث أکثر من مفتاح واحد.
لماذا اختصت الشيعة بالقول بالإمامة؟ ولماذا أصبحت الإمامة علما علي هذه الطائفة دون أخواتها الأخري من فرق المسلمين؟ وهل يمکن لأحد من العقلاء وإن لم يکن من المسلمين أن يُنکر وجوب نصب الإمام! إذن فبماذا تحفظ الحقوق بين أفراد البشر؟
وبماذا يرد ظلم الظالمين وعدوان العادين ولماذا يهتم العقلاء بنصب الملوک والرؤساء؟.
الإمام سلطان، والسلطان ضرورة من ضرورات الحياة، والإمام وازع يتوقف عليه بقاء الاجتماع، لا بد من وجوده، ولا بد من نصبه إذا لم يکن موجودا، وهذا أمر يستحيل أن يقع الشک فيه من أحد.
وإذن فخلاف سائر المسلمين مع الشيعة إنما يکون في شؤون هذه الإمامة وفي شرائطها.
ـ من هو الإمام الذي يجب نصبه؟ وماذا يجب أن تجتمع فيه من الشرائط؟.
ـ ومن الذي يتولي نصب هذا الإمام؟
ـ وما الذي يتولاه الإمام من المهمات التي تحتاج إليها الأمة؟.
والناظر في علم الکلام والعقائد يري أن هذه الأسئلة محبوکة متداخلة يظهر جواب بعضها من الجواب علي البعض الآخر.
تقول الشيعة: الإمامة خلافة النبوة، فيشترط فيها ما يشترط في النبوة.
عهدت الأمة من مؤسس الدين ملکا لا کالملوک، ورئيسا لا کالرؤساء وعهدت من قرآنه نظاما لا يشبه الأنظمة.
عهدت من نبيها ملکا يخضع الدنيا لسلطة الدين، ويقيس الأعمال بميزان العقيدة ويکوّن من مجموع هذه الأشياء وحدة لا تقبل التجزئة والتفرق، وعهدت من قرآنها نظاما ً يهدف إلي الغاية بجميع مواده وفصوله وهو وراء هذا کله نظام معصوم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هکذا عهدت الأمة ملکها عند الصباح، فيستحيل أن لا يکون کذلک عند المساء؛ يجب أن تکون الرؤساء من لون واحد، إذا کان القانون مستمرا علي لون واحد لأن تغيير منهاج السلطة في المدة القصيرة يحتاج إلي تغيير کبير في نظام المملکة, وهذا شيء لا تسوغه الشريعة ولا تسمح به العادة، وقد يؤدي إلي محاذير شديدة، وعاقبة لا تحمد.
فيجب أن تکون للرئيس الثاني کل سلطة أو وظيفة تثبت للرئيس الأول، لأن النظام لم يفرد سلطة الدنيا عن سلطة الدين، وهذا هو الجواب عن السؤال الأخير وإذا أجبنا عن هذا السؤال علينا أن نجيب عن بقية الأسئلة بعد استعراض صغير لمهمات الرئيس الأول. [1] .
وإذا لم يکن الرئيس الثاني نبيا، فإنه حافظ شريعة وحارس نظام، فيستحيل أن لا يکون علما بدقائق هذه الشريعة، ومحتويات هذا النظام، وکيف يستطيع أحد أن يکون حافظا لما لا يعلم.
ولا يکفي لأداء هذه المهمة أن يعلم أحکام الشريعة بالاجتهاد أو بالتقليد، لأن المجتهد لا تجب إطاعته علي المجتهدين الآخرين ولا علي مقلديهم، والمقلد أقل منه في المنزلة، وأخفض منه في المرتبة، والإمام وأجب الإطاعة علي جميع أفراد الأمة من غير استثناء.
ونتيجة هذا إن الرئيس الثاني يجب أن يکون عالما بجميع أحکام الشريعة والقرآن ويجب أن يکون علمه هذا من غير طريق الاجتهاد أو التقليد.
ولست أقول أن هذا العلم الهامي، فإن الدکتور الجليل يستکثر علي الله الذي أوحي إلي النحلة ما تفعل وألهم النملة ما تترک وما تعمل، يستکثر الأستاذ عليه أن يلهم بعض المقربين من أوليائه ما يصلح العباد من العلم وما يسددهم من العمل.
نعم إن الأستاذ يستکثر علي هؤلاء المقربين، أن يحتفظوا ببعض مخلفات الوحي من علوم المستقبل، لنهم يسمون الکتاب الذي يشتمل علي هذه المخلفات جفرا، وربما استکثر هذه الأنباء علي الوحي نفسه، لأنها غيب والنبي وآله يقول «مالي ولهم يسألونني عما لا أعلم وإنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي» أرأيت أجمل من هذه الدعوي،
وأشد مطابقة من هذا الدليل کأن الشيعة تدعي العلم لنبيها ولأئمتها من غير تعليم الله.
أهکذا تنقد الحقائق أيها الأستاذ.
