طواقم جديدة من الولاة
بعد أقل من شهرين علي وفاة الرسول الأعظم تم عزل کافة العمال والولاة والأمراء الذين عينهم الرسول، وقتل بعضهم شر قتلة، کمالک بن نويرة، ونجا أسامة بن زيد الذي عينه الرسول أميرا علي جيش من العزل بأعجوبة!! وعينت الدولة طواقم جديدة من الولاة والأمراء بدلا من الذين عينهم رسول الله، واقتسمت بطون قريش الوظائف العامة، وحصل البطن الأموي علي نصيب الأسد، لأن هذا البطن قد ساهم مساهمة فعالة بإقامة دولة البطون. وهذا البطن مشهور بعداوته للنبي وببغضه لآل النبي، وحقده عليهم، فالعرب کلهم بل العالم بأسره يعلم بأن أبا سفيان وأولاده خاصة، والأمويين عامة هم الذين قادوا جبهة الشرک ضد رسول الله طوال فترة ال 15 سنة التي سبقت الهجرة، وأنهم هم الذين جيشوا
[ صفحه 30]
الجيوش وألبوا العرب علي رسول الله وحاربوه بکل فنون القتال، وعادوه بکل وسائل العداء حتي أحيط بهم عندما فتح الرسول مکة، فاضطروا مکرهين للتلفظ بالشهادتين، وکتموا إحباطهم وحقدهم علي آل محمد، لأنهم فئة موتورة، فما من بيت من بيوت البطن الأموي إلا وأصاب الهاشميون منه مقتلا، وقد بين الرسول لأصحابه، بأن الأمويين هم أکثر بطون قريش بغضا لآل محمد، وأنهم طامعون بملک النبوة لأنه رآهم ينزون علي منبره نزو القردة، وطلب من الناس أن يعتزلوهم وأن يحذروا منهم، وبعد وفاة النبي بفترة وجيزة ولت الدولة يزيد بن أبي سفيان قائدا عاما لجيش الشام، ولما مات يزيد عينت أخاه معاوية أميرا علي الشام خلفا لأخيه، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 118، وتاريخ الطبري ج 5 ص 69، والاستيعاب ج 3 ص 596، وکنز العمال ج 13 ص 606) وأطلق عمر بن الخطاب يد معاوية في بلاد الشام، وأعطاه الحرية الکاملة ليفعل ما يشاء، وليتصرف علي الوجه الذي يراه، بلا رقيب ولا حسيب، فقد قال عمر لمعاوية يوما: (... لا آمرک ولا أنهاک)، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 125، وتاريخ الطبري ج 6 ص 184)، وکان عمر يوطد له بين الناس فيقول عن معاوية: (إنه فتي قريش وابن سيدها)، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 125، والاستيعاب ج 8 ص 397)، وکان يقول للناس: (تذکرون کسري وعندکم معاوية)، (راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 184)، وخاطب عمر أصحاب الشوري قائلا: (إذا اختلفتم دخل عليکم معاوية بن أبي سفيان من الشام)، (راجع الطبقات الکبري لابن سعد ج 5 ص 535). وکان عمر يعرف أن معاوية يعد أهل الشام للخروج، وأنه سيخرج ذات يوم، فقد صرح عمر في يوم من الأيام قائلا: (يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق). (راجع الدلائل لابن سعد، وکنز العمال ج 12 ص 354). ومع هذا لم يتعرض له عمر، إنما ترکه ليکمل استعداداته وعدته ويخرج في الوقت المناسب!! وکان وراء تأمير عمرو بن العاص، فقد أعلن عمر أمام علية القوم قائلا: (لا ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي علي الأرض إلا أميرا).
(راجع الإصابة ج 5 ص 3)، واستعان عمر بقوة الوليد بن عقبة، مع أن الوليد فاسق بنص القرآن، وکان يسکر علنا وصلي بالناس وهو سکران. (راجع الإصابة.
[ صفحه 31]
ج 3 ص 363). واستعان عمر بعبد الله بن أبي سرح، وکان من المقربين إليه، (راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 59، والبداية والنهاية ج 8 ص 214). وعبد الله ابن أبي سرح هذا هو الذي افتري علي الله الکذب، وأباح الرسول دمه حتي لو تعلق بأستار الکعبة، ثم أتمها عمر علي بني أمية، ووضع الأساس المتين لحکمهم يوم عهد عمليا بالخلافة لعثمان.
