بازگشت

بين يدي الکتاب


صلتي بالدکتور أحمد أمين حرسه الله قديمة يرجع عهدها إلي طويل من السنين، وأتذکر أن بداية هذه الصلة يوم قرأت له کتاب الأخلاق، وأکدتها قراءاتي المتتابعة لمؤلفات الدکتور ومقالاته الکثيرة، واشتدت هذه الصلة حين حررت کتاب (الأخلاق عند الإمام الصادق) فقد کانت بيننا أحاديث ممتعة لست أنساها، وإن لم يعلم بها الدکتور لأنه لم يقرأ هذا الکتاب.

والصلة حين تنشأ علي الأخلاق تکون مترکزة علي العقل، ومتصلة بأعماق النفس، وفي هذا ما يضمن لها البقاء، ويحفظها عن تسرب الوهن.

علي أني ولست أظلم الحقيقة فيما أقولـ توسمت في الدکتور صفة منذ اليوم الأول، وأکدت لي الراءات المتتابعة صحة هذا التوسم، وسيؤکدها أيضا ً ما أقرأه بعد من منتوجات الأستاذ الجليل، لأن هذه الصفة ثابتة للدکتور من دون ريب، ويستحيل أن لا تکون.

توسمت في الدکتور صفة لا يرضاها لنفسه، وماذا عليّ من جحوده لهذه الصفة إذا ارتضاها له عمله، وأکثر الناس ينکرون صفاتهم التي يکرونها، ويتنکرون لمن وصفهم بها أشد التنکر، وللواقع سلطان نافذ الحکم علي المدّعي والمنکِر.

توسمت في الدکتور يوم رأيته ناقدا ً إنه لم يخلق للنقد وإنما خُلق للتاريخ، وکأن الطبيعة هيأته لأن يکون مؤرخا ً کبيرا ً يستعرض التاريخ بحروفه وصروفه، ويستقرء الحوادث أسودها وأبيضها، يلقيها دروسا ً علي تلاميذه في الجامعة، ويحررها کتبا ً لقرائه الآخرين، ولکن الطبيعة لم تهيئه لأن يکون ناقدا ً في يوم من الأيام.

أقول: إن الطبيعة لم تهيئه للنقد ولا يشبه النقد، لأني لم أجده موفقا ً في نقوده الکثيرة إلا إذا کان غيره مصدر ذلک النقد، وکان نصيبه منه نصيب المؤرخ من التأريخ.

هذا ما أقوله في الأستاذ بعد تجارب سنين، وهذا ما أتحدّي القاريء إلي تجربته في نقود الأستاذ، علي أن ينظر إليه کاتبا ً عربيا ً له محاسنه وله مساويه، وقد يکون في القرّاء من علم ذلک قبلي، فلست أريد الإستيثار بالحقائق وإن کانت حلوة، فکيف بالحقائق المرّة.

أضفت هذا التوسم إلي تلک الصلة منذ سنين، فکانت مطالعاتي لکتب الأستاذ ومقالاته تمد لي هذه الصلة بالقوة وتؤکد لي هذا التوسم بالثبات والرسوخ، حتي أصبحت الصلة صداقة، وانقلب التوسم رأيا ً.

ولست أظن أن الأستاذ يغضب من رأيي هذا لأني لست فيه من الظالمين وليس عليّ من حرج أن أُغضب صديقا ً في الحق، وإن کان هو الدکتور أحمد أمين وقد أوصانا الدکتور في کتاب الأخلاق أن لا نداهن في الحق، وأن لا نغضب علي أحد لأنه يقول الحق.

تعرفت إلي الدکتور قديما ً في کتابي الأول، فلست أظن أنه ينکرني إذا التقيت به في کتابي الأخير، لأن صلة الأدباء صلة في العقول، وصلة العقول لا تخضع للزمان ولا للمکان، ولا تقف دونها الحواجز.

وسأجهد أن تکون صلتنا اليوم أشد من صلتنا بالأمس لأن کتابي هذا بجميع فصوله سيحوم حول نظرية من نظريات الدکتور، وسيحاسبه عن فکرة من أفکاره و للقارئ أن يسايرنا إلي الغاية إذا أعجبه هذا اللون من الحديث، وإذا لم تستطع هذه المقدمة أن تغضب الدکتور فأنا ضمين له أن الکتاب لا يستطيع أن يغضبه أيضا ً، لأن کل ما فيه دليل علي هذه الدعوي وبرهان علي هذا الرأي.

ليقرأ الأستاذ کتابي هذا علي أنه تفاهم حول فکرة نقدها الناقد طلبا ً للحق، وأثبتها المُثبت طلبا ً للحق أيضا ً وحاول الکتاب أن يستخلص الحق من بين ذلک الشک وهذا اليقين.

لهذه الغاية وحدها حرّرتُ کتابي والحق يشهد عل ما أقول، والآراء إنما تُؤسس للرد أو للقبول.

(المهدي والمهدوية) عنوان لکتاب جديد حاول الدکتور أن يشرح فيه فکرة المهدي بعض الشرح، وأن يلُمّ بتأريخها کل الإلمام، ولکن قلة المصادر قصرت بالأستاذ عن الغاية، فلم يوضّح في الشرح، ولم يُنصف في التأريخ والکاتب في تفسير العقائد المذهبية إذا اعتمد علي التأريخ وحده، أو علي ما يکتبه خصوم ذلک المذهب فقد فاته من موضوعه کل شيء، والدکتور يعترف بقلّة المصادر عنده.

ويضاف إلي قلة المصادر قلة تتبع الدکتور لما بين يديه من هذه المصادر، ولو کان شديد التتبع لعلم أن الکتاب الذي بين يديه في شرح قصيدة العلامة بهاء الدين العاملي غنما هو للشيخ أحمد المنيني الحنفي المتوفي سنة 1172للهجرة، وليس هو لناظم القصيدة کما يقول في ص31.

أقول: لو کان متتبعا ً لمصادر البحث في هذا الشرح ما دام يعتقد أن کاتبه أحد علماء الشيعة و لاطلع علي الخلاف الشديد بين الشارح والناظم في کثير من أبيات القصيدة، ولتوقف في هذه النسبة التي تسرع بها في کتابه، لم أستغرب لهجة الأستاذ حين يقول عن أئمة الشيعة أنهم يختفون عن الأعين، ويعيشون علي الوهم.

لم أستغرب هذا ونظائره من الأستاذ في کتابه الجديد فقد سمعت لهجته القديمة في کتبه الأولي ولست أنتظر منه تغييرا ً في لهج’، أو تعديلا ً في أسلوب، وإذا کان قليل المصادر حين ما کتب فجر الإسلام، وضحي الإسلام، فإنه قليل المصادر أيضا ً حين ما يکتب المهدي والمهدوية، فللهجة هي اللهجة، والمعاذير هي المعاذير، وعلي الله الوصول إلي نهاية المطاف.

لم أستغرب جميع هذا من الأستاذ، ولکني أستغرب جدا ً أن يحاول بعد هذا کله أن يکون من دعاة الوحدة بين المسلمين...أرأيت أسلس من هذه النتيجة لهذه المقدمات.

أما بعد فإني سأستعرض فکرة المهدي من نواحيها الخاصة بالشيعة الإثني عشرية، وإن خَلط الدکتور بين نواحيها الکثيرة، فکوّن من مجموع المُلابسات مزيجا ًعجيباً نتبرأ منه کل طائفة علي انفرادها، وهذا أول شيء يؤاخذ به سعادة الدکتور.

النجف 1 ذي الحجة الحرام 1370.

محمد أمين زين الدين