شهادته بالسم
تشير الدلائل إلي أن أبا محمد الحسن عليه السلام مات مسموماً علي يد النظام، وذلک لما ذکرنا من أن النظام لا يزال مذعوراً فاقداً لشرعيته مع وجود الأئمة عليهم السلام بين ظهراني الأمة وهم معارضة صامتةً کما ذکرنا، لذا فإنّ أضمن الحلول في ذهن النظام هو تصفية الإمام بل الإسراع في ذلک، وهو أسلوب استعمله النظام طوال تأريخه مع الأئمة عليهم السلام بدلاً من محاولة المعايشة السلمية التي کان أحري للنظام انتهاجها، فإنّ في تصفية إمام الوقت سيخلق جواً من عدم الثقة بين النظام وبين الأمة التي باتت تنظر إلي النظام بأنه وجود إرهابي يحکم بالقهر والغلبة مع ما يملکه من آليات التصفية التي لا تأمن الأمة شرها في يوم ما.
لذا فالنظام الذي يتمثل بالمعتمد العباسي يعمد اليوم إلي تصفية الإمام بدس السم إليه، بل احتمالات تصفية الإمام العسکري عليه السلام بالسم من قبل النظام ستکون أقرب من غيرها، فهي المتوقعة من قبل النظام والنتيجة الحتمية في نهاية الإمام عليه السلام بعد ذلک.
فالإمام العسکري عليه السلام هو الحادي عشر من أئمة آل البيت عليهم السلام، وهو المولود منه المهدي الموعود الذي سيکون بديلاً عن أنظمة الحکم عند ذاک، فمتي يستقر للنظام حال مالم تجر تصفية الإمام علي يديه وملاحقة المهدي الموعود لغرض تصفيته کذلک لينتهي کل شيء.
هذا هي حسابات النظام، وهذا ما دفع بالنظام إلي معاجلة الإمام عليه السلام واغتياله.
فاحتمالات شهادته بالسم هي التي يمکن أن نقطع بها جزماً دون أدني شک، وإلاّ ما الذي أصاب الإمام العسکري عليه السلام وهو في الثامنة والعشرين من عمره الشريف وفي أوج سلامته وصحته فيعتل يومين ويموت دون أدني مقدمات ضعفٍ أو مرضٍ تلوح علي الإمام؟ والمتعارف لأبناء هذا العمر أن لا يموتوا إلا بعد حادثةٍ عرضية أو أمرٍ مدبّرٍ يودي بحياتهم، وإلاّ فمن المفروض عادةً أن لا نقبل بوفاة الإمام عليه السلام دون أدني احتمالٍ لتصفيته جسدياً.
وفي أيدينا ما يدين النظام کذلک، إذ تکرر حبس الإمام عليه السلام مع أصحابه دون سابق أسبابٍ قانونية تبيح للنظام حبسه أو إقامته الجبرية في بيته في أحسن الأحوال، أو مراقبة تحرکاته والتضييق عليه في أحايين کثيرة.
و لم تکن هذه القرائن وحدها تتهم النظام وتدينه في قتل الإمام عليه السلام، بل هناک اتفاق لدي علماء الإمامية بأن النظام قد أقدم علي قتل الإمام عليه السلام وتصفيته فضلاً عن اتفاق علماء أهل السنة علي ذلک.
قال الأربلي في کشف الغمة عند تأريخه للإمام العسکري عليه السلام: وذهب کثير من أصحابنا إلي أنه عليه السلام مضي مسموماً، وکذلک أبوه وجدّه وجميع الأئمة عليهم السلام خرجوا من الدنيا بالشهادة، واستدلوا علي ذلک بما روي عن الصادق عليه السلام: والله مامنا إلا مقتول أو شهيد. [1] .
وإذا أجمعت الطائفة علي صحة الحديث هذا، فقد أجمعت علي شهادته عليه السلام بالسم دون أدني ريب، ولا حاجة بعد ذلک إلي التصريح عن الأمر في تأريخهم لأئمة آل البيت عليهم السلام، حيث تعد شهادتهم أمراً مسلّماً لا يختلف عليه أحد من أهل البحث والتحقيق.
وقال أبو جعفر الطبري الإمامي في ترجمة أبي محمد العسکري عليه السلام:
استشهد ولي الله وقد کمل عمره تسعاً وعشرين سنة، ومات مسموماً يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول، سنة ستين ومائتين من الهجرة بسر من رأي ودفن في داره بجنب أبيه. [2] .
وانظر ما ذهب إليه ابن شهر آشوب [3] في شهادته عليه السلام بالسم وغيره کثير.