واستعان عمر بقوة أبي الأعور السلمي الذي شهد حنين مشرکا، (راجع الإصابة ج 2 ص 540، وأسد الغابة ج 6 ص 16)، وقد لعنه رسول الله (رواه أبو نعيم، راجع کنز العمال ج 8 ص 82). وکان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب، وقد أمره عمر، وجعله علي مقدمة جيش. (راجع الإصابة ج 2 ص 541).
وأمر عمر يعلي بن منبه علي بعض بلاد اليمن، وکان من الحاقدين علي علي بن أبي طالب، فقد أعان الزبير بأربعمائة ألف عندما خرج علي علي، واشتري لعائشة أم المؤمنين جملا يقال له (عسکر)، وجهز سبعين رجلا من قريش لقتال علي بن أبي طالب. (راجع الاستيعاب ج 3 ص 662 - 663).
واستعان عمر ببسر بن أرطأة، وأياس بن صبيح، وهو من أصحاب مسيلمة الکذاب، أسلم وولاه عمر القضاء علي البصرة، (راجع الإصابة ج 1 ص 120).
واستعان عمر بطليحة بن خويلد الذي ادعي النبوة بعد النبي، وقد أعجب عمر به ورضي عنه، وکتب إلي أمرائه أن يشاوروه. (راجع البداية والنهاية ج 7 ص 130). وابن عدي الکلبي الرجل النصراني الذي تلفظ بالشهادتين، وفورا دعا له عمر برمح فولاه الإمارة، قال عوف بن خارجة، ما رأيت رجلا لم يصل صلاة أمر علي جماعة من المسلمين قبله، (راجع الإصابة ج 1 ص 116). واستعمل عمر أبا زبيد علي صدقات قومه وکان نصرانيا، ولأنه قوي استعمله، ولم يستعمل نصرانيا غيره. (راجع الإستيعاب ج 4 ص 80). واستعان عمر بکعب الأحبار اليهودي الذي أسلم فصار من خلص الخليفة وأصفيائه ومرجعه وموضع أسراره، والمجيب الموثوق علي کل تساؤلاته، وتولي کعب عملية القص في المساجد وصار القص سنة. (راجع الإصابة ج 3 ص 316)، فکان کعب يقص ما يحلو له.
[ صفحه 32]
في مسجد رسول الله، في الوقت الذي منعت فيه دولة الخلافة کتابة ورواية أحاديث رسول الله نفسه!!
ولما مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه کانت ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها العامة غاصة بأصحاب (القوة) من الفاسقين والمنافقين، وقد استخدمهم الخليفة ليستعين بقوتهم، کما قال ونفاقهم وفسقهم علي أنفسهم.
ولما آلت الخلافة إلي عثمان رضي الله عنه، رفع شعار صلة الرحم، بدلا من القوة، فعمر کان يبحث عن الأقوياء ليستعين بقوتهم، أما عثمان فقد کان يبحث عن الأرحام ليصلها، ومن نافذة الأرحام وبابها الواسع دخل الأمويون کلهم، ودخل معهم أولياؤهم إلي ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها، فما من مصر من الأمصار، وما من عمل من الأعمال، إلا وواليه أموي، أو موال لبني أمية. وکان أول الداخلين من هذا الباب الحکم بن العاص، طريد رسول الله وعدوه اللدود، لعنه رسول الله وطرده وحرم عليه دخول المدينة، ولما آلت الخلافة لعثمان أعاده للمدينة معززا مکرما، ولما مات بني علي قبره فسطاطا، ومع الحکم دخل ابنه مروان. قالت عائشة أم المؤمنين لمروان: (أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله لعن أباک وأنت في صلبه). قال الذهبي وابن عبد البر وغيرهما: (مروان أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة). (راجع شذرات الذهب ابن العماد ج 1 ص 69).
وکان مروان من أسباب قتل عثمان. (راجع الإصابة ج 6 ص 157). ومع أن مروان ملعون علي لسان نبيه، إلا أنه تولي الخلافة، ولقب أمير المؤمنين وتوارث أبناؤه ملک النبوة. وقد وصف مروان بن الحکم وضع دولة الخلافة بآخر أيام عثمان، وصفا دقيقا فقال لجموع الثوار الذين احتشدوا حول دار عثمان: (ما شأنکم قد اجتمعتم کأنکم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه، کل إنسان آخذ بإذن صاحبه إلا من أريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملکنا من أيدينا، اخرجوا عنا، غب رأيکم، ارجعوا إلي منازلکم، فإنا والله ما نحن مغلوبين علي ما في أيدينا). (راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 110).
