بازگشت

غربة الاسلام و الايمان


بعد أن حلت عري الإسلام بدءا من الحکم وانتهاء بالصلاة، أصبح الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد غريبا علي المجتمع، إذ لم يبق من الإسلام إلا الشکليات الضرورية لبقاء الملک، والسيطرة علي البلاد المفتوحة باسمه، والمسلمون المؤمنون الحقيقيون الذي بنيت دولة النبي علي أکتافهم صاروا فئة قليلة معزولة غريبة غربة تامة عن مجتمع دولة الخلافة، لأن هذه الفئة تمسکت بالقرآن ووالت أهل بيت النبوة، کما أمرت وشکلت مع أهل بيت النبوة الشيعة المؤمنة التي تحمل إرث الأنبياء والتي عاشت معزولة طوال التاريخ البشري،.



[ صفحه 43]



فأفراد هذه الفئة المؤمنة هم الذين وقفوا مع النبي في لحظات شدته، وهم الذين نهلوا علوم النبوة يوما بيوم، وطبقوها فصلا فصلا، حتي صاروا هم أساتذة المجتمع وينابيع الدين النقية، ولما استولت بطون قريش بالقوة والتغلب علي منصب الخلافة واکتشفت أن هذه الجماعة المؤمنة موالية لله ولرسوله ولأهل بيت النبوة، وأن ولاءها الثلاثي هذا لن يتجزأ لأن هذا الولاء بعرفها هو الدين الحقيقي، عندئذ أدرکت دولة الخلافة خطورة هذه الفئة فنقمت عليها، وعزلتها تماما کما عزلت أهل بيت النبوة، واعتبرت أفرادها غرباء متطرفين، واعتبرت تعاليمهم خطرا علي وحدة الدولة، ووحدة الأمة، وحذرت دولة الخلافة أفراد تلک الفئة بأنهم إن لم يلتزموا بالطاعة، وإعلان الولاء للدولة، فإن الدولة ستسند لهم تهمة مفارقة الجماعة، وشق عصا الطاعة، وتفريق الأمة الواحدة وهي جرائم عقوبتها الموت، وکان واضحا لأفراد تلک الفئة المؤمنة، بأن العامة ينتظرون إشارة دولة الخلافة لقتل کافة أفراد هذه الفئة، وسبي ذراريهم، ونهب أموالهم، لأن العامة لا مطمع فعلي لها إلا المال ورضي الخليفة الغالب طمعا بما في يديه، وتلک حقيقة فلن يکون لأي فرد من أفراد هذه الفئة المؤمنة أهمية أعظم من علي بن أبي طالب، أو من فاطمة بنت محمد، أو من سادات بني هاشم، وقد سمع الجميع ما حل بهم، وما آلت إليه أحوالهم من الذل والهوان والعزلة!!

لذلک من الأفضل لأفراد هذه الفئة أن يتجاهلوا تاريخهم الحافل بالأمجاد، وعلاقتهم الحميمة الخاصة بالنبي، وأن يتبالهوا، فيقوموا بدور التلاميذ الذين يسمعون للأمراء الأساتذة!!!

صحيح أن الأمراء طلقاء لا يفهمون من الدين شيئا، وأن أفراد الفئة المؤمنة هم العلماء، وکان ينبغي أن يکون أفراد الفئة المؤمنة هم الأمراء، والأساتذة، الذين يفيضون علومهم علي الجميع، لکن الخليفة الغالب قد قرر الاستعانة بقوة (الطلقاء) وإثم الطلقاء علي أنفسهم کما قال عمر بن الخطاب، فأصبح الطلقاء أمراء ومن حق الأمير أن يطاع وأن يوجه ويقود المأمورين!! وکان بيد دولة الخلافة وأرکانها آلية الحکم الخاصة، فمن يعصي الخليفة الغالب الذي يتربع عمليا علي ملک الدنيا ونفوذها، يتصرف به علي الوجه الذي يريد بلا رقيب ولا حسيب،.



[ صفحه 44]



ويطيع عليا بن أبي طالب المؤمن الذي لا يملک شروي نقير، ومن يعصي معاوية بن أبي سفيان والي الشام المتصرف بخيراتها تصرف المالک بملکه، ويطيع عمار بن ياسر، وأبا ذر الغفاري، أو المقداد بن عمرو، الفقراء المغضوب عليهم من دولة الخلافة. صحيح أن معاوية بن أبي سفيان مثلا طليق وابن طليق، وأحد أبرز قادة معسکر الشرک الذي قاوم وحارب رسول الله وبکل قواه حتي أحيط به فاضطر مکرها للاستسلام والإسلام، وصحيح أيضا أن معاوية لا يعرف شيئا من الإسلام، وصحيح أيضا بأن عمار وأبا ذر والمقداد من أعمدة الإسلام ومن رواده المؤسسين وبناته ومن علمائه، لکن هذا تاريخ، ومثاليات، بعيدة عن إمکانية التطبيق فالواقع المفروض والوحيد الذي يمکن تطبيقه هو أن معاوية هو الأمير الذي يجب أن يطاع، والمعلم الديني، وأن عمار والمقداد وأبا ذر وأمثالهم مأمورين ومتعلمين، ويجب أن يرهفوا أسماعهم لمعاوية العالم الديني، وأن يتعودوا علي طاعة معاوية الأمير!! وإن لم يفعلوا ذلک فهم عصاة أو مشاغبون يهددون الأمن ووحدة الأمة!! والقانون الإسلامي يطبق علي الجميع لا فرق بين عربي وعجمي، ولا سابق بالإيمان ولا طليق، تلک هي الآلية القانونية التي أوجدتها دولة الخلافة!!!

