لماذا غيبة الإمام
بعد أن عرفنا إجماع المسلمين علي أن الأئمة من قريش اثني عشر، وبعد أن أجمعوا علي أن الثاني عشر منهم يملک الأرض فيملؤها قسطاً عدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، علمنا أن أطروحة السلطة ستتجه نحو محاولة البحث والمطاردة عن هذا الثاني عشر الذي سيکون بديلاً عن أنظمتهم وحکوماتهم.
أي أن أطروحة الإمام المهدي عليه السلام هي تهديدٌ حقيقي لأنظمة الحکم ومحاولة استبدالها بنظامٍ عالمي يأخذ بزمام الأوضاع العالمية ويحطّم أسطورة خلافة القوة والغلبة التي مارسها بنو العباس وأمثالهم وکسبوا من خلالها (شرعيةً سياسيةً) لا تنازع حتي عدّوا الخارج علي کيانهم خارجاً عن شرعية الخلافة والإمامة..
هکذا صوّر الحکام وجودهم وشرعيتهم المفتعلة، وهکذا تعاملوا مع الأطروحات الخارجة علي سلطتهم، وعدّوهم خارجين علي جماعة المسلمين وخليفتهم، وبهذا فهم يستحقون عقوبة القتل والتنکيل، ومن ثم تمت تصفية المعارضات السياسية والدينية علي حدّ سواء، وکان نصيب الأئمة عليهم السلام التصفيات الجسدية (المنظّمة) من قبل خلفاء عصرهم، حيث تولي کل خليفة تصفية إمام عصره بما أکد أن أئمة أهل البيت عليهم السلام قد تعرضوا إلي محاولات تنکيل تنتهي أخيراً بالتصفية الجسدية.
هذا هو تأريخ العلاقة بين أهل البيت عليهم السلام وخلفاء عصرهم، تصفيات جسدية تتبعها محاولات مطاردة وتنکيل بأتباعهم الذين يلتزمون نهجهم ويدينون بإمامتهم، إلا أن أسلوب التقية الذي فرضه أئمة آل البيت عليهم السلام علي مجمل العلاقات بين قواعدهم وبين السلطة وبينهم وبين هذه القواعد کذلک أحبط محاولات السلطة العدوانية الهادفة لسحق القواعد عن آخرهم ودون أن يبقي لذکر شيعة أهل البيت عليهم السلام من أثر.
علي أننا نؤکد أن أئمة آل البيت عليهم السلام لم يقروا أطروحة التغيير لأنظمة الحکم هذه بأسلوب عسکري أو بحرکةٍ معينة، وذلک لعلمهم المسبق الغيبـي بعدم تمامية أية حرکة ثورية مسلحة، فضلاً عمّا تؤکده القرائن الحالية من عدم تمامية المنهج الثوري التغييري المطروح من قبل فصائل ثورية شيعية کثورة زيد بن علي عليه السلام، أو ثورية تدعي التشيع کحرکة أبي سلمة الخلال وغيرها، وذلک لعدم جدوي قيام نظامٍ إسلامي شرعي يقوده أهل البيت عليهم السلام في ظروفٍ سياسية مضطربة، واجتماعية غير رشيدة أو دينية غير ناضجة تنسجم والنهج الإلهي لأهل البيت عليهم السلام.
هذه هي خلاصة الموقف الذي کان يلتزمه أهل البيت عليهم في التعامل مع حرکات الإصلاح السياسي المضطرب لدولتي بني أمية وبني العباسي.
لذا فإنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يتعاملوا مع هذه الحرکات الثورية، بل کانوا ينهون أتباعهم في الدخول ضمن هذه الحرکات المسلّحة التي تؤدي أخيراً بأتباعها إلي التصفية الکاملة وسحقها من قبل النظام، وکان النظام علي علمٍ بعلاقة الأئمة عليهم السلام مع هذه الحرکات المسلّحة والموقف السلبي، أي غير المؤيد أو الساکت ـ علي أقل تقدير ـ لهذه الحرکات المسلحة التي يعرف الأئمة عليهم السلام نتائجها سلفاً، وهو فشلها وسحقها من قبل النظام..
