بازگشت

اتباع ابراهيم


بعد عهد السبي تاجر اليهود بالميراث الذي کتبه الله لإبراهيم، وانطلقوا في اتجاه هذا الهدف بالعمل علي إقامة مملکة داوود وعاصمتها أورشاليم، بعد أن تبنوا عقيدة تقول أن مملکة داوود هي وعاء للعهد الإبراهيمي، وعلي امتداد مسيرتهم وبخهم الأنبياء علي هذا الاعتقاد، فقال لهم حزقيال تقولون إن إبراهيم کان واحدا وقد ورث الأرض.

ونحن کثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا... تأکلون بالدم وترفعون



[ صفحه 216]



أعينکم إلي أصنامکم وتسفکون الدم. أفترثون الأرض؟ [1] وقال لهم يوحنا (يحيي) تقولون لنا إبراهيم أبا. فإني أقول لکم إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم [2] وقال لهم المسيح عليه السلام لو کنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم وقال أنتم أولاد أبيکم إبليس. وشهوات أبيکم ترغبون في أن تعملوا. فهو من البدء کان قاتلا للناس. [3] .

وعندما بعث النبي الخاتم (ص)، تحدث أهل الکتاب بعقيدتهم الخاصة بالميراث، وعملوا علي نشر الثقافة التي تصب في وعاء هذه العقيدة، واليهود في مصادر الإسلام أعلنوا أنهم في انتظار المسيح الذي يملکون به الأرض، والنصاري تحدثوا بما وضعه بولس في عقولهم.

وهو أن الأمم شرکاء لليهود في الميراث، ووفقا لهذا الاعتقاد بدؤوا في التحرک لوقف تحرک الدعوة الخاتمة في اتجاه الأمم، وشيد اليهود والنصاري صروحهم علي إبراهيم عليه السلام، فبينما زعم الحي اليهودي أن إبراهيم کان يهوديا، زعم الحي النصراني أن إبراهيم کان نصرانيا، وفي زحمة هذه الثقافات. قالت اليهود ليست النصاري علي شئ، وقالت النصاري ليست اليهود علي شئ، وهذه الأقوال والاعتقادات شهد بها القرآن الکريم ورد عليها وأقام علي هؤلاء وهؤلاء الحجة الدامغة، ومن هذه الآيات قوله تعالي: (وقالت اليهود والنصاري نحن أبناء الله وأحباؤه. قل فلم يعذبکم بذنوبکم بل أنتم بشر ممن خلق. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) [4] والمعني: لو کنتم کما تدعون أبناؤه وأحباؤه. فلم أعددت لکم نار جهنم علي کفرکم وکذبکم وافترائکم بل



[ صفحه 217]



أنتم بشر ممن خلق أي لکم أسوة بأمثالکم من بني آدم وهو سبحانه الحاکم في جميع عباده. فعال لما يريد لا معقب لحکمه وهو سريع الحساب.

وقال تعالي: (وقالوا کونوا هودا أو نصاري تهتدوا. قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما کان من المشرکين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا. وإن تولوا فإنما هم في شقاق) [5] وقبل هذه الآيات بين تعالي أن الدين الحق الذي کان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده، کان هو الإسلام الذي کان عليه إبراهيم حنيفا، ويستنتج من ذلک أن أهل الکتاب علي عهد البعثة الخاتمة، کانوا قد انتهي بهم المطاف إلي أرضية الاختلافات والانشعابات. التي أفرزتها اختراعاتهم وهوساتهم. بعد أن صبغوا دين الله بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع، وروي أن اليهودي عبد الله بن صوريا قال للرسول (ص): ما الهدي إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصاري مثل ذلک. [6] فقال الله لرسوله (قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما کان من المشرکين) أي: قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا. فإنها الملة الواحدة التي کان عليها جميع أنبيائکم. وما کان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشرکين.

ثم ذکر لهم أن الدعوة الخاتمة تؤمن بالله وما أنزل إليها وهو القرآن وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم ذکر ما أوتي موسي وعيسي وخصهما بالذکر لأن المخاطبة مع اليهود



[ صفحه 218]



والنصاري، ثم ذکر ما أوتي النبيون من ربهم لتشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلک لا نفرق بين أحد منهم. ثم قال تعالي:

(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) أي. فإن آمنوا بما آمنتم به من الإيمان بجميع کتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه.