علي هذا الحديث يستند الدکتور في قوله هذا، وإلي الآية التي تقول: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) [2] ولکنه يتناسي الآية الثانية التي تقول: (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا إلا من ارتضي من رسول) [3] وهذه النغمة قديمة سمعتها الشيعة منذ قرون، وظنت أن المدينة الحديثة ستحدد منها بعض التحديد حين يري الکتاب الناقدون ملوک الدنيا تعد أبناءها ليوم العرش بالثقافة الصحيحة، وتؤسس لهم المعاهد العالية، وإن البقية من الداء ستنحسم حين يدرکون الفرق الفارق بين ملک يقود الأمة لصلاح دنياها، وإمام تطلب الأمة منه صلاح الدنيا والدين.
هذا ما أملته الشيعة حين استهل عصر الحقائق، وهذا ما تؤمله بعد أيضا فهل للأيام أن تحقق لها هذه الأمنية وهل للنقاد المحترمين أن ينظروا إلي الحقائق بغير المنظار الأول الذي خلقته الأحقاد؛ ولم تخلقه الأيام، ليعيش المسلم إلي جنب المسلم أخا بالمعني الصحيح من الأخوة کما سماهم الله في کتابه، وکما دعاهم إليه النبي في سنته.
هذا ما أوجهه إلي جمعية التقريب المحترمة، وإلي عضوها الجليل سعادة الدکتور أحمد أمين، وإلي کل غيور من حماة القرآن.
علمنا أن الرئيس الأول لهذه الأمة يحمل رسالة مقدسة إلهية وهو لهذه الرسالة، يحتاج إلي قوة عقلية کاملة تؤهله لأن يکون أمينا علي عهد السماء، وتعينه علي أداء مهمته بالتبليغ، وتسهل للمدعوين طريق القبول، وتقطع عذر المعتذر وريب المرتاب، وهذه القوة الکاملة في العقل النظري والعقل العملي هي العصمة. [4] .
ويسهل علينا التصديق بهذا القول إذا علمنا أن هذه الرسالة دين يريد الله تبليغه إلي عامة البشر، وناموس يجب أن تخضع له جميع الأمم والأجيال، وفي ذلک ما فيه من المتاعب والمصاعب، وفي البشر ما فيهم من المکابرة والتردد في أمثال هذه الدعوة، وفي النفوس وما فيها من التعصب لعقيدة الآباء والعادات المألوفة، وکيف يستطيع أن يستظهر علي جميع هذه العقبات، ويبلغ عهد الله کاملا غير منقوص إذا لم تکن له تلک القوة.... العصمة.
أقول: کيف يستطيع أن يظهر علي جميع هذه العقبات إذا لم يکن معصوما.
(1) لأن غير المعصوم قد يخل في التبليغ، فيزيد في الرسالة أو ينقص، عن عمد أو غير عمد.
(2) وکيف يثق الناس بدعوته مع هذا التجويز.
(3) وکيف يصدقونه في رسالته إذا رأوا من فعله ما يناقض قوله، والناس يقيسون أعما الإنسان بعضها علي بعض، وخصوصا في هؤلاء المثاليين الذين يريدون أن يکونوا أدلاّء للناس علي الخير، وقادتهم إلي الهدي.
(4) يمتنع أن يکون النبي غير معصوم، لأن اتباعه واجب علي أفراد الأمة في کل ما يقول وفي کل ما يعمل، ووجوب اتباعه هذا بحکم الکتاب وبحکم العقل، فيکون صدور الخطايا منه سببا لحصول التناقض في أحکام الله.
(5) ولأن ارتکاب الجرائم يوجب له الفسق، فيجب رد شهادته بحکم الکتاب.
هذا نموذج صغير من الأدلة التي تقيمها الشيعة علي عصمة الأنبياء، وما أکثر أدلتهم علي ذلک، وإذا بلغ إحصاء الأدلة علي عصمة الإمام إلي ألفي دليل [5] فکم يبلغ إحصائها علي عصمة النبي وآله.
بهذا وبأمثاله يستدل الشيعة علي ما يعتقدون، والعقيدة إذا استندت إلي أمثال هذه الحجج أصبحت يقينية لا تقبل التشکيک، والحکم العقلي إذا کان يقينا لزم أن يرد کل حديث يضاده، وان تؤول کل آية يفهم منها ما يخالفه، لأن اليقين لا يقابله أي دليل آخر لأنه يکون معلوم الکذب.
هکذا يستدل الشيعة علي عقيدتهم بعصمة الأنبياء، أما الدکتور فإنه يستدل علي عدمالعصمة في النبي وآله بالحديث الذي يقول: «توبوا إلي ربکم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» والحديث الذي يقول: «إنه ليغان علي قلبي».
أنظر بربک انظر، ثم احکم إن استطعت الحکومة.
يقول الحديث الأول: إن النبي يتوب في اليوم مائة مرة، والمعني الظاهر من هذا أنه يذنب في اليوم مائة ذنب، ويقول الحديث الثاني: إنه ليغان علي قلبه، والغين إحاطة الرين بالقلب...
هذا شأن سيد الأنبياء في فکرة الحديثين أيها الأستاذ وهل يتصور هذا في غير المستهترين من الناس، وإذن فلا بد من تأويل الحديثين إذا صح سندهما، ولا بد من ردهما إذا لم يکونا صحيحين.
ولو أردنا أن نستعرض هذا النوع من الروايات لوجدنا ألوانا عجيبة من التهم والجرائم الأخلاقية والاجتماعية تنسب إلي الأنبياء الذين أئتمنهم الله علي شرائعه، وائتمنهم الخلق علي هدايتهم.
