اجتهادات الصحابة في رواية الحديث و تدوينه
إجتهد أبو بکر رضي الله عنه في رواية الحديث وتدوينه، روي الحافظ عماد الدين بن کثير عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله (ص)، فکانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب کثيرا، فغمتني، فقلت: تتقلب بشکوي أو بشئ بلغک؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندک، فجئت لها، فدعا بنار فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندک. فيکون فيها أحاديث عن رجل إئتمنه ووثقت به ولم يکن کما حدثني، فأکون قد تقلدت ذلک، [1] وذکر الذهبي في تذکرته. عن أبي بکر أنه قال إنکم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدکم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألکم فقولوا، بيننا وبينکم کتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. [2] .
[ صفحه 311]
وروي أن عمر بن الخطاب في خلافته قال: إني کنت أريد أن أکتب السنن، وإني ذکرت قوما کانوا قبلکم، کتبوا کتبا فأکبوا عليها وترکوا کتاب الله، وإني والله لا أشوب کتاب الله بشئ أبدا [3] وروي عن مالک أن عمر قال لا کتاب مع کتاب الله، [4] وعن يحمي بن جعدة قال: أراد عمر أن يکتب السنة ثم بدا له أن لا يکتبها، ثم کتب في الأمصار: من کان عنده شئ من ذلک فليمحه، [5] وعن القاسم بن محمد أن عمر قال: لا يبقي أحد عنده کتاب إلا آتاني به فأري فيه رأيي، فظن الناس أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها علي أمر لا يکون فيه اختلاف، فأتوه بکتبهم، فأحرقها بالنار. [6] .
وعن سعد بن إبراهيم عن أبيه. أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي ذر ولأبي الدرداء، ما هذا الحديث عن رسول الله (ص)، وأحسبه حبسهم بالمدينة حتي أصيب، [7] وعن السائب بن يزيد قال:
سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتترکن الحديث عن رسول الله (ص). أو لألحقنک بأرض دوس، [8] وعن الزهري عن أبي سلمة قال:
سمعت أبو هريرة يقول: ما کنا نستطيع أن نقول. قال رسول الله (ص).
حتي قبض عمر بن الخطاب. [9] .
[ صفحه 312]
وبعد عمر بن الخطاب بدأ بعض الصحابة يروون بعض ما عندهم، فأخذ عثمان بن عفان بسنة عمر في عدم الرواية، فعن محمود بن لبيب قال: سمعت عثمان بن عفان يقول، لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع في عهد أبي بکر ولا عهد عمر، [10] ثم أخذ معاوية بن أبي سفيان بهذه السنة، فقال أيها الناس، أقلوا الرواية عن رسول الله (ص)، وإن کنتم تتحدثون فتحدثوا بما کان يتحدث به في عهد عمر. [11] .
وعندما جاء عهد الإمام علي بن أبي طالب، لم يکن السواد الأعظم من الأمة يعرفون عنه إلا القليل، وذلک لأن عهده جاء بعد وفاة النبي في بربع قرن تقريبا، عتم فيها عدم الرواية علي منزلته ومناقبه، وفي عهد علي بن أبي طالب بدأ الصحابة يروون الأحاديث عن رسول الله (ص)، وکان علي يقول خرج علينا رسول الله (ص) فقال: اللهم إرحم خلفائي، اللهم إرحم خلفائي، اللهم إرحم خلفائي، قالوا: يا رسول الله ومن خلفائک؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي ويعلمونها للناس، [12] وعن الحسن بن علي قال قال رسول الله (ص)، رحمة الله علي خلفائي، قالوا: ومن خلفاؤک يا رسول الله يا رسول الله؟ قال:
الذين يحيون سنتي ويعلمونها للناس، [13] وعن سعيد بن المسيب قال ما کان أحد من الناس يقول سلوني، غير علي بن أبي طالب، وکان علي يحض الناس علي السؤال ويقول ألا رجل يسأل فينتفع. وينتفع
[ صفحه 313]
جلساءه، [14] وکان يقول تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تترکوه يدرس (أي تعهدوه لئلا تنسوه) [15] وقال تعلموا العلم. فإذا علمتموه فاکظموا عليه ولا تخالطوه بضحک وباطل فتمحه القلوب. [16] .
وبالجملة: بينت الدعوة الإلهية الخاتمة، أن الحديث عن النبي الخاتم (ص)، لا غني للمسيرة عنه، لأنه مکمل للتشريع ومبين لمجملات القرآن، ومخصص لعموماته ومطلقاته، کما أن الحديث تکفل بکثير من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والتربوية، وأخبر فيه النبي (ص) بالغيب عن ربه جل وعلا، فبين للناس ما يستقبلهم من أحداث ليأخذوا بأسباب النجاة من مضلات الفتن، وبعد رحيل النبي الخاتم (ص) أجتهد بعض الصحابة في أمر الرواية والتدوين، ولقد تواترت الأخبار في منع عمر بن الخطاب الصحابة وهم الثقات العدول، وردعهم عن رواية العلم وتدوينه، وفي هذا يقول ابن کثير: هذا معروف عن عمر، [17] ثم سار علي سنة عمر خلفاء وملوک بني أمية، ولم ترو الأحاديث الجامعة للعلم والمبينة للناس ما يستقبلهم من أحداث، إلا في عهد الإمام علي بن أبي طالب. [18] .
پاورقي
[1] رواه ابن کثير (کنز العمال 285، 286 / 10).
[2] تذکرة الحفاظ 2، 3 / 1.
[3] رواه ابن عبد البر (کنز 292 / 10) وابن سعد (کنز 293 / 10) والخطيب (تقييد العلم ص 49).
[4] رواه ابن عبد البر (کنز 292 / 10).
[5] رواه خيثمة وابن عبد البر (کنز 292 / 10) والخطيب (تقييد العلم 53).
[6] رواه الخطيب (تقييد العلم 52).
[7] رواه ابن عبد البر (کنز العمال 292 / 10) وابن سعد (کنز 293 / 0 1) والخطيب (العلم 49).
[8] رواه ابن عساکر (291 / 10).
[9] رواه ابن کثير (البداية والنهاية 107 / 8).
[10] رواه ابن سعد (الطبقات 336 / 2) وابن عساکر (کنز 295 / 10).
[11] رواه ابن عساکر (کنز 291 / 10).
[12] رواه الطبراني والرامهرمزي والخطيب والديلمي وابن النجار والدينوري والقشيري ونصر (کنز العمال 294 / 10).
[13] رواه ابن عساکر وأبو نصر السجزي (کنز 229 / 10).
[14] المصدر السابق 137 / 1.
[15] رواه الخطيب (کنز العمال 304 / 10).
[16] رواه عبد الله بن أحمد والخطيب (کنز 304 / 10).
[17] البداية والنهاية 107 / 8.
[18] أنظر / معالم الفتن / سعيد أيوب ط دار الکرام بيروت.