بازگشت

الهداية و أصول الاختلاف


رکب الله تعالي في الإنسان السمع والبصر والفؤاد، ومن هذا الترکيب نشأ فيه قوة الادراک والفکر وبهما يستحضر الإنسان ما هو ظاهر عنده من الحوادث. ويستقرئ ما کان لينطلق إلي ما سيکون. ولأن الإنسان ذو شعور وإرادة. فإن الله تعالي هيا له وجود يقبل الارتباط معه ويستطيع الانتفاع به، قال تعالي: (خلق لکم ما في الأرض جميعا). [1] .

وقال: (وسخر لکم ما في السماوات وما في الأرض). [2] إلي غير ذلک من الآيات الناطقة بکون الأشياء مسخرة للإنسان.

وبعد قيام الإنسان بواجب الخلافة عند الله في الأرض. واجهت الفطرة أول اختلاف لها علي الأرض. ومنشأ هذا الخلاف أن الإنسان موجود اجتماعي. وجد ليساير الأفراد من نوعه يريدون منه ما يريده



[ صفحه 11]



منهم. ولما کان في الإنسان القوي والضيف والمريض إلي غير ذلک.

ونظرا لتعارض المصالح بين هذا وذاک. ظهر الاختلاف في الأغراض والمقاصد والآمال. وجاء الاختلاف في المعاش وهو الذي يرجع إلي الدعاوي وينقسم به الناس إلي مدع ومدعي عليه. وظالم ومظلوم ومتعد ومتعدي عليه وآخذ بحقه وضائع حقه.

ولأن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف في المعاش علي أرضية الاجتماع المدني. ولأن الفطرة هي الهادية إلي الاختلاف نظرا لتعدد الأغراض وتعدد الأشياء التي سخرها الله للإنسان.

فإنها لم تتمکن من رفع الاختلاف. وکيف تدفع شئ ما تجذبه إليه نفسها. ولأن الفطرة لا تستطيع أن تقدم تشريع يکون علي عاتق الناس.

وتأمرهم بإتيان أمور هي الواجبات وما في حکمها وتنهاهم عن أمور هي المحرمات وما في حکمها. استدعي ذلک وضع قوانين إلهية ترفع الاختلافات والمشاجرات في لوازم الحياة. فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع.

فالاختلاف الأول في أمر الدنيا فطري. وکان سببا لتشريع الدين.

ليکون الدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنساني والمصلح لأمر حياته. يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها. وينظم للإنسان مسلک حياته، ووضع الله سبحانه ما شرع من الشرائع والقوانين علي أساس التوحيد. لأن التوحيد هو الحصن الحصين الذي يحفظ الإنسان من الخطأ والزلة، ومن أساس التوحيد بني الدين أسلوبه الاجتماعي وقوانينه الجارية علي أعمدة الأخلاق. ومن هذا الحصن يعرف الناس ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلي معادهم ليسلکوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملون في العاجل ما يعيشون به في الآجل، وليعلموا أن التشريع الديني والتقنين الإلهي هو



[ صفحه 12]



الذي بني علي علم فقط دون غيره، قال تعالي: (إن الحکم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلک الدين القيم ولکن أکثر الناس لا يعلمون). [3] .

وإصلاح الفطرة بالفطرة وتعديل قواها المختلفة عند طغيانها، إصلاح وتعديل داخل في الصنع والإيجاد. قال تعالي: (الذي أعطي کل شئ خلقه ثم هدي) [4] قال في الميزان: بين أن من شأنه وأمره تعالي أن يهدي کل شئ إلي ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقة الإنسان أن يهتدي إلي کمال وجوده في الدنيا والآخرة. وقال تعالي: (کلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربک، وما کان عطاء ربک محظورا) [5] وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالي هو الامداد بالعطاء يمد کل من يحتاج إلي إمداده في طريق حياته ووجوده ويعطيه ما يستحقه. وإن عطائه غير محذور ولا ممنوع من قبله تعالي. ومن المعلوم أن الإنسان غير متمکن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه. فإن فطرته هي المؤدية إلي هذه النقيصة. فکيف يقدر علي تتميمها وتسوية طريق السعادة والکمال في حياته الاجتماعية. وإذا کانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلي هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلي کماله. وهي قاصرة عن تدارک ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته فالإصلاح - لو کان - يجب أن يکون من جهة غير جهة الطبيعة. وهي الجهة الإلهية التي تأتي عن طريق النبوة بالوحي. والخلاصة: إن نوع الإنسان مستخدم بالطبع. وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلي الاجتماع المدني وإلي الاختلاف في جميع شؤون حياته. ويقضي التکوين والإيجاد رفع هذا الاختلاف وما يترتب عليه. ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الإنسان إلي کماله وسعادته يتحقق بأحد أمرين: إما