وبعد فإن عقيدة المسلم أرفع شأنا من أن تؤسس علي أخبار آحاد مشوشة المعاني، وهي وراء هذا الاضطراب مناقضة للبرهان.
لا بد أن يکون النبي منزها عن الآثام لما ذکرناه من الأدلة، ولما لم نذکره؛ وإذا امتنع عليه أن لا يکون معصوما لأنه نبي، وجب أن يکون الرئيس الثاني معصوما أيضا لأنه إمام، والإمام يحتضن الأمانة المقدسة التي أودعتها السماء بيد الأمين الأول.
لا أقول أن الإمام يصبح نبيا کالرئيس الأول، لأن النبوة قد ختمت بنص الکتاب، ولکني أقول: الإمام هو الأمين الثاني علي الشريعة، وهو القائم علي تبليغها بعد الرسول؛ والشريعة تحتاج إلي حافظ يقوم برعايتها في مرحلة البقاء الاستمرار، کما تحتاج إلي مبلغ يقوم بنشرها عند التأسيس، وکلا هذين الحافظين يجب أن يکون تعيينه من قبل الله تعالي (إنا نحن نزلنا الذکر وإنا له لحافظون). [6] .
وإذا تماثل الرئيسان في المهمة وجب أن يکونا متکافئين في العصمة.
(1) لأن الإمام واجب الإتباع بنص الکتاب، وقطعي السنة فإذا لم يکن معصوما جاز أن يأمر بما يخالف حکم الله، فيکون ذلک تناقضا بين أحکام الله.
(2) ويکون الإلزام بطاعته سببا لنقض الغرض.
(3) ولأن غير المعصوم قد يخفي عليه کثير من الأحکام فلا يتمکن أن يکون حافظا لأحکام الشريعة، وقد کلفه الله بذلک.
(4) ولأنه إذا جوّز علي نفسه الخطأ في العمل أو في الاستنتاج وجب عليه أن يتبع غيره لئلا يقع في الخطأ، وإذا اتبع غيره سقط وجوب اتباعه علي الناس، لقوله تعالي: (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدي إلا أن يُهدي فما لکم کيف تحکمون) [7] الإمام مرجع الأمة العام بعد موت نبيها، إليه ترجع إذا اختلفت، ومن علمه تأخذ إذا جهلت، والإمام مصدر الأمة فيما يتجدد من الأحکام التي لم يوضحها الکتاب، ولم تبينها السنة.
فمن اللازم أن يکون هذا المصدر أعلم الأمة بدينها وأصدقها في القول والعمل والشرع الذي يعتبر في شاهد الدعوي أن يکون عدلا، ويشترط في القاضي أن يکون نزيهاً، أرفع من أن يأتمن علي مقدرات الأمة خائنا يتحکم في نفوسها وأموالها بما يتأول من نصوص الکتاب، وبما يفسر من متشابهات السنة نعم إن الشريعة أرفع شأنا من أن تأتمن مثل هذا علي مقدرات الأمة، ثم تأمرها بلزوم طاعته، وتحذرها أشد تحذير عن مخالفته وتحکم «أن من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية». [8] .
وسواءً أکان وجوب نصب الإمام حکما عقليا کما يقول بعض الحکماء، أم کان سمعيا کما تقوله طائفة من المسلمين، فإن هذه النتيجة لا يجوز أن تختلف ولا يمکن أن تختلف.
هکذا شاء البرهان لهذه الأمة أن تعتقد؛ وأن تجري علي هذا الاعتقاد فيما تعمل، وهکذا شاء لها القرآن أيضا، ولکن التاريخ شاء لها أن تختار، وأن تکون غير معصومة في هذا الاختيار، وأن تکون مخالفتها هذه سببا لنتائج معقدة يدونها تأريخ المسلمين من حيث يجب؛ أو من حيث يکره.
ولأعرض عن ذکر هذه المآسي التي قلبت تأريخ المسلمين إلي يومهم الأخير وحکمت علي جهود النبي، وجهود المخلصين من أنصاره بعقم الإنتاج، لأعرض عنها فإن الحديث شجي وشجون، ولعل دموع القلم تجري قبل دموع الکاتب، لأعرض عنها لأني لا أکتب في التأريخ، ولا أودّ أن أکون من المؤرخين، ولست في ضرورة إلي تعليل هذه الکراهة.
من هنا أتي المسلمون أيها الأستاذ، لا من فکرة المهدي، ومن هنا ابتدأ الخلل في صفوفهم، وأي معنيً لخلل الصفوف غير اختلاف العقيدة.
وما الذي يضر بفکرة المهدي إذا اتخذ المغرضون منها آلة لدعاياتهم؛ ونسجوا حولها خيوطا من الآمال، وما الذي يضر بهذه الفکرة إذا اتضح للناس بعد ذلک کذب الکاذبين وضلال الضالين.
لقد ادعي النبوة کثيرون في التاريخ، ثم اتضح للناس کذبهم وضلالهم، فلم يأخذ أحد من الناس هذا دليلا علي إبطال فکرة النبوة، وقد جري مثل هذا أي الربوبية منذ القديم.
ولو أردنا أن نبطل کل حق يتشبه به المُدّعون الکاذبون لأبطلنا کل حقيقة موجودة.
هذا هو المقياس الذي يبتکره الأستاذ في کتاب المهدي والمهدوية، وهذا هو الدليل الذي يبني عليه إبطال فکرة المهدي، والإصلاح المنتظر...
