بازگشت

الدعوة الي اتباع قبلة الرسالة الخاتمة


عندما بعث النبي الخاتم (ص)، کان الاختلاف بين اليهود علي تحديد القبلة اختلاف ثابتا لا شک فيه، ونسيانهم للجبل المقدس الذي يجب أن يتوجهوا إليه. نسيان مسطور فيما بين أيديهم من کتاب، قال أشعيا وهو يحذرهم بأن الرب قال لهم أما أنتم الذين ترکوا الرب ونسوا جبل قدسي فإني أعينکم للسيف. [1] وهذا النسيان تري معالمه علي التوراتين: السامرية والعبرية، فبينما تقول التوراة السامرية أن القبلة في اتجاه جبل جرزيم، تقول التوراة العبرانية إنها في اتجاه جبل عيبال، والمسيح عليه السلام شهد بوجود هذا الاختلاف في عهد بعثته، وبشرهم بأن العبادة لن تکون في المستقبل لا في اتجاه هذا الجبل ولا في اتجاه أورشاليم، وذلک لأن الله سينزع من أيديهم القيادة ويسلمها إلي شعب آخر. [2] وما ذکره المسيح عليه السلام بخصوص القبلة، جاء عندما کان متوجها إلي أورشاليم، فقالت له امرأة سامرية يا سيدي أري إنک نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون أن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، فأجابها يسوع: صدقيني يا امرأة ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم. [3] وقبل البعثة الخاتمة. لم يکن في أورشاليم هيکلا. بعد أن دمر الإمبراطور تيطس آخر هيکل عام 75 ميلادية، ولم يکن في أورشاليم حاخامية لليهود. بعد أن ألغي الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية عام 435 ميلادية وترتب علي ذلک تفرق اليهود في الأرض.

ولما کانت الدعوة الإلهية المتوجهة إلي بني إسرائيل قد نزل



[ صفحه 213]



عليها الستار بعد بعثة عيسي عليه السلام، لأنه آخر أنبياء بنو إسرائيل عليهم السلام، ولما کان عيسي عليه السلام يسجد لله في اتجاه أورشاليم، ولما کانت الدعوة الإلهية اللاحقة تبدأ من حيث انتهت الدعوة الإلهية التي سبقتها، باعتبار أن الدعوة الإلهية للناس منذ ذرأ الله ذرية آدم دعوة واحدة، صراطها واحد وغاياتها واحدة، فتبدأ دعوة اللاحق من الرسل من حيث انتهت دعوة السابق من الرسل، ثم يفعل الله ما يشاء ويحکم ما يريد، ويکلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، لأنه تعالي له الحکمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلک، ولما کان أهل الکتاب يعلمون من کتب أنبيائهم أن الدعوة الخاتمة لها صفات خاصة بها، وأنها ستبين لهم ولغيرهم الاتجاه الذي يجب أن يسجد نحوه الناس لله، فإن الله تعالي عندما بعث رسوله الخاتم (ص). أمره بالتوجه إلي قبلة بيت المقدس، والمعني الذي يستشف من هذا الحدث هو أن الدعوة الإلهية دعوة واحدة. وأن الحلقات فيها ترتبط بعضها ببعض، وتحت هذا السقف تقام الحجة علي الذين اختلفوا في الدين والذين جعلوا الدين دينا خاص بهم، وتحت هذا السقف ينظر الله إلي عباده کيف يعملون. ومن يتبع الرسول ممن ينقلب علي عقبيه.

