اضواء علي الساحة بعد وفاة النبي
کان الساحة بعد وفاة النبي (ص) بها جميع الأنماط البشرية، بها المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وبها الذين في قلوبهم مرض أو زيغ، وهؤلاء لا يخلو منهم مجتمع علي امتداد المسيرة البشرية.
وکان الذين في قلوبهم مرض يختزنون في ذاکرتهم ببعض ما أخبر به النبي (ص) فيما يستقبل الناس، ومنه تفسيره لقوله تعالي: (وجاهدوا في الله حق جهاده) [1] وقوله: (فإما نذهبن بک فإنا منهم منتقمون) [2] وقوله تعالي: (ألم تر إلي الذين بدلوا نعمة الله کفرا)، [3] وقول النبي القرشي يا معشر قريش، ليبعثن الله عليکم رجلا منکم امتحن الله قلبه للإيمان، فيضرب رقابکم علي الدين فقال أبو بکر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولکنه خاصف النعل، وقد کان ألقي نعله إلي علي بن أبي طالب يخصفها. [4] .
[ صفحه 301]
وکان بالساحة أفرادا وقبائل ذمهم أو لعنهم الله تعالي علي لسان رسوله (ص) وهو يخبر بالغيب عن ربه لما يعلم الله ما في قلوبهم، ومنه أمره (ص) بجهاد مخزوم وعبد شمس [5] وقوله إن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم [6] وفي رواية: بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة [7] ولعنه للحکم بن أبي العاص [8] ولعنه أبو الأعور السلمي [9] ولعنه لأحياء: لحيان ورعلا وذکوان وعصية [10] وکان بالساحة مجموعة تخريبية من اثني عشر رجلا، حاولوا قتل النبي (ص) عند عودته من تبوک.
آخر غزواته، وأسر النبي (ص) بأسمائهم إلي حذيفة، وکان حذيفة وعمار بن ياسر معه (ص) عند محاولة هذه المجموعة اغتياله، وروي أن حذيفة قال: يا رسول الله ألا تبعث إلي کل رجل منهم فتقتله، فقال: أکره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وقال النبي (ص) لحذيفة فإن هؤلاء فلانا وفلانا (حتي عدهم) منافقون لا تخبرن أحد، [11] وعدم إفشاء النبي (ص) بأسمائهم يستنتج منه. أن هذه المجموعة لم تکن من رعاع القوم وإنما من أشد الناس فتکا، وقتلهم يؤدي إلي طرح ثقافة يتناقلها
[ صفحه 302]
الناس بأن محمدا في آخر أيامه بدأ يقتل أصحابه، ويستنتج منه أيضا أن الله تعالي شاء أن تنطلق المسيرة تحت مظلة الامتحان والابتلاء، بعد أن تبينت طريق الحق وطريق الباطل، وإخفاء أسماء المجموعة التخريبية هو في حقيقته دعوة للالتفاف حول الذين بينهم وأظهرهم رسول الله للناس. وروي الإمام مسلم عن حذيفة أنه قال أشهد الله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، [12] وروي عن عمار بن ياسر أنه قال قال رسول الله (ص): إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتي يلج الجمل في سم الخياط، [13] وکان عمار بن ياسر علامة مميزة في المسيرة لأنه کان يحمل قول النبي (ص) فيه ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلي الجنة ويدعونه إلي النار. [14] .