لا..لا.، أيها الأستاذ.ن «ما هکذا تورد يا سعد الإبل».
تخلّف المسلمون يوم تخلّفوا عما خطه لهم البرهان وحدده لهم القرآن، وانحلت صفوفهم يوم ابتدأ الانحلال في عقيدتهم، وکان من الضروري لهم أن يتراجعوا إلي الوراء من ذلک العهد، لولا حنکة في قادتهم الأُوَل، وثبات في بقية العقائد.
فکان الفضل لهؤلاء القادة في تحويل التأخر المحقق إلي حرکة بطيئة نحو الاتجاه الأول؛ وکان الوقوف في آخر عهد الخلفاء الراشدين، وکان التراجع علي الوراء بعد ذلک العهد.
من هنا أتي المسلمون أيها الأستاذ، ومن هنا ابتدأ الخلل في صفوفهم؛ فهل تريد مني أن أقدم لک بعض أدلة الشيعة علي أن الخيرة لله في تعيين الإمام للأمة...، إذن فاستمع:
(1) علمنا مما تقدم أن الإمام يجب أن يکون عالما بجميع أحکام الشرع وأن يکون علمه بذلک من غير طريق الاجتهاد أو التقليد.
وعلمنا أن الإمام يجب أن تکون له قوة عاصمة، يمتنع بها عن ارتکاب الآثام، وعن الوقوع في الجرائم عن عمد أو غير عمد، وهذان هما الشرطان الأساسيان في خلافة النبوة ولا يهمنا أن نثبت بقية الشرائط الأخري في الإمام فإن لها کتبا أخري.
وکلا هذين الشرطين من الأمور التي تخفي عن الأمة، وعلي أهل الحل والعقد منها، فکيف يصح أن يوکل إليها تعيين الإمام.
(2) کلنا نعلم اختلاف الأمة في شرائط الإمامة، فإذا کان تعيين الإمام بيدها، کان من الضروري أن تختار کل جماعة من الأمة ما يوافق مذهبها في الإمامة ولا تنزل لأخواتها عما تقول، فيلزم اختلاف کلمة الأمة إلي غير اجتماع، وليس بعض هؤلاء الأئمة أحق بوجوب الإتباع من البعض الآخر، فيؤدي إلي إراقة الدماء الزکيّة.
(3) وأخيرا إلي استحالة الاختيار، واستحالة الإمامة إذا انحصر أمرها بالاختيار، وفي النتائج السوداء التي وقعت في عهد علي ومعاوية، وفي زمان الحسن والحسين ما يثبت وقوع ذلک وأنه ليس مجرد فرض.
(4) يمتنع في العادة أن يطلع جميع أفراد الأمة، أو جميع أهل الحل والعقد من الأمة علي اجتماع شرائط الإمامة في واحد معين من أفراد المسلمين، حتي إذا کانت هذه الشروط متحدة لا خلاف فيها بين الجميع لأن الإطلاع يحتاج إلي معاشرة طويلة لذلک الشخص، وهذا غير ميسور لجميع أفراد المختارين وخصوصا إذا کثر عدد الأمة، واختلفت بلادهم. وتخصيص الاختيار ببعض الأمة استيثار يقبحه العقل، والشرع، وتمنعه المصلحة العامة المشترکة.
(5) علمنا أن غير الشيعة من فرق المسلمين تکتفي بالعدالة في الإمام ولنفرض أن الشيعة وافقتهم علي ذلک ليکون شرط العدالة إجماعيا بين المسلمين، فهل يکفي هذا الاجتماع کلمتهم حين يختارون.
وهذا الاختلاف الکبير في معني العدالة وفي شرائط وجودها، ألاّ يکون حائلا عن الاجتماع، والوحدة في الاختيار.
نعم إن هذا الاختلاف من أعظم الموانع، وکل من تتبع آراء المسلمين في تعريف العدالة، يعلم مقدار البون الشاسع بين هذه المذاهب فلو رجع الاختيار إلي الأمة لم يمکنها الاجتماع، إلا أن يکون الحق لشيء آخر وراء العدالة والاختيار.
يستحيل علي الأمة أن تختار ثم تجتمع علي هذا الاختيار مع هذه الفوارق العظيمة بين الآراء والمذاهب إذا استثنينا الجهات الشخصية التي تجعل الاجتماع أکثر بعدا وأشد استحالة.
وإذا استفتينا تأريخ المسلمين الأُوَل؛ وجدنا السلف المتقدم لم يستطع أن يطبق نظام الاختيار بالمعني الصحيح من التطبيق، وحديث الفلتة التي وقي الله المسلمين شرّها معروف عن الخليفة الثاني t يرويه المؤرخون والمحدثون علي السواء. [9] .
ولعل هذه الاستحالة هي السبب الحقيقي لعدول الخليفة الأول t عن الاختيار إلي النص علي من يخلفه من بعده.
أما الخليفة الثاني فقد جعل الأمر مزيجا من النص والاختيار، ولست أريد التوسع في هذه المباحث لأن هذا التوسع يبعدني کثيرا عن الغرض الأول.
