بازگشت

منع رواية و کتابة احاديث رسول الله


قبضت بطون قريش علي مقاليد الأمور حتي قبل أن يدفن رسول الله، وکانت أول المراسيم التي أصدرتها دولة الخلافة أن منعت رواية وکتابة أحاديث الرسول -.



[ صفحه 90]



لأن کتابة ورواية أحاديث الرسول - تسبب الخلاف والاختلاف بين الناس!!! هکذا ورد بالمرسوم الأول لدولة الخلافة، وجاء بالمرسوم أيضا: (فمن سألکم عن شئ فقولوا بيننا وبينکم کتاب الله)!!! فلم يعد بوسع أهل بيت النبوة، ولا بوسع غيرهم أن يروي حديثا أو يحتج بحديث إلا إذا کان هذا الحديث مؤيد لدولة الخلافة أو لسلوکها أو لاتجاهاتها، أو لسياساتها عندئذ يصبح هذا الحديث، أو ذلک سندا شرعيا لوجود دولة الخلافة، أو لسلوکها أو اتجاهها أو سياستها. کذلک لم يعد بوسع مسلم أن يکتب أحاديث الرسول، بل شجعت الدولة علي حرق المکتوب من أحاديث الرسول، وبدأ الخليفة الأول بنفسه حيث کان قد کتب خمسمائة حديث أثناء حياة الرسول، قالت أم المؤمنين عائشة فبات الخليفة يتقلب ولما أصبح الصباح أحرق الأحاديث التي کتبها فعلمت أم المؤمنين عائشة ابنته بأنه لن يعدل بکتاب الله شئ، ولما جاء الخليفة الثاني اشتد في هذه الناحية فناشد الناس أن يأتوه بکل ما کتبوا من أحاديث رسول الله، وظن الناس أنه يريد أن يدونها ويکتبها فجاءوه بها فلما وضعت بين يديه أمر بتحريقها، وکان يوصي جيوشه قبل توجهها للقتال بعدم التحديث عن رسول الله!! حتي لا يصدوا الناس عن القرآن الکريم!!

وکان يقرع بشدة الذين يحدثون عن رسول الله!! وکان يحبس بعضهم بتهمة الإکثار من التحديث عن رسول الله، وأحيانا يضرب بعضهم، لأنه لا يريد إلا القرآن، ولأنه مقتنع بأن القرآن وحده يکفي!! وقد سبقت هذه الحملة الرسمية حملة سرية قادتها بطون قريش، حتي والرسول علي قيد الحياة، ونهت أولياءها من أن يکتبوا أحاديث رسول الله بحجة أنه بشر يتکلم في الغضب والرضي!!

والأخطر من ذلک أن سنة الرسول الثابتة في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية صارت مجرد اجتهادات شخصية، وکان بإمکان الخليفة وبکل أعصاب هادئة أن يخالفها تماما، فالرسول مجتهد والخليفة مجتهد، ولا حرج أن خالف المجتهد مجتهدا مثله!!! فعلي سبيل المثال کان الرسول يقسم المال بين الناس بالسوية لأن حاجات البشر الأساسية متشابهة، وهکذا فعل الخليفة الأول، ولما آلت الخلافة إلي الخليفة الثاني رأي أن الأنسب والأصوب عدم المساواة بين الناس في العطاء، بل عطاء الناس حسب منازلهم، فاجتهد وعمل جدولا للمنازل،.



[ صفحه 91]



ووزع العطاء حسب هذا الجدول!! وحسب هذا الجدول لم يساو حتي بين زوجات النبي، وقد أدت عدم التسوية في العطاء إلي نشوء الطبقات فملک بعض الناس الملايين من الدنانير الذهبية بينما کان الآلاف من المسلمين لا يجدون رغيف العيش، ولما رأي الخليفة الثاني تلک الآثار المدمرة لعدم التسوية في العطاء قال وبکل بساطة: (لئن استقبلت من عامي ما استدبرت لأعملن بسنة النبي وصاحبه ولأسوين بين الناس بالعطاء)!!!!!

ولما آلت الخلافة للخليفة الثالث کانت أول مراسيمه الإعلان عن عدم السماح برواية أي حديث لم يسمع به في زمن الخليفتين الأول والثاني. واستمر المنع الشامل علي کتابة ورواية أحاديث الرسول. خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأول ترسخت مفاهيم معينة عن الحديث النبوي والسنة النبوية بشکل عام وارتبطت هذه المفاهيم بالسلطة الغالبة التي أرست حجر الأساس العملي للفترة التي تلت موت النبي. فإذا استعرضنا الأحاديث التي أذنت السلطة بشيوعها وانتشارها خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأول نجدها منصبة بالدرجة الأولي والأخيرة علي تمجيد قريش وإبراز مکانتها کعشيرة النبي، وعلي فضائل الخلفاء الثلاثة ومصاهرتهم للنبي، ومکانتهم عنده، ودورهم البارز في نصرة النبي.