وعندما کانت القبلة في اتجاه بيت المقدس، تدبر في الأحداث الذين يعرفون الحق ومعارف الدين والزهاد من أهل الکتاب وأصغوا لصوت الحق، وتکاتم البعض ذلک بينهم حسدا وکفرا وعنادا، وانطلقوا يصدون عن سبيل الله، وبعد أن أقامت الدعوة حجتها علي بني إسرائيل في هذا الأمر، أمر تعالي رسوله (ص) بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بمکة، وأخبره بأن أهل الکتاب يعلمون أنه الحق من ربهم، قال تعالي: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي کانوا عليها. قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم. وکذلک جعلناکم أمة وسطا لتکونوا شهداء علي الناس ويکون الرسول



[ صفحه 214]



عليکم شهيدا. وما جعلنا القبلة التي کنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب علي عقبيه) إلي قوله تعالي: (قد نري تقلب وجهک في السماء فلنولينک قبلة ترضاها. فول وجهک شطر المسجد الحرام. وحيث ما کنتم فولوا وجوهکم شطره. وإن الذين أوتوا الکتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون. ولئن أتيت الذين أوتوا الکتاب بکل آية ما تبعوا قبلتک وما أنت بتابع قبلتهم) [4] قال المفسرون. والمعني: إنما شرعنا لک يا محمد أولا التوجه إلي بيت المقدس، ثم صرفناک عنه إلي الکعبة ليظهر حال من يتبعک ويطيعک ويستقبل معک حيثما توجهت. ممن ينقلب علي عقبيه، وإن کان صرف التوجه عن بيت المقدس إلي الکعبة لأمرا عظيما في النفوس، إلا علي الذين هدي الله قلوبهم. فأيقنوا بتصديق الرسول. وبأن کل ما جاء به هو الحق الذي لا مرية فيه. وبأن الله يفعل ما يشاء ويحکم ما يريد. وله تعالي أن يکلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء. وهذا بخلاف ما يقوله الذين في قلوبهم مرض. فإنه کلما حدث أمر أحدث لهم شکا، ثم أخبره تعالي بأن صلاتهم إلي بيت المقدس لن يضيع ثوابها عند الله، وأمره تعالي بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وأخبره أن الذين أوتوا الکتاب يعلمون أن الله سيوجهه إلي هذه القبلة: مما في کتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسوله الخاتم (ص). وما خصه الله تعالي به وشرفه من الشريعة الکاملة العظيمة، ولکن أهل الکتاب يتکاتمون ذلک بينهم حسدا وکفرا وعنادا، وأخبر تعالي أن الرسول لو أقام عليهم کل دليل علي صحة ما جاءهم به، لما اتبعوا قبلته کفرا وعنادا، وإنه لن يتبع قبلتهم لأن ذلک عن أمر الله تعالي. له الحکمة التامة والحجة البالغة، ثم أشار تعالي إلي اختلافهم فيما بينهم في تحديد قبلتهم



[ صفحه 215]



القديمة، وهو قوله وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وأمره تعالي أن يستمسک بأمر الله ولا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، وقال جل شأنه (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءک من العلم إنک إذا لمن الظالمين، الذين آتيناهم الکتاب يعرفونه کما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليکتمون الحق وهم يعلمون)، [5] والمعني: أن علماء أهل الکتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول، ومن ذلک توجهه شطر المسجد الحرام، کما يعرف أحدهم ولده.

وبالجملة کان التوجه إلي بيت المقدس، ثم صرف التوجه عن بيت المقدس إلي الکعبة، امتحان لأهل الکتاب الذين علموا من أبنائهم أن قيادة الدعوة الإلهية ستنتقل من بني إسرائيل إلي بني إسماعيل. وأن عنوان هذه الدعوة ورسولها هو النبي الخاتم محمد صلي الله عليه وآله وسلم، وکان امتحان أيضا للذين اتبعوا النبي (ص) من العرب وغيرهم، لأن صرف التوجه عن بيت المقدس سيثير شکوک البعض، وسيغذي أهل الکتاب والذين في قلوبهم مرض هذه الشکوک وهم يصدون عن سبيل الله، وتحت سقف هذا الامتحان ينظر الله إلي عباده کيف يعملون.


پاورقي

[1] أشعيا 65 / 11.

[2] متي 21 / 42 - 45.

[3] يوحنا 4 / 22.

[4] سورة البقرة آية 142 - 145.

[5] سورة البقرة آية 146.