التحذير من الاختلاف
أمر الله تعالي في کتابه الکريم بعدم الاختلاف في الدين في أکثر من آية، منه قوله تعالي: (ولا تکونوا کالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)، [1] وقال رسول الله (ص) لا تختلفوا فإن من کان قبلکم اختلفوا فهلکوا [2] وقال جل شأنه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [3] وقال النبي (ص) إني تارک فيکم الثقلين أحدهما أکبر من الآخر. کتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض. [4] .
وحذر تعالي من عاقبة الاختلاف في الدين في أکثر من آية من کتابه الکريم. منه قوله تعالي: (إن الذين فرقوا دينهم وکانوا شيعا لست منهم في شئ. إنما أمرهم إلي الله ثم ينبئهم بما کانوا يفعلون)، [5] قال المفسرون: أي أن الذين فرقوا دينهم بالاختلافات والانشعابات المذهبية بعد أن جاءهم العلم، ليسوا علي طريقتک التي بنيت علي وحدة الکلمة ونفي الفرقة، إنما أمرهم في هذا التفريق إلي ربهم فينبئهم يوم القيامة بما کانوا يفعلون. ويکشف لهم حقيقة أعمالهم، والآية عامة. تعم
[ صفحه 285]
اليهود والنصاري والمختلفين بالمذاهب والبدع من هذه الأمة.
وفي الوقت الذي أمرت فيه الدعوة الإلهية الخاتمة بعدم الاختلاف، أخبر النبي (ص) بالغيب عن ربه العليم المطلق سبحانه، بأن الأمة ستختلف من بعده وسيتبع بعضها سنن اليهود والنصاري، قال (ص) إن بني إسرائيل تفرقت إحدي وسبعين فرقة، فهلک إحدي وسبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق علي اثنتين وسبعين فرقة تهلک إحدي وسبعون وتخلص فرقة، قيل: يا رسول الله من تلک الفرقة؟ قال: الجماعة الجماعة، [6] أما اتباع سنن الأولين ففي قوله تعالي: (وعد الله المنافقين والمنافقات والکفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم، کالذين من قبلکم کانوا أشد منکم قوة وأکثر أموالا وأولادا، فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقکم کما استمتع الذين من قبلکم بخلاقهم وخضتم کالذي خاضوا، أولئک حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئک هم الخاسرون)، [7] روي ابن جرير أن رسول الله (ص) قال في هذه الآية حذرکم الله أن تحدثوا في الإسلام حدثا وقد علم أنه سيفعل ذلک أقوام من هذه الأمة، فقال تعالي:
(فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقکم... الآية). وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم، وإن الفتنة عائدة کما بدأت، [8] وروي ابن کثير عن ابن عباس قال: ما أشبه الليلة بالبارحة، کالذين من قبلکم هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، والذي نفسي بيده ليتبعنهم حتي لو دخل الرجل جحر ضب لدخلتموه، [9] وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص) لتتبعن سنن الذين من قبلکم شبرا
[ صفحه 286]
بشبر وذراعا بذراع، حتي لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم قالوا: يا رسول الله اليهود والنصاري؟ قال: فمن؟ [10] وقال المفسرون: إن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض، وإنهم جميعا والکفار ذو طبيعة واحدة في الإعراض عن ذکر الله والإقبال علي الاستمتاع. بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال وأولاد، والخوض في آيات الله. ثم في حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة والخسران. ومعني الآيات: أنتم کالذين من قبلکم کانت لهم قوة وأموال وأولاد، بل أشد وأکثر في ذلک منکم، فاستمتعوا بنصيبهم، وقد تفرع علي هذه المماثلة أنکم استمتعتم کما استمتعوا وخضتم کما خاضوا. أولئک حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئک هم الخاسرون، وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران.
لقد حذرت الدعوة الإلهية عند المقدمة من الاختلاف في الدين، وذکرت أن الاختلاف بعد العلم لا يمکن أن يضع أصحابه علي طريقة رسول الله (ص)، لأنها طريقة بنيت علي وحدة الکلمة ونفي الفرقة، وحذرت الدعوة الخاتمة من سلوک سبيل الذين أوتوا الکتاب. وبينت برامجهم وأهدافهم، وأخبرت بأنهم يصدون عن سبيل الله. ويعملون من أجل أن تضل الأمة وتتبع طريقتهم في الحياة، ثم أخبر رسول الله (ص) بالغيب عن ربه بما يستقبل الناس، ومنه: أن الأمة ستفترق وسيتبع بعضها طريقة اليهود والنصاري، والتحذير عند المقدمة فيه أن الصراع قائم بين الحق وبين الباطل، وظهور الذين اتبعوا اليهود والنصاري عند نهاية الطريق، لا يعني سقوط المسيرة، وإنما يعني سقوط الغثاء والزبد الذي لا قيمة له، وأعلام هؤلاء يحملها المنافقين والمنافقات کما ظهر في صدر الآية الکريمة.
[ صفحه 287]
پاورقي
[1] سورة آل عمران آية 105.
[2] رواه البخاري (کنز العمال 177 / 1).
[3] سورة آل عمران آية 103.
[4] رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن. والطبراني. وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).
[5] سورة الأنعام آية 159.
[6] رواه أحمد (الفتح الرباني 6 / 24) والترمذي وصححه (الجامع 25 / 4).
[7] سورة التوبة آية 69.
[8] تفسير ابن جرير 122 / 10.
[9] تفسير ابن کثير 368 / 2.
[10] رواه أحمد والبخاري ومسلم (الفتح الرباني 197 / 1).