والترکيز علي أن الرئاسة أو الإمامة أو الخلافة أو القيادة حق خالص للمسلمين، فهم وحدهم أصحاب الاختصاص ببيعة من يريدون، أما الأحاديث والسنن المتعلقة بالأحکام والعبادات والمعاملات، فلا حرج من روايتها إن کانت لا تتعارض مع اجتهادات الخلفاء وعلومهم، واجتهادات وعلماء أولياء الخلفاء.

وهکذا خضعت کتابة ورواية الأحاديث لرقابة السلطة الصارمة، فمنع رواية الحديث وکتابته شامل وکامل، ولکن السلطة أذنت بل وشجعت علي رواية وکتابة ما يخدم سياستها وتوجهاتها العامة، وما يرغم أنوف معارضيها ويکبتهم، وقربت رواة تلک الأحاديث، فکعب الأحبار الذي أسلم بعد وفاة النبي يصغي إليه، ويتکلم ويسأل، وتقرب مکانته، وأبو ذر، وحذيفة وعمار بن ياسر يجبرون علي السکوت، ويطاردون في الأرض، ويضربون وينفون من الأرض.

وما يعنينا بأن الأحاديث المتعلقة بالإمامة أو الولاية من بعد النبي،.



[ صفحه 92]



والأحاديث المتعلقة بمکانة أهل بيت النبوة وفضائلهم کانت محظورة ومحصورة حصرا تاما، وحيل بين الناس وبين معرفتها، وتم تجاهل أهل بيت النبوة سياسيا تجاهلا تاما، وتم استبعادهم وأولياؤهم عن کافة مراکز التأثير والخطر فتأخروا وهم المتقدمون، وتقدم عليهم کافة المتأخرين، فمع وجود علي بن أبي طالب يتمني عمر بن الخطاب لو أن سالم مولي أبي حذيفة حيا ليوليه الخلافة، وسالم هذا مولي لا يعرف له نسب في العرب، فعمر بن الخطاب يعتقد حسب اجتهاده وموازينه أن سالم مولي أبي حذيفة هو أولي بخلافة النبي من علي بن أبي طالب ابن عم النبي، وأول المؤمنين به، وزوج ابنته ووالد سبطيه، وفارس الإسلام والولي الرسمي لکل مؤمن ومؤمنة، وسيد العرب وسيد المسلمين وإمامهم بالنص الشرعي!!

وعندما تمني عمر لو أن سالم أو خالد، أو أبا عبيدة، أو معاذ بن جبل أحياء لولي أحدهم الخلافة، ويوضح عمر الأسباب فيقول فلو سألني ربي عن ذلک لقلت سمعت نبيک يقول، ويروي حديثا سمعه عن النبي في کل واحد من أولئک الذين تمني عمر حياتهم!! والمثير حقا أن عمر نفسه سمع النبي يقول: (من کنت وليه فهذا علي بن أبي طالب وليه، ومن کنت مولاه فهذا علي مولاه، وسمع النبي وهو يقول عن علي: (إنه وليکم من بعدي) وسمعه وهو يقول له أنت سيد العرب، وأنت سيد المسلمين وإمام المتقين، والاهم من ذلک أن عمر نفسه قد هنأ الإمام علي بالولاية في غدير خم...

لکنها سياسة لجم الحديث النبوي وإلزامه علي السير بما يتلاءم مع توجهات السلطة وإرغام أنوف معارضيها.

لما آلت الخلافة لعلي بن أبي طالب، وبايعته الأکثرية الساحقة التي بايعت الخلفاء الثلاثة، وجد أن دائرة الحصار والخطر علي کتابة أحاديث الرسول محکمة تماما وأنه ليس من اليسير اختراقها وبيان الحقائق الشرعية للناس، لأن مضامين هذه الدائرة قد استقرت بعد أن أصبحت منهاجا تربويا وتعليميا رسميا للناس خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأول، فأوجد الإمام طريقة خاصة لاختراق تلک الدائرة وفتح نوافذ فيها، فکان يشهد ويحدث شخصيا بما سمعه من النبي، وکان يغتنم فرصة



[ صفحه 93]



تجمع الصحابة في اجتماع عام ويناشد قائلا: (نشدت الله امرءا مسلما سمع رسول الله في المکان الفلاني قد قال کذا أن يقوم... فيقوم العشرة والعشرون، ليشهدوا علي أن الرسول قد قال کذا بالفعل، وکان يصدف أن بعض شانئي أهل بيت النبوة الذين سمعوا رسول الله لا يقومون، وإمعانا بإقامة الحجة عليهم يسألهم الإمام عن سبب عدم قيامهم مع أنه يعرف أنهم قد سمعوا الرسول وهو يقول...