ألفت العرب فکرة الشوري، وتحکيم أهل الحل والعقد منذ القديم، فکان من الصعب عليها أن تجنح لحکم البرهان، وکان من الضروري لهم أن يطبقوا النظام القديم المورث بما يمکنهم من التطبيق، وخضعت طائفة أخري من المسلمين لحکم البرهان هذا، فکان من الضروري لهؤلاء أن يختاروا لأنفسهم ما اختاره الله لهم (وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يکون لهم الخيرة من أمرهم). [10] وکان من الضروري لهم أيضا أن يسايروا الحکومة الرسمية القائمة حفظا لدماء المسلمين أن تراق، وصونا لکلمة الأمة أن تتفرق ولصفوفها أن تحل، والعقيدة هي العقيدة.
وهذا ما تسميه الشيعة (تقية)، وقد سماها الله تقية حين شرعها في کتابه (إلا أن تتقوا منهم تقاة). [11] .
وبعد قرون وشؤون أصبحت حکومة البرهان حکومة سرية تعمل لتفريق کلمة المسلمين، وأصبح الفريق الذي يعضده القرآن حزبا سياسيا يعرض الحکومة القائمة وعادت فکرة المهدي تعلة بسيطة يتعلل بها ضعفاء وترهم الحاضر فابتسموا للمستقبل، وحرمتهم اليقظة فاستسلموا للخيال، وکونوا مذهبهم من هذا الخوف ومن هذا الرجاء.
هذا هو رأي الدکتور أحمد أمين، ورأي فريق کبير من أدباء النقد الصحيح، والرأي الحر، ومهما عشت أراک الدهر عجب.
هذه قائمة أسماء الأئمة الإثني عشر، وهذا تأريخهم الأحمر الباکي، وهذا تأريخ شيعتهم المظلوم حتي من نواحي تاريخية، اقرأ جميع ذلک بإمعان إذا استطعت أن تقرأ الحقائق الباکية.
اقرأ جميع ذلک ثم انظر: أي ثورة أقامها هذا الفريق ضد حکومة قائمة، وأي حرکة إرهابية تزعمها أحد هؤلاء الأئمة المظلومين، إذا استثنينا الحرکات التي وقعت علي عهد علي والحسن، والتأريخ يقول لنا أن هذه الحرکات غنما کانت لقمع العدوان ضد الحکومة
الشرعية القائمة کالحرکات التأديبية التي وقعت علي عهد الخليفة الأول.
أما نهضة الحسين، وأظن أن هنا بيت القصيد، فقد عدّها الدکتور من أهم الأحداث المتصلة بفکرة المهدي أما هذه النهضة فلم يکن الحسين يعترف ليزيد بحکومة ظاهرية، وأي حکومة مستقرة يعترف بها الحسين، وهو يري العراق يراسله بالبيعة، والحجاز يتحفز للوثبة، والجزيرة علي مثل البرکان، وأقطار المسلمين الأخري علي ما يشبه هذا.
وکيف يستطيع الحسين أن يقف موقف المتفرج من هذه الأحداث، وهو في العدد الأول من زعماء المسلمين وقد علم من خفايا يزيد ما علمه الآخرون من ظواهره، وکيف يترکه المسلمون أن لا يعمل، ومن الذي يعمل إن لم يکن الحسين هو ذلک العامل.
وأخيرا فقد قتل الحسين يوم الطّفّ، وکان مقتله بداية عهد جديد للشيعة، وقد تلونت عقيدتهم بالدم، وتشربت أعمالهم بالدموع، ولکنهم أخلدوا بأمر أئمتهم إلي السکون وأحاديث الأئمة من أحفاد الحسين في تسکين الثورات القائمة والتنديد بالثائرين من أولاد الحسن والحسين کثيرة جدا وإذا استثنينا حرکة المختار، وحرکة زيد بن علي بن الحسين.
أما الذي يکون شوکة في جنب الدولة القائمة يهدّ من کيانها، ويهزّ من عرشها فهو الظلم الذي اتصف به رؤساء هذه الدول؛ وإراقة الدماء التي عصمها الله في کتابه وهو نتيجة مباشرة للتعدي عما حده البرهان، وأوضحه القرآن في معني الإمامة.
وأما الفرس فإنهم لم يظهروا التشيع لنسب مشيج بينهم وبين العلويين، وقد کان بينهم العباسيين نظير هذه القربي.
وکأن الأستاذ حين تعرضه لهذه الناحية قد نسي أنه من المؤرخين، وأن التأريخ ينکر عليه هذه النتيجة. لأن الفرس لم يکونوا شيعة في بداية الأمر ولم تعرف العامة من الفارسيين مذهب أهل البيت إلا في عهد الإمام علي الرضا (عليه السلام)، ولم ينتشر التشيع في أقطار فارس انتشارا تاما إلا في عهد السلطان محمد خندابنده المغولي، وفي زمان العلامة الحلي [12] لقصة يذکرها بعض المؤرخين في حوادث سنة 707من الهجرة.
وهذا التفويض الإلهي الذي آمن به الفارسيون من زمان الأکاسرة؛ وکان هو السبب في رضاهم عن أولاد فاطمة، لم يفهم معناه، ولا علاقته بمذهب الشيعة في الإمامة لأن الشيعة يقولون بوجوب تعيين الإمام من قبل الله علي لسان النبي وآله والفرس الذين يتشيعون يعتقدون بهذه العقيدة أيضا، وهذا يخالف معني التفويض في الإمامة.