والخلاصة أن دولة الخلافة تحولت إلي ملک أموي خالص، وأن الأمويين قد غلبوا علي کل شئ، وأن الأکثرية الساحقة مع بني أمية طمعا بما هم غالبون.
[ صفحه 33]
عليه، وأنه لم يبق من السلام السياسي إلا لقب الخليفة (أمير المؤمنين)، وأن الولايات والأعمال والوظائف العامة بالکامل مع بني أمية، وأموية من جميع الوجوه، بمعني أن الدولة بکل مؤسساتها قد أصبحت تحت سيطرة الذين عادوا رسول الله وحاربوه بالأمس، وأن الفئة المؤمنة مهمشة بالکامل، وأقلية، وليس لها من أمر الدولة شئ. ولو تولي الخلافة بعد عثمان أي رجل في الدنيا غير علي بن أبي طالب لما استطاع أن يصمد بمثل هذه الظروف أکثر من ساعة من الزمان، لأن الملک الأموي، وسلطان المنافقين والفاسقين، قد توطد وضربت جذوره في الأرض وفي النفوس والمصالح طوال عهود الخلفاء الثلاثة، ووفقا للمعايير التي عممتها الدولة، فلا فرق بين أي صحابي من السابقين في الإيمان، ومن أهل البلاء وبين أبي سفيان، أو الحکم بن العاص، فهم بدون تفصيلات صحابة، لأنهم شاهدوا النبي، وکلهم عدول والتفاضل بينهم في الآخرة، وليس في الدنيا، والاهم من ذلک هو اعتقاد الأکثرية، بأن أبا سفيان والحکم بن العاص أصلح لإمارة الناس من أصحاب السابقة، ومن أهل البلاء في سبيل الله، ممن قامت الدولة النبوية علي أکتافهم وبسواعدهم، أما أهل بيت النبوة، فقد تم التعتيم رسميا علي کل فضائلهم، ولا يجرؤ أحد علي ذکرهم بخير، وهم في أحسن الظروف صحابة مثلهم مثل أبي سفيان، ومروان بن الحکم، ومعاوية، بل إن هؤلاء وأمثالهم أعظم شانا عند الأکثرية والأولي بالطاعة من أهل بيت النبوة، لأن وسائل إعلام الدولة الرسمية نفخت الثلاثة وأمثالهم، وأعطتهم أحجاما أسطورية ليست لهم في الحق والحقيقة، بينما تجاهلت وسائل إعلام الدولة التاريخية أهل بيت النبوة، وعتمت علي صورهم، وسخرت الدولة کافة مواردها لإبراز أهل بيت النبوة بصورة النکرات!!! واستقرت تلک الأوهام التي خلقتها وسائل الإعلام، وإمکانيات دولة الخلافة في قلوب الأکثرية الساحقة من أبناء الأمة، لأن تلک الأوهام کانت بمثابة القناعات الرسمية التي تبنتها دولة البطون، وعلي منوالها سارت عهود الخلافة التاريخية.
وباختصار شديد فإن أهل بيت النبوة، وأولياء النبي وهم علماء الإسلام وأساتذته الذين قامت دعوة الإسلام ودولة النبوة علي أکتافهم، قد أخروا بالقوة،.
[ صفحه 34]
وصاروا رعايا ومحکومين، لا تقدم مواقفهم ولا تؤخر مع إجماع أغلبية ساحقة، أما الذين قاوموا النبي والنبوة قبل الهجرة وحاربوا النبي بعد الهجرة، وجهلوا أحکام الدين فقد غلبوا بعد وفاة النبي، وتسلموا بالقوة أو بالعهد والتسلل مقاليد الدولة، فصاروا هم السادة والحکام والأساتذة وأصحاب الکلمة المسموعة، لأن بيدهم النفوذ والجاه والمال والسلطة، ومؤهلهم الوحيد هو القوة. تلک حقيقة لا يماري فيها إلا جاهل، أو متجاهل أو عابد هواه.
وتحقق ما حذر منه النبي وتفکک الإسلام وحلت کافة عراه!!!