وقد يخطر ببال عمار مثلا، وکما حدث بالفعل حسب رواية ابن الأثير في تاريخه أن يقدم احتجاجا خطيا إلي الخليفة الرمز يشکو له من أمور لا يمکن تبريرها، حتي وفق آلية الدولة، عندئذ يأمر الخليفة بعض أعوانه الطلقاء فيضربوا عمار بن ياسر، حتي يکسروا أضلاعه، ويرموه أخوار أسوار قصر الخليفة، لأنه تجرأ علي ذکر مثل تلک الأمور، وتجرأ علي الشکوي، وقد حدث هذا بالفعل کما روي ابن الأثير وغيره، وقد يخطر ببال أبي ذر أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنکر، ويحذر من مظاهر البذخ وسوء العاقبة، فيفسر عمل أبي ذر هذا بأنه (إفساد في الأرض) وإفساد للناس، فقد کتب معاوية إلي الخليفة، بأن أبا ذر في طريقه لإفساد الشام وأهلها، عندئذ يأمر الخليفة بنفيه، وينفي من مکان إلي مکان بالفعل خوفا علي أمة محمد من أن يفسدها صاحبه أبو ذر، ويعيش الرجل مطاردا.



[ صفحه 45]



منفيا، ويموت منفيا وحيدا!!! وقد تتولي دولة الخلافة قتل من لا تقوي علي تدجينهم من المؤمنين السابقين، وتسند تهمة القتل إلي الجن، کما فعلت مع سعد بن عبادة سيد الخزرج، فالرسالة الرسمية المصححة والمطلوب من المسلمين المؤمنين الصادقين أن يتناسوا بالکامل کل تاريخهم وعلومهم وعلاقتهم بالنبي، وأن يغضوا أبصارهم تماما عما يجري، وأن يشهدوا بصمت عملية نقض عري الإسلام کلها، وأن يراقبوا عملية التغيير (الإسلامية الکبري) فإن فعلوا ذلک نجوا، ولن يتعرض لهم أحد، ويمکن لکل واحد منهم أن يأخذ عطاءه الشهري، ولن يغضب الخليفة منه، وليس من المستبعد أن يرضي الخليفة وأعوانه عليه!!!

هذه الآلية العجيبة عزلت الفئة المؤمنة عمليا، وحيدتها تحييدا تاما عن التأثير علي حرکة الأحداث التي أدت لنقض عري الإسلام کلها، وبالتالي فقد أصبح الإسلام والإيمان وکافة مضامينهما الحقيقية مفاهيم غريبة تماما، لا تنتمي لحرکة الأحداث، ولا تؤثر علي الأحداث، وهي عرضة للتبديل والتحوير والتغيير، لأن هذه المضامين وفي أحسن الظروف مجرد اجتهادات، لا تقدم ولا تؤخر، ولا تقيد الخليفة، فرسول الله مثلا کان يوزع العطاء بين الناس بالسوية، لا يفرق بين عربي وعجمي وأسود وأبيض، لأن حاجات الناس الأساسية متشابهة ومضي الخليفة الأول علي هذه السنة، ولما جاء الخليفة الثاني اکتشف بأنه ليس من العدل أن يأخذ العربي کالعجمي، وأن يأخذ القرشي کغيره من العرب، لذلک اجتهد فأوجد موازين خاصة ومراتب للناس، وألغي فکرة التسوية بالعطاء، وأعطي الناس حسب مراتبهم عنده، حتي أنه لم يساو بالعطاء بين زوجات الرسول، فلعائشة أم المؤمنين، ولحفصة ابنته وأم المؤمنين درجة أعظم من أم سلمة مثلا، فکانت عائشة مثلا تأخذ اثني عشر ألفا، وکان المئات من الناس لا يحصلون علي معشار هذا المبلغ، ونتيجة هذا الاجتهاد نشأت الطبقية فوجدت فئة يملک کل واحد من أفرادها الملايين، بل المليارات، ووجدت الملايين من الناس التي لا تدرک رغيف العيش إلا بشق الأنفس!! واکتشف الخليفة بعد بضع سنين خطورة الآثار المدمرة لاجتهاده، فصرح بأنه إن عاش العام المقبل سيرجع إلي سنة صاحبه ويوزع المال بالسوية، کما کان يفعل الرسول وأبو بکر!!!. ولا يخفي علي عاقل.