کان النظام يعلم بعدم مشارکة الأئمة عليهم السلام وشيعتهم في هذه الأنشطة الثورية والحرکات المسلحة، وهو مع هذا يلقي باللائمة علي الأئمة ويتهمهم بمحاولة تهديد أمن الدولة والإطاحة به، وهي إشارة واضحة إلي أنّ وجود الأئمة عليهم السلام هکذا دون أية مشارکة تعد معارضةً صامتة تهدد کيانه، وذلک لأن النظام يفقد شرعيته الحقيقية وهو يحصل بعد ذلک علي (شرعيةٍ) يأخذها بالقوة والقهر من قبل قطاعات الأمة التي ترزح تحت مطرقة النظام الدموية، والأمة بعد ذلک تقر الشرعية الإلهية لأهل البيت عليهم وتعترف قطاعاتها بإمامتهم إلاّ أن هذا الاعتراف والإذعان يختلف باختلاف المدارس التي ينتمي لها هذا القطاع أو ذاک.
فالذين يدينون بمذهب التشيع يلتزمون بإمامة أئمة أهل البيت عليهم السلام والنص عليهم دون أدني ريب، والذين ينتمون لمدارس إسلامية أخري غير شيعية يذعنون ـ هم الآخرون ـ بأحقية الأئمة عليهم السلام بالخلافة والإمامة وإن اختلفوا مع أتباع أهل البيت عليهم السلام بجزئيات وتفاصيل الإمامة إلاّ أنهم يذعنون لها مجملاً دون أدني ريبٍ کذلک. ونموذج من هذا الإذعان لإمامة آل البيت عليهم السلام نستعرض ما ذکره ابن الصباغ المالکي في الفصول المهمة في مناقب الإمام الحسن العسکري عليه السلام فقال:
مناقب سيدنا أبي محمد الحسن العسکري دالة علي أنه السري ابن السري، فلا يشک في إمامته أحد ولا يمتري، واعلم أنه يبعث مکرمة فسواه بايعها وهو المشتري، واحد زمانه من غير مدافع، ويسبح وحده من غير منازع، وسيد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة، وأفعاله حميدة، وإذا کانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقداً کان مکان الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجاري، ومبين غوامضها فلا يحاول ولا يماري، کاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفکره الثاقب المحدّث في سرّه بالأمور الخفيات، الکريم الأصل والنفس والذات. [1] .
وقال العلامة محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول: اعلم أنّ المنقبة العلياء والمزية الکبري التي خصه الله بها، وقلده فريدها، ومنحه تقليدها، وجعلها صفة دائمة لا يبلي الدهر جديدها، ولا تنسي الألسنة تلاوتها وترديدها، أن المهدي محمداً نسله منه، ولده المنتسب إليه، بضعته المنفصلة عنه. [2] وکانت له عليه السلام هيمنته علي النفوس حتي علي شر خلق الله، فإنّ لهيبته وجلالته أثرٌ في استقطاب أعتاهم وأشدهم، روي المفيد أنّ العباسيين دخلوا علي صالح بن وصيف عندما حبس أبو محمد عليه السلام فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع، فقال لهم صالح: ما أصنع به؟! قد وکلت به رجلين شرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلي أمرٍ عظيم، ثم أمر بإحضار الموکلين فقال لهما: ويحکما ما شأنکما في أمر هذا الرجل؟ فقالا له: ما نقول في رجلٍ يصوم النهار ويقوم الليل کلّه، لا يتکلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لانملکه من أنفسنا: فلما سمع ذلک العباسيون انصرفوا خاسئين. [3] .