بينا بأن رسول الله وقبل أن ينتقل إلي جوار ربه، حذر المسلمين وبأنهم إن لم يلتزموا بما أمرهم به، فإن الإسلام سيتفکک، وستحل عراه عروة بعد عروة، فکلما انتقضت عروة تثبت الناس بالتي تليها، وأن أول عري الإسلام نقضا الحکم، وآخرها نقضا الصلاة. (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، والحاکم في مستدرکه، راجع کنز العمال ج 1 ص 238).
وکرر النبي التحذير في مناسبات متعددة، وأطلعهم علي ما هو کائن وبالتصوير الحي البطئ، وأحيط الجميع علما بما حذر منه الرسول، وقامت الحجة علي الجميع. ولخص الرسول الموقف للجميع، وأکد هذا التلخيص بکل وسائل التأکيد، وبينه وبکل طرق البيان، وحذر المسلمين بأنهم لن ينجحوا ولن يهتدوا، ولن يتجنبوا الضلالة من بعده، إلا إذا تمسکوا بالثقلين کتاب الله، وعترة النبي أهل بيته.
ثم بعد ذلک مرض النبي، وکان ما کان، فما أن مرض النبي حتي تنکرت له الأکثرية الساحقة رغبة أو رهبة، وقالوا له وجها لوجه: (أنت تهجر!! والقرآن وحده يکفينا، ولسنا بحاجة لوصيتک)!! بل والأعظم من ذلک أن هذه الأکثرية بعد أن استولت علي مقاليد الحکم منعت رواية وکتابة أحاديث رسول الله منعا باتا، ورفعت شعار (حسبنا کتاب الله)!! وصارت رواية أحاديث الرسول من الجرائم الکبري التي يستحق مرتکبها القتل، فکان حذيفة يقول: (لو کنت علي شاطئ.
[ صفحه 35]
نهر، وقد مددت يدي لاغترف فحدثتکم بکل ما أعلم ما وصلت يدي إلي فمي حتي أقتل). (راجع کنز العمال ج 3 ص 345 نقلا عن ابن عساکر) وروي البخاري في صحيحه (کتاب العلم ج 1 ص 34) عن أبي هريرة أنه قد قال:
(حفظت من رسول الله وعائين، فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)!! وقال: (إني لأحدث أحاديثا لو تکلمت بها في زمن عمر أو عند عمر لشج رأسي). (راجع البداية لابن کثير ج 8 ص 107) وفي عهد عمر بن الخطاب عزم أبي بن کعب أن يتکلم في الذي لم يتکلم به بعد وفاة الرسول فقال: (لأقولن قولا لا أبالي أستحييتموني عليه أو قتلتموني). (راجع ابن سعد، الطبقات الکبري ج 3 ص 501 والحاکم باختصار ج 2 ص 329 و ج 3 ص 303). ووعد أن يکشف الحقائق أمام الناس يوم الجمعة، وترقب الناس ذلک اليوم الذي يکشف فيه أبي بن کعب حقائق ما سمعه من رسول الله، ولکن في يوم الأربعاء مات الصحابي العظيم الذي وعد بکشف الحقائق. قال قيس بن عباد: رأيت الناس يموجون، فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: مات سيد المسلمين أبي بن کعب، فقلت: ستر الله علي المسلمين حيث لم يقم الشيخ ذلک المقام). (راجع المسترشد لابن جرير الطبري ص 28، ومعالم الفتن لسعيد أيوب ج 1 ص 257).
والخلاصة أن منع رواية وکتابة أحاديث الرسول قد تحول إلي قانون أساسي، نافذ المفعول في کل أرجاء دولة الخلافة، ولکن لا بأس برواية الأحاديث التي تمدح القائمين علي الحکم، وتضفي طابع الشرعية والمشروعية علي تصرفاتها، فرواية مثل هذه الأحاديث مباحة حتي وإن کانت مختلقة، ورواة هذه الأحاديث من المقربين، حتي وإن کانوا أعداء لله ولرسوله!! وبمدة وجيزة، حلت عري الإسلام کلها عروة بعد عروة، ولم يبق غير الصلاة، وحشر المؤمنون الذين کانوا يصلون علي طريقة رسول الله، وضيق الخناق عليهم علي اعتبار (أنهم شواذ) يخالفون جماعة المسلمين وإمامهم، ويتفردون بصلاة تختلف عن صلاة الأمة!! قال حذيفة أمين سر رسول الله: (لقد ابتلينا حتي أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف). (راجع صحيح البخاري ج 1 ص 180 کتاب الجهاد والسير). وقال حذيفة أيضا: (فابتلينا حتي جعل الرجل منا.