ولعل نظرية التفويض قريبة من معني الاختيار الذي عليه غير الشيعة من المسلمين لأنهم يقولون: إن نصب الإمام مفوض إلي اختيار الأمة وتعيينها.
ولعل الأستاذ يعبر عن الفيض الإلهي بالتفويض لأنهما يلتقيان بالاشتقاق الکبير.
وإذا کان الفارسيون يؤمنون بنظرية الفيض الإلهي في الإمام، فأي نکر في هذا الاعتقاد إذا حتمه الدليل، والفيض الإلهي اصطلاح للفلاسفة يريدون به الوجود المعلول إذا حذفت منه التعينات التي تسبب الکثرة، ويسمونه أيضا الفيض المقدس.
وقد يعبرون بالفيض الإلهي عن الکمال في صفة من الصفات، فإذا کان الرجل عالما بارعا قالوا إن الله خصه بفيض من عنايته؛ ويريدون بهذا أن الإنسان مفتقر إلي عناية الله في کل ناحية من نواحيه، وهذا المعني هو المراد في الإمامة ونحن إذا اشترطنا في الإمام أن يکون تعيينه من قبل الله تعالي، کان ذلک اعترافا منا بنظرية الفيض الإلهي.
أليست جميع هذه الکمالات التي نشترطها في الإمام فيضا من فيض الله، ونفحة من رحمته، أليس الإمام قبسا من نور الله يهتدي به الضالون، وأي فائدة لإمامته إذا فقدت منه هذه الخاصة.
وکأن الدکتور يفهم من الفيض الإلهي، أو القبس الإلهي معني الحلول أو معني الاتحاد اللذين تنکرهما الشيعة وتکفّر من يعتقد بهما، والدکتور يريد أن يکون حراً في التفسير کما هو حر في الرأي، وإن کانت الحرية في التفسير محرمة علي الناقد النزيه.
منعتنا الأدلة العقلية المتقدمة أن نصدق نظرية الاختيار في الإمامة، وأحالت ان يکون للأمة حق في تعيين الإمام.
والقرآن... ماذا يقول لنا القرآن في ذلک، وهل أهمل القرآن حکم الإمامة، کما أهمل النبي أمر الإمام، وهو الذي يأمر الناس بالوصية حتي بأبسط الأشياء.
ماذا يقول القرآن في أمر الإمامة.
ألم يجعلها الله عهدا له في خطابه لإبراهيم، ألا تسمعه حين يقول:(وإذ ابتلي إبراهيم ربه بکلمات فأتمهن قال إني جاعلک للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [13] الإمامة عهد الله فلا يتولاه أحد إلا بأمره، والإمام أمين الله علي هذا العهد فلا أحد سواه.
وفي الآية الکريمة نظرات تتعلق بالإمامة يذکرها المفسرون والمتکلمون ويشير إليها أهل علم الحديث.
الإمامة عهد الله، والإمام ولي ذلک العهد، هکذا يقول لنا القرآن، وأي بيان أجمع لشرائط الإمامة من هذا التعبير.
هل يمکن أن يعين الله لعهده من لا يؤمن عثاره من الناس، أو من يجوز عليه أن يغير شيئا من الأحکام أليس هذا من التناقض الصريح، وإذن فالإمام معصوم يستحيل عليه الخطأ.
وهل يجوز أن يأتمن علي الأمة من لا يفي بحاجتها من العلم، ولا يقوم بتسديدها في العمل، أليس هذا مفتاحا للطعن في حکمته، وللتشکيک في عهده؛ وإذن فالإمام أعلم الأمة وأتقاها، وأشدها صلة بالله.
والآية الکريمة تجري في هذا البيان علي نهج مألوف بين الناس فإن الملوک طالما سمت الولاية من بعدها عهدا، وسمّت خلفاءها أولياء ذلک العهد، أفتريد في أمر الإمامة أوضح من هذا التعبير.
وقوله تعالي: (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدي إلا أن يهدي فما لکم کيف تحکمون) [14] وهذه الآية الکريمة تفرض علينا وجود شرطين في الشخص الذي نتبعه.
1ـ أن يهدي إلي الحق، فلا بد أن يکون عالما بالحق ظاهره ومستوره.
2ـ أن لا يکون محتاجا في هداية نفسه إلي إرشاد غيره وهذا هو معني العصمة، والتسديد الإلهي، وهذان هما الشرطان الأساسيان في الإمامة، اللذان أثبتهما الأدلة المتقدمة.
لم يهمل القرآن أمر الإمامة، ولم يهمل النبي أمر الوصية، ولکن الأمة تقول أنهما أهملا ذلک، والتأريخ يساعد الأمة علي ما تقول، لأنه کتب بکف من أکف الأمة، وهل أن يخالف التاريخ عقيدة المؤرخ، وأرجو أن يکون اجتهاد أکابر الأمة خير عاذر لهم عن هذا القول الذي کان بذرة للخلاف بين المسلمين.
ما معني إذهاب الرجس عن أهل البيت الذي شهد به القرآن، وما معني التطهير الذي حصره بهم دون غيرهم، أليس هذا شهادة بالعصمة؛ وترشيحا للإمامة.
وما معني هذا التقارن التام بين الثقلين الذي يشهد به النبي الأمين في حديث الثقلين حين يقول: «لن يفترقا حتي يردا علي الحوض»، ويقول: «ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا»، أليست هذه وصية بالإتباع وشهادة بالعصمة.