فالساحة بعد وفاة النبي (ص) کان بها جميع التيارات، وکان بها مجموعة حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويبدو من قراءة الأحداث أن الساحة کان بها مجموعة من أصحابه أخذت في اعتبارها أن ولاية علي بن أبي طالب قد تؤدي إلي أحداث اعتقدوا أنها يمکن أن تعصف بالدعوة، فاختاروا حلا وسطا ويبتعد به علي بن أبي طالب عن مرکز الصدارة، وتظل به الدعوة قائمة، ويشهد بذلک قول أبي بکر رضي الله عنه لرافع بن أبي رافع حين عاتبه علي توليه الخلافة إن رسول الله (ص) قبض والناس حديثو عهد بکفر فخفت أن يرتدوا وأن يختلفوا فدخلت فيها وأنا کاره [15] وفي رواية قال تخوفت أن تکون فتنة يکون بعدها
[ صفحه 303]
ردة [16] ويشهد به أيضا قول عمر بن الخطاب أثناء خلافته إن بيعة أبي بکر کانت فلتة، [17] قال في لسان العرب: يقال کان ذلک الأمر فلتة. أي فجأة إذا لم يکن عن تدبر ولا ترو، والفلتة: الأمر يقع من غير إحکام، وفي حديث عمر. أراد فجأة وکانت کذلک لأنها لم ينتظر بها العوام، وقال ابن الأثير في حديث عمر: والفلتة کل شئ فعل من غير روية، وإنما بودر بها خوف انتشار الأمر. [18] .
ويشهد به قول عمر لابن عباس: يا ابن عباس ما منع قومکم منکم؟ قال: لا أدري، قال: لکني أدري يکرهون ولايتکم لهم. يکرهون أن تجتمع فيکم النبوة والخلافة، [19] وزاد في رواية: فاختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت. [20] .
وروي أن عمر بن الخطاب عندما اختلف بعض الأنصار مع بعض المهاجرين في سقيفة بني ساعدة، علي من الذي يتولي الخلافة ومن يتولي الوزارة، أمر عمر بقتل مرشح الأنصار سعد بن عبادة، وذلک حينما اشتد الخلاف وتشابکوا بالأيدي، روي الطبري: قال ناس من أصحاب سعد: إتقوا سعد ألا تطؤه، فقال عمر: إقتلوه إقتلوه، ثم قام علي رأسه فقال: لقد هممت أن أطأک حتي تندر عضوک، [21] وروي البخاري: قال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله، [22] .
[ صفحه 304]
وکتبت النجاة لسعد، وروي أنه قال بعد بيعة أبي بکر لو أن الجن اجتمعت لکم مع الإنس ما بايعتکم حتي أعرض علي ربي، [23] ولم يبايع سعد حتي خرج في خلافة عمر بن الخطاب إلي الشام، وقتل في الطريق، وروي أن الجن هم الذين قتلوه!
پاورقي
[1] سورة الحج آية 78.
[2] سورة الزخرف آية 41.
[3] سورة إبراهيم آية 28.
[4] رواه الحاکم وأقره الذهبي (المستدرک 138 / 2) وابن جرير والضياء بسند صحيح (کنز 173 / 13) والترمذي وصححه (الجامع 634 / 5).
[5] رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (کنز 480 / 2).
[6] رواه نعيم بن حماد والحاکم (کنز 169 / 11).
[7] رواه نعيم بن حماد وقال ابن کثير رواه البيهقي ورجاله ثقات (کنز العمال 274 / 11) (البداية 268 / 6).
[8] أنظر: مجمع الزوائد 112 / 1، المستدرک 481 / 4، البداية والنهاية 50 / 10، الإصابة 29 / 2.
[9] کنز العمال 82 / 8.
[10] مسلم (الصحيح 135 / 2).
[11] محاولة الاغتيال رواها الإمام أحمد والطبراني وابن سعد وغيرهم (أنظر الزوائد 110 / 11).
[12] رواه مسلم (الصحيح 125 / 7).
[13] رواه مسلم (الصحيح 124 / 7) وأحمد (الفتح الرباني 140 / 23).
[14] رواه البخاري ک لصلاة ب التعاون في بناء المساجد، ورواه أحمد (الفتح الرباني 331 / 22).
[15] رواه ابن خزيمة في صحيحه والبغوي وابن راهويه (کنز العمال 586 / 5).
[16] رواه أحمد بسند صحيح (الفتح الرباني 61 / 23).
[17] رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 60 / 1) والطبري (تاريخ الأمم والملوک 200 / 3).
[18] لسان العرب مادة فلت ص 3455.
[19] تاريخ الأمم والملوک 30 / 5.
[20] المصدر السابق 31 / 5.
[21] المصدر السابق 210 / 3.
[22] البخاري (الصحيح 291 / 2).
[23] تاريخ الأمم 210 / 3.