فيدعون النسيان، ويصدف أن يدعوا الإمام علي بعضهم، ويستجيب الله لدعوة الإمام، ويحمل السامع المنکر علامة تشهد بکذبه کما حدث يوم الرجعة ولقد استطاع الإمام علي خلال مدة حکمه أن يکشف للناس ما جهدت السلطة بإخفائه، طوال السنين التي تلت موت النبي الأعظم خاصة الأحاديث المتعلقة بمنصب القيادة من بعد النبي، وبمکانة أهل بيت النبوة، وفضائلهم. وجاء معاوية فسن ما يمکن أن نسميه بحرب الفضائل، فسخر کافة موارد الدولة وإمکانياتها للحط من مکانة أهل بيت النبوة، وللتشکيک بکل ما نشره علي بن أبي طالب وأولياءه عن منصب القيادة من بعد النبي، وللتنکر لکل الفضائل التي قالها رسول الله عن أهل بيته، ولخلط الأوراق خلطا عجيبا أمر معاوية کافة ولاته وعماله أن لا يدعوا فضيلة يرويها أحد من المسلمين في علي وأهل بيت النبوة إلا وجاءوا بمثلها لأحد من الصحابة، فسالت سيول الفضائل، وانفتحت الأرض عن عشرات الآلاف من الرواة، فرووا عشرات الألوف من الفضائل ونسبوها للرسول، ثم أمرت الدولة بتدريس هذه المرويات في المدارس والمعاهد والجامعات، وفرضت دراستها علي العامة والخاصة، فنشأ جيل يعتقد بصحة هذه المرويات، ثم انتقلت هذه المرويات من جيل إلي جيل واقتصر اهتمام المسلمين عليها، وبقي الحظر والمنع علي رواية وکتابة أحاديث الرسول ساريا علي ما سواها، وإمعانا بإرغام أنوف أهل بيت النبوة ومن والاهم أمر معاوية کافة رعاياه أن يلعنوا عليا بن أبي طالب وأهل بيته کما تلعن الشياطين، وأن لا يجيزوا لأحد ممن يحبهم شهادة، وأن يقطعوا عطاءهم ويهدموا دور الذين يوالونهم. (راجع کتاب الأحداث للمدائني، وقول ابن نفطويه في شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 595 تحقيق حسن تميم).

ولما تولي الخليفة الأموي الفاضل عمر بن عبد العزيز الخلافة أدرک خطورة.



[ صفحه 94]



منع کتابة ورواية أحاديث الرسول، وخشي أن يندرس هذا العلم ويموت ما تبقي من أهله، فکتب إلي واليه علي المدينة وکلفه بکتابة أحاديث الرسول، ولأن الخليفة علي علم بتوجهات المجتمع فقد علل قراره بخشيته من موت العلماء، واندراس علم الحديث.

فاحتج علماء عصره، وضج المجتمع الإسلامي الذي تربي علي ثقافة معينة!! وتساءل الناس متعجبين؟ کيف يجرؤ عمر بن عبد العزيز علي اقتراف ما نهي عنه الخلفاء الثلاثة أبو بکر وعمر وعثمان!!! وأهمل أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز عمليا ولم ينفذ، لأن التوجه العام للمجتمع لا يحتمل ذلک، فمن غير الممکن أن يسمح بکتابة ورواية أحاديث صدرت عن رسول الله، تتضمن فضائل علي بن أبي طالب، مثلا في الوقت الذي أمرت فيه الدولة کافة رعاياها بلعنه!!

والتبروء منه!! ولا يحتمل مجتمع دولة الخلافة إبراز فضائل ومکانة أهل بيت النبوة في الوقت الذي تعتبرهم الدولة أعداء الخليفة وأعداء المجتمع!! ولکن علي الرغم من أن أمر الخليفة لم ينفذ عمليا إلا أنه کان ثغرة واسعة في جدار سميک، وإعداد علمي للمجتمع ليرقي من طور إلي طور!!

وبعد قرابة مائة عام علي موت الرسول اقتنع مجتمع دولة الخلافة بضرورة کتابة ورواية أحاديث الرسول، ولم تر دولة الخلافة في ذلک ما يهدد وجودها أو يمس استقرارها، فإيديولوجيتها الواقعية قد رتبت عمليا واستقرت في أذهان العامة خلال مدة المائة العام التي منعت فيها رسميا کتابة ورواية أحاديث الرسول، لهذا کله أذنت دولة الخلافة برواية وکتابة أحاديث الرسول، أو علي الأقل لم تعترض علي هذا التوجه الجديد!!