[ صفحه 13]



بفطرته وإما بأمر ورائه، لکن الفطرة غير کافية فإنها هي المؤدية إلي الاختلاف في المعاش، فوجب أن تکون الهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة. وهو التفهيم الإلهي المسمي بالنبوة والوحي. [6] .

وبعد نزول التشريع الإلهي. جاء الاختلاف الثاني. وهو الاختلاف في الدين. فعندما أصلحت الأمور ببعث النبيين وإرسال المرسلين. وظهر الانذار والتبشير والثواب والعقاب، جاء الاختلاف في معارف الدين أو أمور يوم القيامة، وترتب علي هذا الاختلاف اختلال أمر الوحدة الدينية. وظهرت الفرق والأحزاب وتبع ذلک الاختلاف غيره، ولم يکن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين جاءهم النبيين بالکتاب ظلما وعتوا منهم. بعد ما تبين لهم أصول الدين ومعارفه وتمت عليهم الحجة.

وعلي هذا فإن المسيرة البشرية عصف بها اختلافان: اختلاف فطري في المعاش وأمور الحياة. ورفع هذا الاختلاف بالدين. ثم اختلاف في نفس الدين. وهذا الاختلاف أوجده العلماء ويستند إلي البغي. وفي هذين الاختلافين يقول تعالي: (کان الناس أمة واحدة. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الکتاب بالحق ليحکم بين الناس في ما إختلفوا فيه. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) [7] قال في الميزان:

ذکر البعض أن المراد بالآية أن الناس کانوا أمة واحدة علي الهداية. لأن الاختلاف أنما ظهر بعد نزول الکتاب بغيا بينهم، وقد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا. وعن أن الناس لو کانوا علي الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف. فما هو الموجب بل ما



[ صفحه 14]



هو المجوز لبعث الأنبياء وإنزال الکتاب. وحملهم علي البغي بالاختلاف وإشاعة الفساد؟ وذکر آخرون: أن المراد بالآية: أن الناس کانوا أمة واحدة علي الضلالة. إذ لولاها لم يکن وجه لترتيب قوله تعالي: (فبعث الله النبيين.. الآية). وقد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذکر أن هذا الضلال الذي ذکره. وهو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: (فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه.. الآية). إنما نشأ عن سوء سريرة علماء الدين بعد نزول الکتاب وبيان آياته للناس، فلو کانوا علي الضلالة قبل البعث والإنزال وهي ضلالة الکفر والنفاق والفجور والمعاصي، فما المصحح لنسبة ذلک إلي علماء الدين؟. [8] .

ويقول صاحب الميزان: قوله تعالي: (وأنزل معهم الکتاب ليحکم بين الناس فيما اختلفوا فيه) هو اختلاف سابق علي الکتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، وقوله تعالي (وما اختلف فيه) أي في الکتاب (إلا الذين أوتوه) أي الذين حملوه، وهذا الاختلاف لاحق بالکتاب متأخر عن نزوله. والمختلفون بهذا الاختلاف حملته دون جميع الناس، فأحد الاختلافين غير الآخر أحدهما اختلاف عن بغي وعلم والآخر بخلافه. [9] .