[ صفحه 46]



بأن التسوية بالعطاء هي حکم شرعي صرح به النبي، وطبقه خلال حياته المبارکة، ومن الطبيعي أن هذا الحکم أمر إلهي، لأن الرسول يتبع ويطبق ما يوحي إليه من ربه!! ومع هذا يتصرف الخليفة بهذا الحکم تصرف المجتهد الخبير الذي يتصور أن اجتهاده يمکن أن يکون أقرب للعدل، مما أمر الله به وطبقه رسوله. ويموت الخليفة العادل والناس علي اجتهاده، وجاء اللاحقون فجعلوا اجتهاد الخليفة سنة نافذة، غير قابلة للتغيير!! لماذا! بحجة أنها قد جرت أمام الصحابة فلم ينکر عليه منکر!! أما سنة النبي فلم يسأل عنها أحد، ولم يطالب بإعادتها أحد!! وعلي هذا فقس ما تشاء من الأحکام والقواعد والمفاهيم الإسلامية وعري الإسلام التي حلت کلها.

وهکذا صار الإسلام، والإيمان وکافة مضامينهما ومفاهيمهما غريبة تماما.

هذا علي مستوي الدين.

أما علي مستوي المسلمين المخلصين والمؤمنين الصادقين، فقد صاروا غرباء أيضا عن المجتمع، فهم کفئة جاءت من مجتمع آخر، وسکنت في المجتمع الجديد، واضطرت مکرهة أن تلتزم بقواعد وتوجهات المجتمع الجديد الذي استضافها، لقد عزلتهم دولة الخلافة عن الأکثرية المسلمة عزلا تاما، وشککت بولائهم لأمير المؤمنين ولدولته، وحرمت عليهم تولي الوظائف العامة لأنهم غرباء، وحرمت عليهم أن يکتبوا أو يرووا أو يحدثوا الناس بما سمعوه أو رأوه من رسول الله، باعتبارهم فئة تهدف إلي شق عصا الطاعة وتفريق الأمة المسلمة الواحدة!!!

فصارت الفئة المسلمة غريبة تماما عن المجتمع ويدها مشلولة وقدرتها محدودة علي تغيير ما يجري في المجتمع.

لقد انقلبت الدنيا رأسا علي عقب، فأعداء الله الذين قاوموا الرسول وحاربوه بکل وسائل الحرب، حتي أحيط بهم فاضطروا مکرهين للاستسلام وإعلان الإسلام صاروا قادة المجتمع وأمراؤه وخزنة أمواله وأساتذته، أما أولياء الله الذين وقفوا مع النبي في عسره ويسره، وحاربوا أعداءه وتلقوا وفهموا تعاليم الإسلام، فقد صاروا غرباء، محکومين، واضطروا أن يدخلوا الصفوف الابتدائية، ويتتلمذوا علي يد.



[ صفحه 47]



الذين يجهلون الإسلام، والذين حاربوه بالأمس!!! وأن يقفوا في طوابير طويلة ليأخذوا ما تجود به أنفس الأمراء الجدد الذين کانوا أعداء الله بالأمس!!

إنها غربة الإسلام والإيمان، وغربة المسلمين المخلصين والمؤمنين الصادقين، تلک الغربة التي أخبر عنها النبي، وحذر منها قبل وقوعها بقوله: (إن الإيمان بدأ غريبا وسيعود کما بدأ، فطوبي للغرباء... (وبدأ الإسلام غريبا، ثم يعود غريبا کما بدأ...). (راجع معجم أحاديث المهدي ج 1 ص 71 - 77 تجد العشرات من مراجع هذين الحديثين الشريفين کصحيح مسلم، وابن ماجة، والترمذي، ومسند أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار وغيرهم).

لقد عاشت الفئة القليلة المؤمنة غربة کغربة الفئة المؤمنة التي عاشت في المجتمعات التي سبقت عصر النبوة المحمدية. فمارست عباداتها سرا، ودعت لأمر الله سرا، وکتمت إيمانها، وانتظرت فرج الله لأن قيادة المجتمع قد کانت لها، وخرجت من يدها بالقوة والتغلب وبالکثرة، حيث جرت الأکثرية خلف مصالحها العاجلة، والفرق أن الفئة المؤمنة التي صارت غريبة بعد موت الرسول، صارت تعرف هدفها، وتعرف الوسيلة لتحقيق هذا الهدف، لذلک تجمعت حول أهل بيت النبوة ووالتهم کما أمرت، ونهلت منهم علوم الإسلام، وأخذت تدعو إلي الله ودينه سرا وتنمو يوما بعد يوم، وهدفها هداية الأکثرية الساحقة إلي الطريق القويم لتتحصن الأمة ضد الانحراف والمنحرفين، وعودة الحق والأمر إلي أهله الشرعيين، وإعادة حکم الله الحقيقي إلي الأرض.