بازگشت

تأملات في الامتحان و الابتلاء


غرس الله تعالي في أعماق الفطرة معرفته تعالي، وحمل النسيج الفطري إلهاما يميز به الإنسان ما هو تقوي مما هو فجور، ويعرف به طريق الخير وطريق الشر، وخلاصة القول أن الإنسان خلقه الله في أحسن تقويم. وهو قوله تعالي: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) [1] قال في الميزان: ومعني کونه في أحسن تقويم. صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلي الأهداف الرفيعة العليا، والفوز بحياة خالدة عند ربه. سعيدة لا شقاوة معها، وذلک بما جهزه الله به من العلم النافع ومکنه من العمل الصالح.

فالإنسان إذا آمن بما عمل وزاول صالح العمل. رفع الله عمله.

کما قال تعالي: (إليه يصعد الکلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) [2] أما إذا وقف الإنسان تحت ولاية الشيطان. فإنه يندرج في أسفل سافلين أي في مقام منحط، والمراد بالسفالة علي أي حال. الشقاء والعذاب.

والإنسان ينطلق إلي العلم النافع والعمل الصالح من مخزونه الفطري ومن الدين الذي بعث به الله الأنبياء والرسل عليهم السلام،



[ صفحه 21]



فالفطرة تربط الإنسان بغاية وجوده. والدين هو الطريقة الخاصة في الحياة التي تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الکمال الأخروي، وشجرة الفطرة والدين تنبت في التوحيد. وأسلوب دين الله وقوانينه الجارية قامت علي أساس الأخلاق التي تحفظ الإنسان من الخطأ والزلة، وعلي هذا الأساس الأخلاقي يکون العلم النافع. لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تکون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلاقه.

ولما کان الإنسان قد خلقه الله في أحسن تقويم. وذلک بتآلف العناصر التي يتکون منها. بحيث تتجه اتجاها موحدا نحو غرض معين، ولما کان الإنسان قد أنشأه الله مختارا في فعله. بمعني أنه يعرف ما هو تقوي مما هو فجور. وله أن يميل في کل عمل إلي کل من جانبي الفعل والترک، فإن تعالي أجري عليه الامتحان والحکمة في إسکان الله تعالي في الأرض بعد أن زينها سبحانه بجميع اللذائذ المادية، هي امتحان النوع الإنساني فردا فردا لإظهار صلاحية الإنسان الباطنية لاستحقاق الثواب والعقاب، والامتحان ناموس إلهي ولا يستثني منه المؤمن والکافر والمحسن والمسئ، وکل جزء من أجزاء العالم وکل حالة من حالاته التي لها صلة بالإنسان هي من الوسائل والعوامل التي يمتحن الله البشر بها، وتحت سقف الامتحان يوجد إلقاءات شيطانية نفذت من أودية التزيين والإغواء. وتوجد أعلام الأنبياء والرسل عليهم السلام التي تسوق أتباعها نحو صراط الله العزيز الحکيم، وبين هذا وذاک لا يخفي الحق. لأن الحق لا يخفي بأي وجه وعلي أي تقدير. لأن الحق في النسيج الفطري. ولا يمنع الناس من قبوله والخضوع الباطني أمامه. إلا البغي والظلم والجحود والعناد والاستکبار.

فالإنسان يمتحن فردا فردا ليتلبس السعيد بسعادته والشقي



[ صفحه 22]



بشقائه والله غني عن العالمين، قال تعالي: (فمن اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها). [3] وقال: (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها). [4] وقال: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها). [5] وقال: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين). [6] وقال: (ومن کان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمي وأضل سبيلا) [7] وقال: (ومن أراد الآخرة وسعي لها سعيها وهو مؤمن فأولئک کان سعيهم مشکورا). [8] .

وإذا کان الإنسان يمتحن داخل وعائه الفردي. فإنه يمتحن أيضا داخل وعائه الاجتماعي، يمتحن شعوبا وقبائل وأمم، قال تعالي: (ولو شاء الله لجعلکم أمة واحدة ولکن ليبلوکم في ما آتاکم فاستبقوا الخيرات) [9] قال في الميزان: والامتحان يکون فيما أعطي الله وأنعم.

وليست التکاليف الإلهية والأحکام المشرعة إلا امتحانا إلهيا للإنسان في مختلف مواقف الحياة، وفي قوله: (فاستبقوا الخيرات) فتح لأبواب الرحمة، أي فاستبقوا الخيرات وهي الأحکام والتکاليف. ولا تشتغلوا بأمر الاختلافات التي بينکم وبين غيرکم. [10] .

