الشک المريب
بعد أن تکاتفت مؤسسات الباطل من أجل الصد عن سبيل الله، بلغت الأحداث ذروتها برفع المسيح عليه السلام، ليکون رفعه آية للذين يؤمنون بأن القوة جميعا لله، ويکون في الرفع عقوبة للذين ختم الله علي قلوبهم وعلي أسماعهم وعلي أبصارهم جزاءا بما قدموا. لتلقي بهم العقوبة في طريق الضنک حتي ينتهي بهم المقر. تحت أعلام المسيح الدجال آخر الزمان، ورفع المسيح عليه السلام جاء ذکره في مزامير داوود وهو يخبر بالغيب عن ربه. قال لأنک قلت أنت يا رب ملجئي.
لا يلاقيک الشر ولا تدنو ضربة من خيمتک. لأنه يوصي ملائکته بک ليحفظوک في کل طرقک. علي الأيدي يحملونک لئلا تصدم بحجر رجلک. [1] وذکر تعالي في القرآن الکريم أنه حفظ المسيح عليه السلام
[ صفحه 174]
علي امتداد دعوته. وذلک في قوله تعالي: (إذ قال الله يا عيسي بن مريم اذکر نعمتي عليک وعلي والدتک إذ أيدتک بروح القدس) - إلي قوله تعالي - (وإذ کففت بني إسرائيل عنک إذ جئتهم بالبينات فقال الذين کفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين). [2] .
وقال تعالي في رفع المسيح عليه السلام (فبما نقضهم ميثاقهم وکفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بکفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا. وبکفرهم وقولهم علي مريم بهتانا عظيما. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه ولکن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شک منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه وکان الله عزيزا حکيما). [3] .
ومن هذه الآيات نعلم (أولا): أن المسيح عليه السلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم، أي أخذوا غير المسيح عليه السلام فقتلوه أو صلبوه (ثانيا) إن الذين اختلفوا في عيسي أو في قتله لفي شک منه. والشک نقيض اليقين (ثالثا) إن ما قالوه ترجع أصوله إلي الظن. أي إلي التخمين.
وقوله تعالي: (وما قتلوه يقينا) أي ما قتلوه قتل يقين. أو. ما قتلوه أخبرک خبر يقين بل رفعه الله إليه أي إلي السماء وکان الله عزيزا حکيما ومعني العزيز. أي الممتنع فلا يغلبه شئ. وقيل: هو القوي الغالب کل شئ. ومعني حکيما: أي الذي يحکم الأشياء ويتقنها. فهو تعالي حکيم في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور وله الحکمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم.
[ صفحه 175]
ولما کان الله تعالي لا يظلم مثقال ذرة. فإنه أقام الحجة علي الذين شاهدوا شبيه المسيح علي الصليب حتي لا يلتبس عليهم الأمر.
ويعتقدوا بأن الشبيه هو المسيح، فلقد أوجب تعالي علي تفسير أن يبين لعباده ما يتقون. قال تعالي: (وما کان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتي يبين لهم ما يتقون). [4] والمسيح عليه السلام وتلاميذه من بعده أقاموا الحجة علي المسيرة أثناء الدعوة وعند ذروة الأحداث وبعدها. ثم بعث النبي الخاتم (ص) وبين للناس الذي هم فيه مختلفون.
ومن بين فرق النصاري يوجد من يعتقد بأن المسيح عليه السلام لم يصلب وإنما صلب رجل آخر شبه به. يقول بتراند راسل کانت طائفة الدوسيين قد ذهبوا إلي أن المسيح لم يکن هو الذي صلب. بل بديل أشبه به. وقد ظهر رأي مماثل لذلک في الإسلام. [5] .
وعند البحث عن القاعدة التي ينتسب إليها الشبيه الذي ألقي عليه شبه المسيح عليه السلام، لا نجد إلا قاعدتين لا ثالث لهما. إما أن يکون من الفريق الذي صد عن سبيل الله، وأما أن يکون من التلاميذ الذين أقروا بنصرتهم للمسيح وسلکوا السبيل الذي يسلکه إلي الله، فإذا افترضنا أن الشبيه ينتمي إلي الفريق الکافر بالدعوة. نجد أن هذا الافتراض يؤدي إلي هدم الدعوة من رأس، وذلک لأن الشبيه في هذه الحالة سيعلن علي الذين أشرفوا علي محاکمته وعلي الجموع بعد ذلک.
أنه ليس المسيح حتي يحاکموه ثم يصلبوه، وقد يستغل شيوخ اليهود هذا الاقرار. فيدمرون دعوة المسيح ويغرسون أعمدة دعوتهم علي لسان الشبيه، ويترتب علي ذلک فتنة الذين آمنوا بالمسيح وانتصار الباطل علي الحق وهذا محال. لأن الرفع کان بقدرة العزيز الحکيم الذي له الحکمة
[ صفحه 176]
البالغة والحجة الرافعة. الحکيم في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور.
وبالجملة: لم يعلن الشبيه عن اسمه ولم يذکر في أي موطن من المواطن أنه ليس المسيح. کما جاء في الأناجيل. وعلي هذا فلا بد أن يکون الشبيه من القاعدة الثانية. قاعدة التلاميذ. الذين قالوا نحن أنصار الله وقالوا (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاکتبنا مع الشاهدين) [6] ويؤکد ذلک الأحاديث التي وردت في کتب التفسير. ومنها ما روي أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه يا معشر الحواريين. أيکم يحب أن يکون رفيقي في الجنة حتي يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه. فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا. فقال له المسيح: هو أنت ذاک. فألقي عليه شبه عيسي. ورفع عيسي من روزنة البيت إلي السماء، وفي رواية وألقي عليه شبه عيسي حتي کأنه هو. وفتحت روزنة من سقف البيت.
