بولس والتبشير بالنبي الخاتم
بعد أن ألغي بولس الشريعة. ودفع بالقافلة إلي حيث لا ضابط لها فيما تفعل أولا تفعل. وترتب علي هذا ظهور الکثير من الأحبار والرهبان ليشرعوا للناس ويأکلوا أموال الناس بالباطل. وظهور الکثير من الفرق التي اتخذت عقيدة أرض الميعاد وثقافتها وقودا لها. وکان الحي النصراني هو الأرض الخصبة لهذه الفرق. نظرا لوجود الحي اليهودي مع الحي النصراني تحت سقف واحد ينتمي إلي بني إسرائيل بالاسم.
وبولس قام بالتعتيم علي نبوة الرسالة الخاتمة. من خلال تصوره لعقيدة ميراث بني إسرائيل. بمعني أنه تتبع الميراث من عند بدايته. ومن عند البداية ضرب الخط الذي يبعث الله منه النبي الخاتم صلي الله عليه وآله وسلم. والوعد جاء ذکره في التوراة علي النحو التالي في ذلک اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لتلک أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلي النهر الکبير نهر الفرات. [1] .
ويقول بولس في هذا الوعد فإنه قد کتب إن إبراهيم کان له إبنان. أحدهما من الجارية. والآخر من الحرة. أما ابن الجارية فقد ولد حسب الجسد. وأما ابن الحرة فإتماما للوعد [2] وابن الجارية الذي يقصده بولس. هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وأمه هاجر عليها السلام. ومن ذريته بعث النبي الخاتم صلي الله عليه وآله وسلم. أما ابن الحرة الذي يقصده بولس. فهو إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. وأمه سارة عليها السلام، ومن أبنائه يعقوب ومن ذريته بعث الله أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام.
[ صفحه 193]
وبولس وهو يصيغ منهجه للتعتيم علي النبوة الخاتمة، راعي أن يکون الحي النصراني خادما للحي اليهودي، بمعني أنه قام بتحويل الدعوة المسيحية من السير إلي الأمام إلي السير نحو الخلف بلا سراج ينير، حتي تقف المسيرة عند الوراء أمام لوحة ميراث بني إسرائيل، ولا تملک المسيرة إلا أن تکون خادمة لهذا العنوان، وعلي امتداد هذه الخدمة يتم صحن کل شئ في خدمة الحي اليهودي بما في ذلک آيات التبشير بالنبوة الخاتمة.
لقد جرد بولس الحي النصراني من الشريعة التي يتمسک بها الحي اليهودي، وعلي هذا يصبح لا معني وراء اعتناق اليهودي للنصرانية التي حررها بولس من الشريعة، ولأن النصرانية التي أسسها بولس تعمل تحت سقف الحي اليهودي. فإن وجود النصاري تحت هذا السقف يکون له معني بأي صورة من الصور، وبولس نفسه يقول لي رجاء بإن يحقق الله ما وعد به آباءنا. وما زالت أسباط شعبنا الاثني عشر تواظب علي العبادة ليل نهار راجية تحقيقه. [3] وقد علمنا من قبل أن الأسباط الاثني عشر تخص الحي اليهودي، وأن التلاميذ الاثني عشر يخصوا دعوة المسيح فإنهم ذلک.
ودفع القافلة النصرانية لخدمة الأهداف اليهودية. نراها في أصول بولس التي تتحدث عن الميراث وتضرب من خلاله آيات التبشير بالنبوة الخاتمة. ومن ذلک قوله قد سمعتم بتدبير نعمة الله الموهوبة لي لأجلکم. کيف کشف لي السر عن طريق الوحي. کما کتبت قبلا بإيجاز. ويمکنکم حينما تقرأون ما کتبته أن تدرکوا اطلاعي العميق علي سر المسيح. ذلک السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في الأجيال الماضية مثلما أعلن اللآت بوحي الروح لرسله القديسيين وأنبيائه، وهو:
[ صفحه 194]
أن الأمم هم شرکاء اليهود في الميراث وأعضاء في الجسد معهم. ولهم أيضا حق الاستفادة من الوعد. وذلک في المسيح يسوع. وبفضل الإنجيل الذي صرت أنا خادما له. [4] .
فالسر العميق بإيجاز شديد. هو أن الأمم الذين هم بلا شريعة.