وحديث الثقلين مستفيض بين علماء الحديث، وقد رواه نيّف وعشرون صحابيا علي ما يقول ابن حجر في الصواعق المحرقة.
العترة والکتاب ثقلان مقترنان، والتمسک بهما حافظ للأمة عن الوقوع في ضلال، والعترة لا تفارق الکتاب حتي يردا علي النبي الحوض.
فإذا کان الکتاب معصوما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا بد أن تکون العترة نظيرة في ذلک، لأنهما لن يفترقا حتي يردا عليه الحوض، فلو کانت العترة غير معصومة جاز عليها أن تخطئ فتفارق الکتاب.
وإذا کان الکتاب محيطا بعلم کل سيء، وفيه تبيان کل شيء لأنه يقول: (ما فرطنا في الکتاب من شيء) [15] فلا بد أن يکون الثقل الثاني مثله في هذه الإحاطة، لأنهما لن يفترقا أبدا حتي يردا عليه الحوض.
وإذا کان الکتاب خالدا إلي اليوم الأخير لأنه نظام الشريعة الخالدة، ولن تجد لسنة الله تبديلا، فلا بد أن يکون قرينه من العترة باقيا إلي اليوم الأخير أيضا لأنهما لن يفترقا حتي يردا علي النبي الحوض.
هذا ما يقوله النبي وآله في هذا الحديث، ولکن الأمة تقول أن النبي أهمل الوصية، والتأريخ يساعد الأمة علي ما تقول.
ولست أريد أن أمضي مع الحديث إلي حد بعيد، وأتعقب هذه النتائج التي يلقيها النبي الأمين، ولست أريد أن أکرر قائمة أسماء الأئمة من أهل البيت، قرناء الکتاب وأمناء الرسول، فإن لها کتبا أخري وضعت في علم الکلام ومباحث العقائد.
ولکني أريد أن أقول: أن المهدي صفة لخاتم هؤلاء الأمناء الذين شهد لهم الکتاب بالتطهير، وجعلهم النبي وآله قرناء للکتاب، فلا بد أن يکون موجودا لأن العترة والکتاب لا يفترقان حتي يردا علي النبي الحوض، وليکن بعد ذلک ظاهرا أو مستورا.
هؤلاء الأئمة من أهل البيت في رأي الکتاب، وهؤلاء هم نجوم الاهتداء في رأي السنة،
وهؤلاء هم رجال العترة في رأي النبي الأمين حين يخلفهم في الأمة، وحين يضمن للأمة عدم الضلال إذا تمسکت برشده.
أما أئمة أهل البيت في التاريخ فقد ذکرت لنا کتب الرجال والتراجم من عموم المسلمين، أنهم العابدون الزاهدون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وأما هؤلاء الأئمة في رأي محمد بن إدريس الشافعي فإنه يقول:
ما رأيت الناس قد ذهبت بهم
مذاهبهم في أبحر الغي والجهل
رکبت علي اسم الله في سفن النجا
وهم أهل بيت المصطفي خاتم الرسل
وأمسکت حبل الله وهو ولائهم
کما قد أمرنا بالتمسک بالحبل
وأما هؤلاء الأئمة في رأي الدکتور أحمد أمين فإنهم «يختفون عن الأعين ويرتکبون ما يرتکبون من الإثم» وأن المأمون قد ولّي عليا الرضا من بعده «ليظهر للناس أن هؤلاء يعيشون علي الوهم والخداع» [16] أنظر بربک انظر ثم احکم إن استطعت الحکومة...
من الحق أن أمسک عن التعليق هنا، فإن الذي لا يبالي بما يقول يسهل عليه أن يقول کل شيء، ولو طالبنا الدکتور ببينة ما يقول لأحرجناه أشد الحرج.
ليرتکب الأئمة الإسماعيليون ما يرتکبون من الإثم وليُدَوِّن التاريخ لهم کثيرا من الجرائم، وکثيرا من البذخ والاستيثار، وليرتکب الدعاة الفاطميون والقرامطة أمثال ذلک وأضعافه.
ليفرض جميع ذلک فهل يصح لعاقل أن يجعل هذا دليلا علي أن الأئمة من أهل البيت يرتکبون الإثم، ويعيشون علي الخداع.
هذه أقيسَة الدکتور التي يقيس بها الرجال، وهذه موازينه التي يستنتج بها التاريخ.
من الحق أن أمسک فقد أوعدت أن لا أعلق شيئا علي هذا، وإن سيرة الإمام علي الرضا، وسيرة الأئمة من آبائه وأبنائه التي يرويها الـتأريخ کفيلة برد هذا العدوان.
ولعل في ارتکاب الأئمة الإسماعيليين وظلمهم دليل جديد علي عصمة الأئمة الإثني عشر وتسديدهم، لأن العصمة لم تدع لأحد من الناس غير هذين الفريقين، فإذا وجب وجود
الإمام المعصوم بحکم البرهان ودلالة القرآن وإذا انتفت العصمة من الإسماعيليين لأنهم يرتکبون الآثام ثبتت للفريق الآخر لأن غير هذين الفريقين ليس معصوما بالإجماع.