أما علماء أهل السنة ومؤرخيهم، فقد ذکروا شهادته مسموماً بقولهم:
قال ابن حجر في الصواعق المحرقة في تأريخه للإمام العسکري عليه السلام: وعمره ثمانية وعشرون سنة، ويقال أنّه سم أيضاً ولم يخلّف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة. [4] .
وابن الصباغ المالکي في الفصول المهمة قال: ذهب کثير من الشيعة إلي أن أبا محمد الحسن مات مسموماً وکذلک أبوه وجده وجميع الأئمة الذين من قبلهم خرجوا کلهم تغمدهم الله برحمته من الدنيا علي الشهادة، واستدلوا علي ذلک بما روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: ما منا إلاّ مقتول أو شهيد. [5] .
والسبط ابن الجوزي قال: وکانت وفاته في أيام المعتز بالله، ودفن بسرّ من رأي، وقيل أنّه مات مسموماً. [6] .
إلي هنا عرفنا کيف يتعامل النظام مع أهل البيت عليهم السلام الذين اختاروا أسلوب المسالمة والمهادنة مع أنظمة زمانهم، ولم يغب عن هذه الأنظمة موقف الأئمة عليهم السلام وابتعادهم عن ممارسة المعارضات المسلحة، بل توفرت لدي الأنظمة معلومات موثقة في نهي الأئمة عليه السلام أتباعهم عن الدخول في هذه المعارضات المسلحة الکفيلة بزعزعة أمن النظام وذعره علي أقل تقدير.
ولم تهدأ تحريات السلطة عن أنشطة الأئمة عليه السلام حتي تيقّنت بأن الحرکات المسلحة والمعارضة لا ترتبط بأدني علاقة بالأئمة عليه السلام بالرغم من رفع أکثرها لا فتاتٍ علوية تدعو للرضا من آل محمد صلوات الله عليهم.
هذه المواقف وغيرها من أئمة آل البيت عليهم السلام لم (تطمئن) النظام علي مستقبله علي ما يبدو، فهو لا يزال يعيش هاجس الخوف والترقب الحذر من الأئمة عليهم السلام.
فکيف بمن تظافرت أخبار الفريقين علي أنه الذي يملؤها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، أي أن أطروحة التغيير التي سيتکفلها الإمام المهدي عليه السلام تعد حافزاً مهماً علي إظهار النظام قلقه من ولادة المهدي الموعود إذن، وستکون مبررات ذعره من ذلک متوفرة إذا ما علمنا أن المهدي الموعود هو إحدي مسلّمات الفکر الإسلامي الذي لا يختص بجماعةٍ دون غيرها.
من هنا أعد النظام عدته لتصفية الموعود، ووضع خطته الأمنية لمحاولة إلقاء القبض علي هذا الوليد الذي سينهيه النظام متي ما ظفر بوجوده، وإذا تمت تصفيته فإنّ النظام سيعيش في ضمانةٍ أمنية واسعة تضمن کيانه من الانهيار ومستقبل الأنظمة القادمة کذلک.
هذه هي أطروحة النظام (الأمنية) في محاولة تصفية المهدي الموعود التي من خلالها سيحصل علي مکسبٍ أمني يضمن بقاءه والأنظمة القادمة کذلک.
لذا فستکون حتمية تصفية الإمام المهدي عليه السلام من قبل النظام أقرب للواقع الأمني الذي يعيشه النظام بکل هواجسه ومخاوفه، وهو ما دعاه إلي اتخاذ إجراءات المطاردة للإمام وعائلته وخواصه.
ولعل صورة لأحداث رحيل الإمام العسکري عليه السلام توقفنا علي مدي تشدد النظام في إجراءاته الأمنية التي حاولت سبق الأحداث، بغض النظر عن کونها أثمرت الهدف المنشود للنظام أم أُحبِطت في ظل الإجراءات (الوقائية) التي عملها الإمام العسکري عليه السلام من قبل، والتکتيکات التي مارسها الإمام المهدي عليه السلام إبان رحيل والده.
فقد روي الصدوق في ذلک روايةً طويلة تحدثت عن جهات عدة، لعلها تفيدنا في تحديد ملامح الظرف الذي عاشه الإمامان العسکري والمهدي عليهما السلام في ظل تحضيرات النظام الأمنية وهواجس الخوف التي کان يعيشها، إلي جانب ذلک توضّح ما يکنه النظام وأتباعه وجميع الأمة من إجلال الإمام وإکباره واختلاف التعامل لدي التشکيلات الرسمية والشيعية المختلفة.
پاورقي
[1] کشف الغمة في معرفة الائمة (ع) 2: 934.
[2] دلائل الإمامة للطبري: 219.
[3] مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 3/ 455.
[4] الصواعق المحرقة: 208.
[5] الفصول المهمة: 286.
[6] تذکرة الخواص: 324.