بازگشت

العنکبوت و الدعوة


حذرت الدعوة الخاتمة من سلوک سبيل الذين کفروا من أهل الکتاب، لأن الدعوة تقيم وجهها للدين وتتجه بالبشرية إلي الأمام.

وتمدها علي امتداد الطريق بالزاد الفطري الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الکمال الأخروي، بينما تتقدم قافلة الذين کفروا إلي الخلف بزاد عذاب الطمس الذي ضربه الله عليهم بما کسبت أيديهم، وعلي امتداد هذا الطريق. کلما بالغ أصحابه في التقدم زادوا في التأخر ولن يحصلوا علي السعادة الحقيقية أبدا.

ومن الآيات التي حذر فيها الله من الذين کفروا من أهل الکتاب قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء



[ صفحه 228]



بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منکم فإنه منهم). [1] قال في الميزان:

نهي عن مودتهم الموجبة إلي تجاذب الأرواح والنفوس، لأن ذلک يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية المبنية علي سعادة اتباع الحق. إلي سيرة الکفر المبنية علي اتباع الهوي وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية، وقوله تعالي: (بعضهم أولياء بعض) أي لتضارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم. المستوجب لاجتماع آرائهم علي اتباع الهوي والاستکبار عن الحق وقبوله، واتحادهم علي إطفاء نور الله سبحانه، وتناصرهم علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم والمسلمين، کأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا علي وحدة الملية، لکن يبعث القوم علي الاتفاق ويجعلهم يدا واحدة علي المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلي الحق. ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوي والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا، فهذا هو الذي جعل الطائفتين اليهود والنصاري علي ما بينهما من الشقاق والعداوة مجتمعا واحدا، يقترب بعضه من بعض ويرتد بعضه إلي بعض، يتولي اليهود النصاري وبالعکس. ويتولي بعض اليهود بعضا وبعض النصاري بعضا، وبالجملة: لا تتخذوهم أولياء لأنهم علي تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يدا واحدة عليکم. لا نفع لکم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة، وربما أمکن أن يستفاد من قوله بعضهم أولياء بعض معني آخر وهو:

أن لا تتخذوهم أولياء لأنکم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذين هم أولياؤکم علي البعض الآخر، ولا ينفعکم ذلک. فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونکم علي أنفسهم. [2] .

ومن آيات التحذير أيضا قوله تعالي: (ألم تر إلي الذين أوتوا



[ صفحه 229]



نصيبا من الکتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائکم وکفي بالله وليا وکفي بالله نصيرا) [3] قال في الميزان: أي أنک تري اليهود الذين أوتوا نصيبا من الکتاب. أي حظا منه لا جميعه کما يدعون لأنفسهم، يشترون الضلالة وتختارونها علي الهدي ويريدون أن تضلوا السبيل، فإنهم وإن لقوکم ببشر الوجه. وظهروا لکم في زي الصلاح. واتصلوا بکم اتصال الأولياء الناصرين. فذکروا لکم ما ربما استحسنته طباعکم واستصوبته قلوبکم، لکنهم ما يريدون إلا ضلالکم عن السبيل کما اختاروا لأنفسهم الضلالة، والله أعلم منکم بأعدائکم.

وهم أعداؤکم، فلا يغرنکم ظاهر ما تشاهدون من حالهم، فإياکم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلي أقوالهم المزوقة وإلقاءاتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياءکم وأنصارکم، فأنتم لا تحتاجون إلي ولايتهم الکاذبة ونصرتهم المرجوة، وکفي بالله وليا وکفي بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلي ولايتهم ونصرتهم. [4] .

ومنها قوله تعالي: (ولن ترضي عنک اليهود ولا النصاري حتي تتبع ملتهم. قل إن هدي الله هو الهدي ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءک من العلم مالک عن الله من ولي ولا نصير)، [5] قال في الميزان:

أي. إن هؤلاء ليسوا براضين عنک حتي تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثم أمر الله رسوله بالرد عليهم بقوله قل إن هدي الله هو الهدي أي إن الاتباع إنما هو لفرض الهدي ولا هدي إلا هدي الله، أما غيره وهو ملتکم ليس بالهدي، فهي أهوائکم ألبستموها لباس الدين وسميتموها باسم الملة، [6] وقال ابن کثير: وقوله تعالي:



[ صفحه 230]



(ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءک من العلم... الآية) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طريق اليهود والنصاري، بعد ما علموا من القرآن والسنة، والخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل کثير من الفقهاء بقوله حتي تتبع ملتهم حيث أفرد الملة علي أن الکفر کله ملة واحدة. [7] .