فالأنبياء والرسل عليهم السلام بعد نزول الکتاب. أقاموا الحجة وشيدوا بناء الوحدة الدينية. ولأن دين الله واحد لا غير ولا تدعو النبوة إلا إليه. فإن الناس إذا کذبوا أحد الأنبياء فقد کذبوا کل الأنبياء في الحقيقة، ولما کان التشريع الديني والتقنين الإلهي يحتاج إلي بيان من الأنبياء والرسل عليهم السلام. فإن الله أيدهم بالعصمة وصانهم من الخطأ والغفلة في تلقي الوحي من الله وحفظه وتبليغه، وقد دل القرآن



[ صفحه 15]



الکريم علي عصمتهم عليهم السلام في قوله تعالي: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) [10] وکما قطع الله تعالي عذر الناس بميثاق الفطرة قطعه أيضا بإرسال الرسل. فقال تعالي: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يکون للناس علي الله حجة بعد الرسل) [11] وفي الآية إشارة إلي عصمتهم عليهم السلام. لأن من المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحاجتهم. إنما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق إرادة الله ورضاه. من قول أو فعل وخطأ أو معصية. وإلا کان للناس أن يتمسکوا به. ويحتجوا علي ربهم سبحانه.

. وبعد إقامة الحجة بواسطة الأنبياء والرسل. جاء الاختلاف في الدين من الذين أوتوه بغيا بينهم. والاختلاف في الدين يخالف الفطرة الإنسانية. ولقد أمر الله تعالي العلماء أن يبينوا الحق وينشروا علمهم بين الناس. وتوعد سبحانه الذين يکتمون ما أنزل الله. قال تعالي: (إن الذين يکتمون ما أنزلنا من البينات والهدي من بعد ما بيناه للناس في الکتاب أولئک يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا). [12] .

قال في الميزان: أفاد أن کتمانهم إنما هو بعد البيان والتبيين للناس لا لهم فقط. وذلک أن التبيين لکل شخص. إنما يکون باتصال الخبر إلي بعض الناس من غير واسطة وإلي بعض آخرين بواسطتهم بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلاغ وأدواته کاللسان والکلام، وکتمان العالم علمه هو کتمان للعلم عن الناس بعد أن بينه الله لهم، ولقد عد الله تعالي هذا سببا لاختلاف الناس



[ صفحه 16]



في الدين وتفرقهم.. وأفاد القرآن أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الکتاب، إنما هو ناشئ عن بغي العلماء الحاملين له. فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب. معلول ببغي العلماء بالإخفاء والتأويل والتحريف وظلمهم. حتي أن الله عرف الظلم بذلک يوم القيامة. فقال: (وأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله علي الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) [13] وقد تبين أن الآية التي يقول فيها تعالي: (إن الذين يکتمون ما أنزلنا من البينات والهدي من بعد ما بيناه للناس في الکتاب) [14] مبتنية علي قوله تعالي: (کان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الکتاب ليحکم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم) [15] وجزاء هذا البغي بذيل الآية السابقة وهو قوله تعالي: (أولئک يلعنهم الله). [16] .

وبالجملة: إن اختلاف الناس في الدين الذي يکون سببا للطغيان والعناد، يختلف عن اختلافهم في أمور الدنيا الذي هو فطري. وجميع الاختلافات والتفرعات التي ظهرت في الأديان. کلها صنيعة الهوي والنفس البشرية. وتعلق بها شوائب الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية.


پاورقي

[1] سورة البقرة آية 29.

[2] سورة الجاثية آية 13.

[3] سورة يوسف آية 40.

[4] سورة طه آية 55.

[5] سورة الإسراء آية 20.

[6] تفسير الميزان 131 / 2.

[7] سورة البقرة آية 213.

[8] الميزان 125 / 2.

[9] المصدر السابق 127 / 2.

[10] سورة النساء آية 64.

[11] سورة النساء آية 165.

[12] سورة البقرة آية 159.

[13] سورة الأعراف آية 44.

[14] سورة البقرة آية 159.

[15] سورة البقرة آية 213.

[16] الميزان 389 / 1.