إذن فالنظام الآن يعيش هاجس شرعية آل البيت عليهم السلام التي تعترف لهم الأمة جميعاً، وفي نفس الوقت يعيش هاجس شرعيته المفقودة، وهو مهما فعل من إصرارٍ وقهر علي إذعان الأمة لشرعيته فهم لا يعترفون بها إلاّ من خلال القوة فقط.
هذه الهواجس يعيشها النظام طالما يعيش أهل البيت عليهم السلام أحياء تنظر إليهم الأمة جميعاً بأنهم التعبير الوحيد عن سلامة الدين وعافيته، وکونهم يمثلون الرسالة ومکارم الوحي، وامتداد النبوة، فمتي يبقي للنظام بعد ذلک شرعية لولا قوته وبطشه لهؤلاء المغلوبين علي أمرهم والمستضعفين الذين يعيشون تحت سطوة النظام؟
هذه صورة مجملة عن علاقة النظام بأئمة أهل البيت عليهم السلام بعدما التزموا بحالة التعايش والمهادنة مع النظام حفاظاً علي الکيان الإسلامي المتمثل بهم، والحفاظ ـ کذلک ـ علي قواعدهم وقطاعات أتباعهم المنبثين تحت وطأة النظام وغلبته.
أي أن أئمة أهل البيت عليهم السلام أجّلوا محاولات التغيير المسلح إلي وقت يعد النتيجة الحتمية لقبول أطروحتهم الإلهية، وذلک بعد فشل کل أطروحة تقدمها الاتجاهات المدعية للشرعية الإسلامية وإخفاقها في غمرة ظروف تعجز فيها عن إثبات قابليتها، أي لا تبقي حينئذ سوي الأطروحة الإلهية لأهل البيت عليهم السلام، والتي يتولي تنفيذها الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف.
إنّ الأطروحة المهدوية هذه ستکون حقيقة واقعة وقضية إسلامية محتومة لا يمکن تجاوزها بعد أن تعهدت الأحاديث النبوية بإثباتها والتعامل معها تعاملاً حسياً واقعيا، أي ستکون الأطروحة المهدوية نقطة اشتراک فکري عقائدي بين جميع المذاهب الإسلامية دون استثناء، فالأحاديث الواردة عن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف مسألة تتعامل معها جميع المدارس الإسلامية بکل اتجاهاتها، فهي لا تقتصر علي اتجاه دون اتجاه، أو رؤية دون رؤية.
أي أن الاعتقاد المهدوي غير مقتصر علي الفکر الشيعي وحده بقدر ما هو اتجاه إسلامي يشترک الجميع في الاعتقاد به والتسليم إليه.
ومن هذا المنطلق تعامل الخلفاء العباسيون مع الأطروحة المهدوية تعاملاً حقيقياً جدياً، فباتوا يعيشون هاجس الظهور المهدوي الذي يزلزل کيانهم ويهدد وجودهم.
وطبيعي أن هذه الهواجس ستکون کفيلة وحدها بالتعامل مع الإمام الحسن العسکري عليه السلام تعاملاً مشوباً بحذر دائم، تتوقع من خلاله السلطة إمکانية إيقاف هذا المد الإمامي الذي سيتمثل بولده الموعود، وهو المهدي الذي أذعن خلفاء بني العباس بحتمية وجوده الآن أو مستقبلاً، لذا فعلي السلطة إذن ـ بعد غياب الرؤية الواقعية عن وجوده وولادته ـ اتخاذ الإجراءات الأمنية الکفيلة بتطويق هذا الخطر القادم بولادة الموعود، وذلک إذا ما عرفنا أن السلطة أظهرت فزعها بُعيد وفاته عليه السلام وبدأت بعمليات بحثٍ وتحري کاملين عن الوليد الموعود، وهو المهدي الذي سيکون بديلاً عن السلطة فيما تحسب هي ويحسبه الآخرون.
پاورقي
[1] الفصول المهمة لابن الصباغ المالکي: 286.
[2] مطالب السؤول: 88.
[3] الإرشاد للشيخ المفيد: 2/ 334.