من الآيات السابقة يمکن أن نستشف الثقافة التي کان اليهود والنصاري يبثونها علي عهد الرسالة الخاتمة. فلقد ادعوا بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا کونوا هودا أو نصاري تهتدوا، ويبدو أن القرآن عندما ضرب العمود الفقري لثقافتهم هذه، قرروا بأن يعمل کل حي من أحيائهم علي إنفراد، ويمکن أن نستشف ذلک من قوله تعالي: (وقالت اليهود ليست النصاري علي شئ وقالت النصاري ليست اليهود علي شئ وهم يتلون الکتاب) [7] قال المفسرون: هؤلاء أهل الکتاب الذين کانوا علي عهد رسول الله (ص)، وهذا القول يقتضي أن کلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخري، ولکن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه مع علمهم بخلاف ذلک، ولهذا قال تعالي: (وهم يتلون الکتاب) أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، کل منهما قد کانت مشروعة في وقت، ولکنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وکفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد، [8] وبالجملة: قد کان أوائل اليهود والنصاري علي شئ، وهذا لا تخلو منهم کتبهم لإقامة الحجة عليهم علي امتداد المسيرة، ثم ابتدع الذين من بعدهم وتفرقوا، ثم جاء العلماء الذين وضعوا التفسير الشفهي للتوراة (التلمود) وعنده انقسم اليهود إلي فرق وأحزاب، وانتهي الأمر بأن وقف الحي اليهودي داخل دائرة حددها



[ صفحه 219]



الأحبار، ووقف الحي النصراني داخل دائرة حددها بولس لخدمة أصحاب الدائرة الأولي، فالثقافة التي تخرج من مدونات خدمة النصاري لليهود تقول بأن اليهود والنصاري أبناء الله وأحباؤه، أما الثقافة التي يقول کل منهم أن الآخر ليس علي شئ، فهي نتيجة لحجة البعثة الخاتمة ومواجهتها للأطراف مجتمعين، فالدعوة الخاتمة أرشدتهم إلي الحق ليتفکروا ويتدبروا، وبدلا من أن يرجعوا إلي کتبهم التي لا تخلو من حق ويعرضونها علي منهج البعثة الخاتمة، إنطلقوا من التفسير الشفهي وهذا التفسير لا يقيم حقا لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء، لأنه مقابلة للفاسد بالفاسد.

وفي مجال عمل کل حي منفردا عن الآخر. قام کل منهما بوضع جميع الأنبياء داخل الحي الخاص به، ورد القرآن عليهم قولهم، قال تعالي: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط کانوا هودا أو نصاري قل أأنتم أعلم أم الله، ومن أظلم ممن کتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون)، [9] والمعني: قال کل من الفريقين إن إبراهيم ومن ذکر بعده منهم، فقال تعالي: (قل أأنتم أعلم أم الله)، أي فإن الله أخبرنا وأخبرکم في الکتاب أن موسي وعيسي وکتابهما بعد إبراهيم. فإذا کان تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذکر معه، فکيف يکون إبراهيم والذين ذکروا معه هودا أو نصاري؟

وقال تعالي: (يا أهل الکتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لکم به علم فلم تحاجون فيما ليس لکم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ما کان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولکن کان حنيفا مسلما وما کان من المشرکين، إن أولي الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا



[ صفحه 220]



والله ولي المؤمنين، ودت طائفة من أهل الکتاب لو يضلونکم. وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون، با أهل الکتاب لم تکفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الکتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتکتمون الحق وأنتم تعلمون). [10] .

لقد أنکر الله عليهم قولهم ذلک، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلي عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور علي حقائقها، وشهد سبحانه بأن إبراهيم کان متحنفا عن الشرک قاصدا إلي الإيمان وما کان من المشرکين، وأخبر سبحانه بأن أحق الناس بمتابعة إبراهيم. الذين اتبعوه علي دينه، وهذا النبي. يعني محمدا (ص) والذين آمنوا. لأنهم علي الإسلام الذي اصطفي الله به إبراهيم، وکذا کل من اتبعه دون أن يکفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل، ثم أخبر تعالي بأن طائفة من أهل الکتاب تود أن تضل الذين آمنوا بإلقاء الشبهات بينهم، وإنهم يضلون أنفسهم أولا. لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه کما قال تعالي: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربک بظلام للعبيد)، [11] ثم قال سبحانه (يا أهل الکتاب لم تکفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) وأهل الکتاب لا ينکرون أن للعالم إلها، وإنما ينکرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الکتب السماوية المنزلة عليهم وعلي غيرهم، کنبوة النبي (ص)، وکون عيسي عبدا لله ورسولا منه، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني، وإن يد الله مبسوطة، وإن الله غني، وإن الدجال فتنة فيه تصب جميع الفتن، إلي غير ذلک. وقوله تعالي: (وأنتم تشهدون) والشهادة هو الحضور والعلم عن حس، دلالة علي أن المراد بکفرهم بآيات الله. إنکارهم کون النبي (ص) هو النبي الموعود الذي بشر



