التحذير من أمراء السوء
حذرت الدعوة الخاتمة من الميل إلي الذين ظلموا، لأن علي أعتابهم يأتي ضعف العقيدة وفقدان القدوة، وبينت أن قيام الذين ظلموا بتوجيه الحياة العقلية والدينية للأمة. ينتج عنه شيوع المشکلات الزائفة التي تشغل الرأي العام، وتجعله داخل دائرة الصفر حيث الجمود والتخلف، وعلي أرضية الجمود تفتح الأبواب لسنن الأولين، ومعها يختل منهج البحث ومنهج التفکير ومنهج الاستدلال، وبهذا يتم التعتيم علي نور الفطرة وتغيب الحقيقة تحت أعلام الترقيع والتلجيم التي تلبست بالدين، قال تعالي: (ولا ترکنوا إلي الذين ظلموا فتمسکم النار وما لکم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) [1] قال المفسرون: نهي الله تعالي النبي (ص) وأمته عن الرکون إلي من اتسم بسمة الظلم. بأن يميلوا إليهم ويعتمدون علي ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية، لأن الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا، يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير، ويغيرهما عن الوجهة الخالصة، ولازم ذلک السلوک إلي الحق من طريق الباطل، أو إحياء حق بإحياء باطل، أو إماتة الحق لإحيائه.
والنبي (ص) أخبر بالغيب عن ربه. أن الأمة سترکن إلي هؤلاء، وأمر بأن تأخذ الأمة بالأسباب لأن الله تعالي ينظر إلي عباده کيف يعملون، فعن ثوبان قال. قال رسول الله (ص) إنما أخاف علي أمتي الأئمة المضلين، [2] وعن أبي هريرة قال. قال رسول الله (ص) يهلک أمتي هذا الحي من قريش قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال لو أن
[ صفحه 288]
الناس اعتزلوهم، [3] وعن خباب بن الإرث قال: إنا لقعود علي باب رسول الله (ص) ننتظره أن يخرج لصلاة الظهر، إذ خرج علينا فقال:
إسمعوا. فقلنا: سمعنا، ثم قال: إسمعوا، فقلنا: سمعنا، فقال: إنه سيکون عليکم أمراء فلا تعينوهم علي ظلمهم، فمن صدقهم بکذبهم فلن يرد علي الحوض، [4] وعن حذيفة قال. قال رسول الله (ص): سيکون عليکم أمراء يظلمون ويکذبون. فمن صدقهم بکذبهم وأعانهم علي ظلمهم. فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بکذبهم ولم يعينهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض، [5] ومن هذه الأحاديث يستنتج أن الأمراء ضد خط أهل البيت، بدليل أنهم لن يردوا علي الحوض، وفي الحديث أن أهل البيت مع القرآن ولن ينفصلا حتي يردا علي الحوض، ويستنتج أيضا أن أهل البيت لن يکونوا في صدر القافلة وأن هناک أحداث ستؤدي إلي إبعادهم عن مرکز الصدارة، بدليل وجود الأئمة المضلين وأمراء الظلم، فلو کان أهل البيت في الصدارة، ما اتخذوا هؤلاء بطانة لهم، لأن أهل البيت مع القرآن والقرآن نهي عن ذلک.
وبالجملة: أخبر النبي (ص) بوجود تيار في بطن الغيب سيعمل ضد سياسة أهل البيت، وإن هذا التيار لن يرد علي الحوض، لقوله (ص) لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلا ذيد يوم القيامة عن الحوض، [6] وقوله لعلي بن أبي طالب يا علي. معک يوم القيامة عصا من عصي الجنة
[ صفحه 289]
تذود بها المنافقين عن حوضي، [7] وأمر النبي (ص) بمواجهة هذا التيار باعتزالهم وعدم إعانتهم وعدم تصديقهم، وروي عن ابن مسعود. قال.
قال (ص) إن رحي الإسلام دائرة، وإن الکتاب والسلطان سيفترقان، فدوروا مع الکتاب حيث دار، وستکون عليکم أئمة إن أطعتموهم أضلوکم وإن عصيتموهم قتلوکم، قالوا: فکيف نصنع يا رسول الله؟
قال: کونوا کأصحاب عيسي. نصبوا علي الخشب ونشروا بالمناشير، موت في طاعة. خير من حياة في معصية [8] وروي عن معاذ قال: قلت يا رسول الله أرأيت إن کان علينا أمراء لا يستنون بسنتک. ولا يأخذون بأمرک. فما تأمرني في أمرهم؟ فقال: لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل. [9] .