وقد تکرر في جوامع الحديث ذکر الخلفاء الإثني عشر من قريش، وفي الصحيحين عدد غير قليل من هذه الأحاديث أيضا، کقوله وآله في صحيح مسلم: «لا يزال هذا الدين قائما حتي تقوم الساعة، ويکون عليهم اثنا عشر خليفة...کلهم من قريش» وفي صحيح البخاري «يکون بعدي اثنا عشر أميرا، وقال کلهم من قريش».
والمتتبع يري ارتباکا شديدا بين شراح السنة وفي شرح هذه الأخبار، وفي تطبيق هؤلاء الخلفاء الإثني عشر وربما التجأ بعض الشراح إلي إدخال يزيد المستهتر، والوليد الفاجر في ضمن هؤلاء الخلفاء الذين يکون الدين عزيزا علي عهدهم علي ما في بعض حمل الحديث.
وهذا الباب الطويل الذي يعقده علماء الحديث في أن الأئمة من قريش، وهذه الروايات الکثيرة التي تکرر هذا القول، طالما وقف النقاد أيضا عندها فطال منهم الوقوف، ما معني اختصاص الإمامة بقريش إذا حصل غير القرشي علي ثقة المسلمين، وعلي العصبية التي يشترطها ابن خلدون في الملک، وما معني تدخل الحديث في تعيين الإمام ‘ذا کان اختياره من حقوق الأمة وحدها، وما معني تمسک المهاجرين يوم الخلافة ببعض النصوص لحرمان الأنصار.
أليست هذه المميزات تحويرا في معني الاختيار، أليست هذه النصوص توضح للأمة أن وجه المصلحة قد يخفي عليها.
يعين النبي الإمامة في المهاجرين دون الأنصار، وفي قريش دون سائر المسلمين، ليرفع الاختلاف من الأمة علي قريش، ثم لا يهمه أن يقع الاختلاف بين المهاجرين من قريش بعد هذا الترشيح، وهذا الإغراء، وقريش التي لم تخضع للإسلام إلا بعد عناء وبلاء، والأمة هي الأمة في مذاهبها وآرائها، ونبي المسلمين هو نبيهم في عطفه ورأفته عليهم، وموقف الموتورين من قبل الإسلام وهو موقفهم في غموضه واضطرابه.
لم يهمل النبي أمر الوصية، ولکن الأمة تقول أنه قد أهمل والتاريخ يساعدها علي ما تقول، لأنه کتب بکفّ من أکفّ الأمة.
ترک النبي خليفتين لا يفترقا حتي يردا عليه الحوض وشهد القرآن لکل واحد من هذين الخليفتين بالعصمة والتسديد، وهذا هو المبدأ الحقيقي لفکرة المهدي.
فکرة المهدي نشأت من القول بضرورة وجود إمام معصوم في کل جيل حافظ للشريعة، وقرين للکتاب.
وفي الخاتمة من سجل الخلفاء الإثني عشر، وفي العدد الأخير من قائمة أسمائهم يقع اسم الإمام المهدي المنتظر.
وإذا حتم الدليل وجوده وبقائه لأنه الفرد الأخير من قرناء الکتاب، وإذا أثبت القرآن عصمته وإمامته لأن البقية الباقية من أهل آية التطهير، فليکن مستورا إذا أوجبت عليه الظروف أن يستتر، فإن الاختفاء لا يضر بشأن من شؤونه، إذا کان غيره سبب هذا الاختفاء، کما لا يضر بالشمس سترها من وراء السحاب.
پاورقي
[1] علمنا أن الرئيس الأول مؤسس لشريعة إلهية يستفيدها من وحي السماء، وهذه هي المهمة الوحيدة التي لا يصح أن يشارکه فيها أحد، لأن نظام الشريعة قد حکم بانتهاء النبوات.
[2] سورة النمل 65. الکف آية 26، 27.
[3] سورة الجن آية 26.
[4] يقول المتکلمون: العصمة لطف من الله عزّ وجل يحصل للکاملين من أفراد البشر يمتنعون بها عن ارتکاب الجرائم عمدا، ويرتفعون عن الوقوع بها خطأ؛ وهذا التعريف يؤول إلي القوة العقلية التي ذکرناها لتفسير العصمة؛ ويقول الخلقيون في تعريف العدالة: هي ملکة نفسانية يحصل بسببها الاعتدال التام في جميع ملکات النفس وصفاتها،
وهذه الملکة تحصل من سيطرة العقل علي جميع قوي الإنسان، وإذن فمبدأ العدالة قوة العقل، فإذا کانت هذه القوة في أسمي مراتبها سميت «عصمة».
[5] أنظر إلي کتاب الألفين للعلامة الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر المعروف بالعلامة الحلي المتوفي سنة 72للهجرة.
[6] سورة الحجر آية 9.
[7] أنظر صحيح البخاري کتاب الفتن.
[8] أنظر صحيح البخاري کتاب الفتن.
[9] أنظر صحيح البخاري، کتاب المحاربين من أهل الکفر والردة.
[10] سورة الأحزاب آية 36.
[11] سورة آل عمران آية 28.
[12] الحسن بن يوسف علي بن المطهر الشهير بالعلامة الحلي المتوفي سنة726.
[13] سورة البقرة آية 124.
[14] سورة يونس آية34.
[15] سورة الأنعام آية 38.
[16] أنظر صحيفة 61 من کتاب المهدي والمهدوية.