يمکن أن يکون لهم نصيبا في الميراث إذا وقفوا مع النصاري وهم أيضا بلا شريعة. تحت سقف المسيح الذي حرر الناس من لعنة الشريعة إذ صار لعنه عوضا عنهم. لأنه قد کتب: ملعون کل من علق علي خشبة.
فلکي تصل برکة إبراهيم إلي الأمم. لا بد أن يکون ذلک عن طريق قبول المسيح. [5] وقبول المسيح من شروطه قبول الإنجيل الذي صار بولس خادما له. ومن المعلوم أن بولس لم يصاحب المسيح عليه السلام ولم يشر في رسائله أنه رآه أو تحدث معه أو شاهد معجزاته علي عهد ا لدعوة.
ولما کان اليهود علي امتداد مسيرتهم يتمسکون بعقيدة الشعب المختار أي الشعب ذو الدماء النقية الذي يرث الأرض التي کتبها الله لإبراهيم، فإن بولس ألحق النصاري بنسل إبراهيم ولکن عن طريق آخر هو طريق الروح، فقال وقد وجهت الوعود لإبراهيم ونسله. ولا يقول وللأنسال کأنه يشير إلي کثيرين، بل يشير إلي واحد، إذ يقول ولنسلک يعني المسيح [6] ثم يقول لاتباعه وهو يلحقهم بنسل المسيح وأما أنتم أيها الأخوة، فأولاد الوعد علي أمثال إسحاق، ولکن لما کان في الماضي المولود بحسب الجسد يضطهد المولود بحسب الروح، فکذلک أيضا يحدث الآن، إنما ماذا يقول الکتاب؟، اطرد الجارية
[ صفحه 195]
وابنها. لأن ابن الجارية لا يرث مع ابن الحرة. إذن أيها الأخوة نحن لسنا أولاد الجارية بل أولاد الحرة. [7] .
ولقد خلط بولس بين الأوراق عندما قال: ولفظة هاجر. تطلق علي جبل سيناء في بلاد العرب، وتمثل أورشاليم الحالية فإنها مع بنيها في العبودية، وأما الثاني. فرمزه الحرة التي تمثل أورشاليم السماوية.
التي هي أمنا. [8] .
فمنهج بولس فيما يختص بالميراث، أثبت لليهود الحق فيه، لأنهم أولاد يعقوب بن إسحاق، وهم أصحاب شريعة موسي والأنبياء، والحي النصراني له الحق في الوعد علي أمثال إسحاق. لأنه ينتسب إلي المسيح بالروح. کما يقول الإنجيل الذي صار بولس خادما له، والحي اليهودي مع الحي النصراني في عقيدة بولس. لا يمثلان أورشاليم التي يتجول فيها بولس وجميع فرق بني إسرائيل. فأورشاليم التي لعن الله أهلها الذين قتلوا الأنبياء وجعلوا بيته فيها مغارة لصوص، وجاءتها البعوث من کل مکان لتدمر ما فيها وتسبي أهلها. بعد أن عبدوا البعل وأقاموا المرتفعات للآلهة المتعددة، أورشاليم هذه لا تخص إلا هاجر وولدها إسماعيل وذريته العربية کما تقول عقيدة بولس، أما ما يخص بولس وأتباعه فهي أورشاليم السماوية. أورشاليم الجديدة التي جاء ذکرها في أسفار الأنبياء کما ذکرنا. ومن أوصافها أرضها مربعة طولها يساوي عرضها. وهي متساوية الطول والعرض والارتفاع. [9] وقال مفسرو العهد الجديد: هي مکعبة، ولن يدخلها شئ نجس ولا ما
[ صفحه 196]
يصنع رجاسة أو کذب. [10] وأرضها أرض جديدة لا بحر فيها. [11] .
ويطل عليها جبل ضخم عال. [12] ولا يوجد بها هيکلا،. [13] وبنزول أورشاليم من عند الله يکتب الله عليها اسمه الجديد. [14] ويصير بيت الله وسط الناس. [15] وذکر سفر الرؤيا أن المبعوث إلي أورشاليم الجديدة هو الشاهد الأمين الصادق. [16] .