[ صفحه 36]
لا يصلي إلا سرا). (راجع صحيح مسلم ج 2 ص 179، ورواه أحمد في الفتح الرباني ج 23 ص 40، و ج 2 ص 462 من معالم الفتن). وروي البخاري أن الزهري قد دخل علي أنس بن مالک فوجده يبکي، فقال له ما يبکيک؟ فقال أنس:
لا أعرف شيئا مما أدرکت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. (راجع الفتح الرباني ج 1 ص 200). وقال أنس بن مالک مرة أخري: (لا أعرف شيئا اليوم مما کنا عليه علي عهد رسول الله!! فقلنا: فأين الصلاة؟ فقال أو لم تضعوا بالصلاة ما قد علمتم؟)! (رواه أحمد والترمذي، وحسنه وقال في الفتح الرباني ج 1 ص 199 روي عن أنس من غير وجه).
هذه شهادة حذيفة أمين سر رسول الله، وتکتسب شهادته أهمية خاصة لأنه أمين سر رسول الله بإجماع المسلمين، ولأنه بقي علي عهد رسول الله لم يبدل ولم يتبدل، ولم يرجع القهقري علي عقبيه، تدعمها شهادة أنس بن مالک الذي وعي عمليا الصلاة بحکم خدمته للنبي، وکان أنس إلي جانب السلطة دائما عايشها وتعايش معها، ولم يثنه عن الولاء لهذه السلطة تبدلها ولا تغيرها، وکان يسمع مسبته من رجالها بصبر بالغ.
فإذا ثبت بأن المخلصين من الصحابة کانوا يصلون سرا، وهم في حالة خوف، من غضب السلطة، أو من غضب الجماهير الموالية لها، وإذا کان أحد الذين خدموا الرسول فترة طويلة، وشاهد رسول الله مئات المرات وهو يصلي عمليا يشهد ويقر ويعترف بأن الصلاة قد ضيعت بالفعل ونقضت من أصولها، ففي هذا دليل قاطع علي أن آخر عروة من عري الإسلام، وهي الصلاة قد حلت تماما بشهادة شهود عيان عاصروا حکومة الرسول، وحکومة الخلفاء الثلاثة، وحکومة بني أمية، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين علي أن رسول الله قد أخبر الأمة بما هو کائن، مثلما أخبر الأمة بأن عري الإسلام ستنقض عروة بعد عروة، وأن نقض نظام الحکم هو أول عري الإسلام نقضا، وأن نقض الصلاة هو آخر عري الإسلام نقضا، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين علي أن رسول الله صادق فيما أخبر، وأنه لم ينطق عن الهوي - علي الأقل في هذه الأخبار - حتي نتجنب معارضة أولئک الذين يزعمون بأن محمدا بشر يتکلم في الغضب والرضي!! ثم إنه من المحال.
[ صفحه 37]
عقلا أن يخبر الرسول الأمة بهذه الأخبار الخطيرة علي مسؤوليته، وباجتهاد منه، وبدون تفويض إلهي!! ومن الناحية الواقعية فقد تحقق ما أخبر به الرسول وحذر منه، فلا أحد من أولياء الخلفاء، ومن شيعة الخلافة التاريخية يمکنه أن يزعم بأن الإسلام کله قد بقي علي حاله. أو ينکر بأن عري الإسلام کلها لم تنقض. لقد بين الرسول ما هو کائن وما سيکون إشفاقا ورحمة بالأمة، وقياما بواجب البيان، ولقد حذر وأنذر إقامة للحجة علي المکذبين والمکابرين، وإرشادا للصادقين ليبقوا دائما علي الصراط المستقيم. وکان الرسول صادقا في بيانه ورحمته، وتحذيره وإنذاره، وأنه لم يخبر بتلک الأخبار المستقبلية اجتهادا منه کما کانوا يتصورون، أو تحليلا شخصيا، إنما کانت تلک الأخبار الموثوقة ثمرة وحي إلهي، صدقه ما وقع في المستقبل، لأن الله ورسوله لا يقولان إلا الحق والحقيقة..
[ صفحه 38]