وبالجملة: حذر الله تعالي الأمة من تنظيمات أهل الکتاب.

التي لها أهداف قريبة وأهداف بعيدة، والتي يحمل أعلامها الفرق المختلفة والطوائف المختلفة، قال تعالي: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الکتاب يردوکم بعد إيمانکم کافرين) [8] قال المفسرون: يحذر تبارک وتعالي عباده المؤمنين عن أن يطيعوا فريقا من أهل الکتاب. الذين يحسدون المؤمنين علي ما آتاهم الله من فضله، کما قال تعالي: (ود کثير من أهل الکتاب لو يردونکم من بعد إيمانکم کفارا حسدا من عند أنفسهم)، [9] وهکذا قال ههنا (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الکتاب يردوکم بعد إيمانکم کافرين) وفي آية أخري قال تعالي:

(ودت طائفة من أهل الکتاب لو يضلونکم). [10] .

وباختصار: فالقاعدة العريضة منهم ودوا لو يردون الذين آمنوا من بعد إيمانکم کفارا، وهناک فرق حملت أعلام هذه القاعدة وانطلقت رجاء تنفيذ هذا الهدف، وهناک طائفة من أهل الکتاب مهمتها إطفاء الأنوار رغبة منها في أن تضل قافلة الذين آمنوا عن الطريق، والمعني:

أن الطائفة في خدمة الفريق والفريق في خدمة القاعدة. وليس معني



[ صفحه 231]



هذا إن قاعدة أهل الکتاب خالية من العلماء الذين يبحثون عن الحقيقة.

فهؤلاء أثر أقدامهم علي الطريق. والإسلام لم يغلق أبوابه أمام الذين يريدون الاستبصار منهم في الدين، وقد أمر الله تعالي بمجادلتهم بالتي هي أحسن. فقال تعالي في آية محکمة (ولا تجادلوا أهل الکتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظالموا منهم) [11] وقوله: (إلا الذين ظلموا منهم) يعني أهل الحرب، وذکر تعالي في کتابه. إن الذين قالوا أنهم من أتباع عيسي عليه السلام وعلي منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله، وما ذاک إلا لما في قلوبهم من الرقة والرحمة، ويوجد فيهم قسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم ورهبانا، من صفتهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع والانقياد للحق واتباعه والإنصاف، وإذا سمعوا ما أنزل علي الرسول الخاتم (ص). تري أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قال تعالي: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلک بأن منهم قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستکبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلي الرسول تري أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. يقولون ربنا آمنا فاکتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين)، [12] فهذا الصنف من النصاري کان أول ظهوره بالحبشة في النجاشي وأصحابه، وهم المذکورين في قوله تعالي: (وإن من أهل الکتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليکم وما أنزل إليهم خاشعين لله)، [13] وهم الذين قال الله فيهم (الذين آتيناهم الکتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلي عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا کنا من قبله مسلمين)، [14] ومنذ أيام النجاشي



[ صفحه 232]



وعلي امتداد المسيرة الإسلامية، لم تغلق الدعوة أبوابها في وجوه الذين يريدون الاستبصار في الدين، لأن الله تعالي أمر رسوله الخاتم (ص). أن يدعو الخلق إلي الله بالحکمة. والموعظة الحسنة ليحذروا بأس الله تعالي، وأمره تعالي أن من احتاج من الناس إلي مناظرة وجدال، فليکن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.

فمن هذه النصوص ومن غيرها نعلم أن الدعوة الإلهية الخاتمة حذرت من اتباع أي مشروع تقدمه الطوائف أو الفرق التي تهدف من وراء برامجها الصد عن سبيل الله، وفي نفس الوقت فتحت الدعوة أبوابها للباحثين عن الحقيقة من أهل الکتاب لتقيم الحجة عليهم وعلي غيرهم في کل مکان وزمان..



[ صفحه 233]




پاورقي

[1] سورة المائدة آية 51.

[2] تفسير الميزان 373 / 5.

[3] سورة النساء آية 45.

[4] الميزان 363 / 4.

[5] سورة البقرة آية 120.

[6] الميزان 265 / 1.

[7] ابن کثير في التفسير 163 / 1.

[8] سورة آل عمران آية 100.

[9] سورة البقرة آية 109.

[10] سورة آل عمران آية 69.

[11] سورة العنکبوت آية 46.

[12] سورة المائدة آية 82.

[13] سورة آل عمران آية 199.

[14] سورة القصص آية 52.