ففي عقيدة بولس أن أورشاليم هذه لا تخص هاجر وولدها. وإنما تخص بولس وأتباعه (!!). ونتيجة لخلط الأوراق حدث الضلال علي امتداد المسيرة، ولم يجني الحي النصراني إلا السراب الذي لا يروي ظمأ ولا يسمن ولا يغني من جوع، وبتأمل أحداث آخر الزمان نجد أن المسيرة النصرانية التي زودها بولس بوقوده لتکون في خدمة الأهداف اليهودية، ستکون معلقة في الهواء. حيث لا أرض طالت ولا سماء، بينما يکون اليهود في هذا الوقت تحت قيادة أمير السلام ابن داوود ينعمون بما لديهم من مادة وميراث کما يعتقدون، ويقول بولس عن مکان النصاري في أحداث آخر الزمان إننا نحن الباقين أحياء إلي حين عودة الرب لن نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه سينزل من السماء حالما يدوي أمر الجميع. وينادي رئيس ملائکة ويبوق في بوق إلهي، عندئذ يقوم الأموات في المسيح أولا، ثم إننا نحن الباقين أحياء نختطف جميعا في السحب للاجتماع بالرب في الهواء، وهکذا نبقي مع الرب
[ صفحه 197]
علي الدوام. لذلک عزوا بعضکم بعضا بهذا الکلام. [17] وبهذا الکلام ينتهي الأمر بفوز اليهود بالميراث الذي کان بولس يرجو من الله أن يحققه. بعد أن وعد به آبائه من بني إسرائيل. وظلت أسباط الشعب الاثني عشر تواظب علي العبادة ليل نهار. راجية تحقيقه. وينتهي الأمر أيضا بالحي النصراني وسط السحاب في الهواء، ليملأ کفيه بالسحاب أو بالهواء.
وبعد إلقاء بعض الضوء علي أطروحة بولس داخل الحي النصراني، نسجل هنا أقوال بعض علماء مقارنة الأديان، يقول يواکيم برنز لقد کان بولس سباقا إلي قبول فکرة انفصال المسيحية عن اليهودية. ومهد بإنشاء العقيدة المناسبة، [18] ويقول د. جوستاف لوبون إن بولس أسس باسم يسوع دينا لا يفقهه يسوع لو کان حيا، ولو قيل للحواريين الاثني عشر إن الله تجسد في يسوع ما أدرکوا هذه الفضيحة ولرفعوا أصواتهم محتجين، [19] ويقول د. شارل جنيبر رئيس قسم الأديان بجامعة باريس لقد تجاهل بولس فکرة عيسي الناصري ولم يتجه إلا إلي عيسي المصلوب، فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود. رجل سماوي احتفظ الله به إلي جانبه، أمدا طويلا، حتي نزل إلي الأرض لينشئ فيها حقا لبشرية جديدة يکون هو دمها، وهذه العقيدة تنتهي إذا سمح لنا باستخدام هذا التعبير. إلي ثمرة تبعث کثيرا علي الاستغراب. هي أن عيسي يصور لنا ابنا لله. ولکن فکرة الله بالنسبة لبولس تدخل ضمن ميراثه من العقيدة اليهودية، فکيف إذن يتأتي تصور أن يکون لله ابن. وهذا لا يمت بصلة إلي العقيدة اليهودية، [20] ويقول
[ صفحه 198]
الکردنال دانيلو: إن المسيحيين المخلصين يعتبرون بولس خائنا، وتصفه وثائق مسيحية بالعدو. وتتهمه بالتواطئ التکتيکي. [21] .
پاورقي
[1] تکوين 15 / 18 - 20.
[2] غلا 4 / 22 - 24.
[3] أعمال الرسل 26 / 6 - 8.
[4] إفسوس 3 / 3 - 7.
[5] غلا 3 / 13 - 14.
[6] غلا 3 / 15 - 17.
[7] غلا 4 / 18 - 31.
[8] غلا 4 / 25 - 26.
[9] رؤيا 21 / 16.
[10] رؤيا 21 / 27.
[11] رؤيا 21 / 1.
[12] رؤيا 21 / 10.
[13] رؤيا 21 / 22.
[14] رؤيا 3 / 3.
[15] رؤيا 21 / 3.
[16] رؤيا 3 / 3 - 20.
[17] تسالونيکي 4 / 16.
[18] باباوات من الحي اليهودي / يواکيم برنز ص 74.
[19] حياة الحقائق / جوستاف لوبون ص 187.
[20] المسيحية ونشأتها وتطورها / شارل جنيبر ص 105.
[21] حقيقة التبشير / أحمد عبد الوهاب ص 59.