وروي عن ابن مسعود قال. قال رسول الله (ص) إن أول ما دخل النقص علي بني إسرائيل. کان الرجل يلقي الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لک، ثم يلقاه من الغد. فلا يمنعه ذلک أن يکون أکيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلک ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم تلي قوله تعالي: (لعن الذين کفروا من بني إسرائيل علي لسان داوود وعيسي بن مريم) إلي قوله: (فاسقون) ثم قال رسول الله (ص) کلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنکر ولتأخذن علي يدي الظالم ولتأطرنه علي الحق أطرا (أي لتردنه إلي الحق)، ولتقصرنه علي الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضکم علي بعض ثم يلعنکم کما لعنهم، [10] وقال (ص) مثل القائم علي حدود الله والمدهن فيها.
[ صفحه 290]
کمثل قوم استهموا علي سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها.
وأصاب بعضهم أسفلها. فکان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون علي الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها لا ندعکم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها فإننا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا علي أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا، وإن ترکوهم غرقوا جميعا [11] کانت هذه بعض تعاليم النبوة لمواجهة الظلم والجور في وقت ما علي امتداد المسيرة، أما بعد استفحال الظلم والجور. نتيجة للثقافات التي سهر عليها المنافقون وأهل الکثاب لإيجاد غثاء مهمته النباح تأييدا للجلادين، والتصفيق للزبانية ومصاصي الدماء، يقول النبي (ص) ما ترون إذا أخرتم إلي زمان. حثالة من الناس. قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبکوا. وکانوا هکذا، (وشبک بين أصابعه) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنکرون. ويقبل أحدکم علي خاصة نفسه. ويذر أمر العامة، [12] وفي رواية: إتق الله عز وجل، وخذ ما تعرف ودع ما تنکر، وعليک بخاصتک، وإياک وعوامهم. [13] .
وبالجملة: بين النبي (ص) أن صنفا من الناس سيحرص علي الإمارة من بعده، قال (ص) إنکم ستحرصون علي الإمارة. وستصير حسرة وندامة يوم القيامة. نعمت المرضعة وبئست الفاطمة [14] نعم المرضعة:
[ صفحه 291]
لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاد الکلمة وتحصيل اللذات الحسية. وبئست الفاطمة: أي بعد الموت لأن صاحبها يصير إلي المحاسبة. قال (ص) ليتمن أقوام ولوا هذا الأمر. أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يولوا شيئا، [15] وليس معني هذا أن الإسلام لا يعترف بالقيادة والإمارة. فالإسلام يقوم علي النظام وفيه لکل شئ ذروة، والحديث يحذر غير أصحاب الحق من أن ينازعوا الأمر أهله، لأنه في المنازعة ضياع للأمانة. قال رسول الله (ص) إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قالوا: کيف أضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلي غير أهله.
فانتظروا الساعة. [16] ويفسر هذا ما روي عن داوود بن أبي صالح. قال؟
أقبل مروان بن الحکم يوما فوجد رجلا واضعا وجهه علي قبر النبي (ص)، فقال: أتدري ما تصنع؟ وأقبل عليه وإذا هو أبو أيوب الأنصاري. فقال:
نعم جئت رسول الله (ص) ولم آت الحجر، سمعت رسول الله (ص) يقول: لا تبکوا علي الدين إذا وليه أهله. ولکن ابکوا عليه إذا وليه غير أهله. [17] .
وبين النبي (ص) للأمة أسباب الهدي علي امتداد المسيرة. تحت مظلة الامتحان والابتلاء، بين الأسباب في عصر به الصحابة، وبينها في عصر به التابعين، وبينها في عصور جاءت بعد ذلک. والله تعالي ينظر إلي عباده کيف يعملون.
پاورقي
[1] سورة هود آية 113.
[2] رواه أحمد ومسلم والترمذي (الفتح الرباني 31 / 27).
[3] رواه البخاري (الصحيح 280 / 2) ومسلم (الصحيح 41 / 18) وأحمد (الفتح الرباني 39 / 23).
[4] رواه أحمد (الفتح الرباني 30 / 23) وابن حبان في صحيحه وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (کتاب السنة 352 / 2).
[5] رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 248 / 5) وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (کتاب السنة 353 / 2).
[6] رواه الطبراني (کنز العمال 104 / 12).
[7] رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (135 / 9).
[8] رواه الطبراني عن ابن مسعود (کنز العمال 216 / 1) ورواه عن معاذ (کنز العمال 211 / 1).
[9] رواه عبد الله بن أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 44 / 23).
[10] رواه أبو داوود حديث 4337، وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 269 / 7).
[11] رواه أحمد والبخاري (الفتح الرباني 177 / 19) والترمذي وصححه (الجامع 470 / 4).
[12] رواه الطبراني وفال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 279 / 7).
[13] رواه أحمد وإسناده صحيح (الفتح الرباني 12 / 23).
[14] رواه أحمد (الفتح الرباني 22 / 23) والبخاري (الصحيح 235 / 4).
[15] رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 23 / 23).
[16] رواه البخاري (الصحيح 128 / 4).
[17] رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح الرباني 132 / 23) (الزوائد 245 / 5) والحاکم وصححه وأقره الذهبي (المستدرک 515 / 4).