[ صفحه 221]



به التوراة والإنجيل، مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذکورة فيهما عليه، وأيضا إنکارهم ما يبنيه لهم النبي الخاتم (ص) من آيات ربهم التي تنطق بها کتبهم. التي بين أيديهم ويشهد القرآن بها، ثم قال تعالي: (يا أهل الکتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتکتمون الحق وأنتم تعلمون) والمعني لم تظهرون الحق في صورة الباطل؟ وقوله: (وأنتم تعلمون) دلالة أو تلويح علي أن المراد باللبس والکتمان ما هو في المعارف الدينية، غير ما يشاهد من الآيات التي حرفوها أو کتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.

ولما کان الله تعالي قد أنکر عليهم کفرهم بآيات الله وهم يشهدون، فإنه تعالي بين في آية أخري من آيات القرآن الکريم، أن جدالهم في آيات الله بغير سلطان أتاهم، رغبة منهم في إدحاض الحق الصريح بهذا الجدال، قد أوقعهم في فتنة المسيح الدجال، ففي قوله تعالي: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا کبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير)، [12] أخرج ابن أبي حاتم عن کعب. أن هذه الآية نزلت في اليهود فيما ينتظرونه من أمر الدجال، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قال اليهود. يکون منا ملک آخر الزمان. البحر إلي رکبتيه. والسحاب دون رأسه. يأخذ الطير بين السماء والأرض. معه جبل خبز ونهر، وقال أبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وذلک إنهم ادعوا أن المسيح (الدجال) منهم وإنهم يملکون به الأرض، فقال الله لنبيه (ص) آمرا له: أن يستعذ من فتنة الدجال. [13] .

وبالجملة بينت الدعوة الإلهية الخاتمة. أن الرقعة التي يقف



[ صفحه 222]



عليها أهل الکتاب ويطالبون من فوقها الميراث الذي کتبه الله لإبراهيم، رقعة لا علاقة لها بإبراهيم ولا بالأنبياء الذين جاؤوا من بعده، لأنها رقعة أوجدها الاختلافات والانشعابات، وهذا لا يستقيم مع الدين الإلهي، لأن الدين واحد کما أن الإله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم عليه السلام، وهذا الدين هو الذي تتمسک به الدعوة الإلهية الخاتمة، ولما کان القوم لا علاقة لهم بإبراهيم، وشهد بذلک حزقيال وأشعيا ويوحنا والمسيح عليه السلام، وشهد بذلک القرآن الکريم الذي أنزل علي محمد (ص)، فالنتيجة هي أن القوم لا علاقة لهم بميراث إبراهيم في الدنيا والآخرة، ولما کان القوم ما زالوا يعتقدون بأن القدر يخبئ لهم أمير سيخرج آخر الزمان يمتلکون به الأرض. فإن الدعوة الخاتمة أخبرت بأن المسيح الدجال سيخرج آخر الزمان، وأنه سيرفع شعار أرض الميعاد، وأن أکثر أتباعه من اليهود، ويلحق بهم الذين أخذوا بذيول اليهود، ثم الذين اتبعوا سنن أهل الکتاب شبرا بشبر وذراعا بذراع..


پاورقي

[1] حزقيال 33 / 23 - 25.

[2] متي 3 / 7 - 11.

[3] يوحنا 8 / 37.

[4] سورة المائدة آية 18.

[5] سورة البقرة آية 135.

[6] تفسير ابن کثير 186 / 1.

[7] سورة البقرة آية 113.

[8] ابن کثير 155 / 1.

[9] سورة البقرة آية 140.

[10] سورة آل عمران آية 65 - 71.

[11] السجدة آية 46.

[12] سورة غافر آية 56.

[13] أنظر تفسير ابن کثير 84 / 4، تفسير الميزان 348 / 17.