فلما کان علي الفرد حجج من الله. کذلک علي المجتمعات حجج من الله. لأن لکل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لکل واحد



[ صفحه 23]



من أفرادها، ولما کان لکل فرد أجل محدد ومحتوم وله نهاية، فکذلک هناک أجل آخر وميقات أخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد. للأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة علي أساس من الأفکار والمبادئ، فهذا المجتمع الذي يسمي بالأمة. له أجل وله موت له حياة وله حرکة، ولما کان الفرد يتحرک فيکون حيا ثم يموت. فکذلک الأمة تکون حية ثم تموت، وکما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس. کذلک الأمم أيضا لها آجالها المضبوطة، قال تعالي: (لکل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). [11] .

وحرکة المجتمع تحت سقف الامتحان. حرکة تحکمها سنة الاستخلاف وهي السنة التي يمتحن بها الله الحاکم والمحکوم قال تعالي: (ويستخلفکم في الأرض فينظر کيف تعملون) [12] وحرکة المجتمعات علي امتداد التاريخ الإنساني حرکة ناطقة. بمعني أن الله تعالي جعل الماضي ينطق في الکون ليتدبر الحاضر وهو منطلق نحو المستقبل، قال تعالي: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا کيف کان عاقبة الذين من قبلهم) [13] فالحاضر إذا تدبر الماضي وجد أن الله تعالي يحيي الذين آمنوا وعملوا الصالحات حياة طيبة غير التي يعطيها للآخرين، وأن الحياة الدنيا التي يعتقد الموجود الحي إنها سعادة لنفسه وراحة لذاته.

إنما تکون سعادة فيها الراحة والبهجة إذا جرت علي حقيقة مجراها.

ويجد الحاضر أن العذاب الذي رآه الناس هو نتيجة طبيعية لأعمالهم.

وأن الله لم يهلک أمة إلا بعد الانذار والحجة. وما هلکت أمة إلا بشرکها بالله والإعراض عن آياته واستکبارهم في مقابل الحق وتکذيبهم



[ صفحه 24]



الأنبياء والرسل. فإذا علم الحاضر هذا. استقام تحت مظلة الامتحان.

واستخدم جميع الموجودات واعتبرها وسيلته في الدنيا لبلوغ سعادة الآخرة.

وفي الوقت الذي يدعو فيه القرآن الکريم بتدبر الماضي، فإنه في الوقت نفسه يکشف عن المستقبل عندما يقف کل فرد للحساب أمام ربه. يوم تري کل أمة جاثية وخشعت الأصوات للرحمن. ففي هذا اليوم يظهر التابع والمتبوع في کل مجتمع علي حقيقته. يقول تعالي: (يوم نقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وکبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا کبيرا) [14] وفي مشهد آخر يقول تعالي: (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وکنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تکلمون). [15] .

وبالجملة: إن للإنسان هدف واضح ومحدد وهو عبادة الله تعالي. وهذا الهدف الواضح المحدد يملک إمکانية تسمح بتحقيقه. وإن الشيطان لا يملک السلطان الذي يغير هذا الهدف. وإنما يحمل لافتات الزينة والزخرف التي تدعو إلي الضلال. ويوم القيامة يتبرأ الشيطان من الذين اتبعوه.

والخلاصة: قال تعالي: (أفحسبتم إنما خلقناکم عبثا وإنکم إلينا لا ترجعون. فتعالي الله الملک الحق لا إله إلا هو رب العرش الکريم) [16] قال في الميزان: هل تظنون إنما خلقناکم عبثا تحيون وتموتون من غير غاية باقية في خلقکم وإنکم إلينا لا ترجعون (فتعالي الله...) الآية.



[ صفحه 25]



ووصف سبحانه نفسه بأنه ملک وأنه حق وأنه لا إله إلا هو وأنه رب العرش الکريم، فله سبحانه أن يحکم بما شاء من بدء. وعود وحياة وموت ورزق، نافذ حکمه ماضيا أمره لملکه، وما يصدر عنه من حکم فإنه لا يکون إلا حقا فإنه حق ولا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق، ولا يفعل سبحانه إلا حقا. فللأشياء رجوع إليه وبقاء به وإلا کانت عبثا باطلة ولا عبث في الخلق ولا باطل في الصنع. [17] .


پاورقي

[1] سورة التين 5.

[2] سورة فاطر آية 15.

[3] سورة يونس آية 108.

[4] سورة الأنعام آية 104.

[5] سورة فصلت آية 46.

[6] سورة العنکبوت آية 6.

[7] سورة الإسراء آية 72.

[8] سورة الإسراء آية 19.

[9] سورة المائدة آية 48.

[10] الميزان 352 / 5.

[11] سورة الأعراف آية 34.

[12] سورة الأعراف آية 129.

[13] سورة يوسف آية 109.

[14] سورة الأحزاب آية 68.

[15] سورة المؤمنون آية 106.

[16] سورة المؤمنون 115.

[17] الميزان 73 / 15.