وأخذت عيسي عليه السلام سنة من النوم فرفع إلي السماء. [7] .
فإلقاء الشبه علي واحد من التلاميذ فيه حفظ للدعوة. لأن حرکته علي امتداد المحنة هي حرکة التلميذ الذي امتحن الله قلبه بالإيمان. فلن يتکلم ولن يتحرک إلا وفقا لتعاليم المسيح. ووفقا لتوصياته التي تخص هذه المحنة بالذات. لينجو الذين آمنوا ويسقط الذين کفروا في الفتنة.
ويمکن أن يصل الباحث إلي أن الذي صلب لم يکن المسيح عليه السلام. إذا تدبر في الأحداث ودقق النظر في أقوال الشبيه. ونحن سنلقي الضوء علي حرکة الرجل الذي صلب کما جاءت في الأناجيل.
وإذا کانت الأناجيل قد قدمتها علي أساس أنها حرکة المسيح. فإن علي الباحث أن يقرأها ويتدبرها علي أساس أنها صادرة من الشبيه. وفي
[ صفحه 177]
خاتمة المطاف سيقف الباحث علي حقيقة مفادها أن الحرکة کانت للشبيه ولم تکن للمسيح. ومن العجيب أن الأحداث علي امتداد المحنة. حملت سؤالا واحدا. توجه به مجلس الشيوخ المؤلف من رؤساء الکهنة والکتبة وتوجه به الحاکم بيلاطس إلي الرجل الذي صلب. وکان هذا السؤال يحمل صيغة واحدة هي: هل أنت المسيح؟
ومن الأعجب أن رؤساء الکهنة والکتبة. کانوا يعرفون المسيح. فلقد شاهدوه في الهيکل وهو يلقي بمواعظه. وتحدث إليهم وتحدثوا إليه في أکثر من مکان. کما ذکرت الأناجيل. [8] کما أن جنود الدولة کانوا يعرفونه أيضا. وقد ذهبوا إليه وسهم بعض اليهود يسألونه عن الجزية.
هل يعطونها للدولة أم لا. وکانوا يريدون من وراء ذلک أن يوقعوه تحت عقوبة مناهضة السلطة الرومانية، ولقد أجابهم المسيح يومئذ بقوله ما لقيصر لقيصر وما لله لله کما ذکرت الأناجيل. [9] .
وتبدأ الأحداث أن رؤساء الکهنة والفريسيون بعد أن عقدوا العزم علي القبض علي المسيح عليه السلام، بعثوا إليه بمجموعة وأوکلوا إليها هذا العمل. وذکرت الأناجيل أن يهوذا الخائن کان معهم، ويذکر إنجيل يوحنا أنهم عندما اقتربوا من المسيح تقدم نحوهم وقال:
من تريدون؟ أجابوه: يسوع الناصري. فقال لهم: أنا هو فلما قال أنا هو. تراجعوا وسقطوا علي الأرض [10] من هذا النص نعلم أن رؤساء الکهنة بعثوا بمجموعة للقبض علي المسيح لم يکن فيها أحدا يعرف
[ صفحه 178]
المسيح وهو الذي ذاع صيته في الآفاق، وشاهده الخاص والعام وهو يحاضر في الهيکل أو وهو يقدم معجزاته، ولم يکن بين المجموعة من يعرف المسيح سوي تلميذه الخائن يهوذا، ولکن النص لم يکشف السبب الذي أدي إلي تراجعهم وسقوطهم علي الأرض، وإذا تدبرنا ما حدث لهم نجد إما أن يکون المسيح عليه السلام قد رفع في هذه اللحظة فأصابتهم الدهشة وتراجعوا وسقطوا علي الأرض. وإما أن يکون شبيه المسيح هو الذي تقدم نحوهم وقال لهم: من تريدون؟ وبين قولهم: يسوع الناصري. وقوله: أنا هو. بدأت تتغير ملامحه لتشبه ملامح المسيح، فتراجعوا وسقطوا علي الأرض من هول المفاجأة. في الوقت الذي کان المسيح عليه السلام قد رفع فعلا. وبالجملة: إما أنهم شاهدوا عملية الرفع وأعقبها مباشرة وجدوا أنفسهم أمام الشبيه. وعلي هذا ظل الشک رداءا لهم علي امتداد الأحداث، وإما أن شاهدوا التلميذ أولا ثم شاهدوا تغيير ملامحه بعد ذلک، فلبسهم الشک علي امتداد الأحداث، وفي کل من الصورتين تقام الحجة عليهم وعلي من خلفهم ليهلک من هلک عن بينة ويحيي من حي عن بينة.
عقب القبض علي شبيه المسيح. کان الشک عنوانا رئيسيا في کل محاکمة وقف أمامها الشبيه. جاء في إنجيل متي وانعقد المجلس اليهودي الأعلي بحضور رؤساء الکهنة والشيوخ کلهم. وبحثوا عن شهادة زور علي المسيح ليحکموا عليه بالموت. ولکنهم لم يجدوا..
أخيرا تقدم اثنان وقالا: هذا قال: إني أقدر أن أهدم هيکل الله وأبنيه في ثلاثة أيام. فوقف رئيس الکهنة وسأله: أما تجيب بشئ علي ما يشهد به هذان عليک؟ ولکن يسوع ظل صامتا فعاد رئيس الکهنة يسأله قال:
أستحلفک بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح؟! فأجابه يسوع:
أنت قلت. وأقول لکم أيضا إنکم منذ الآن سوف ترون ابن الإنسان
[ صفحه 179]
جالسا عن يمين القدرة. ثم آتيا علي سحب السماء،. [11] وقوله جالسا عن يمين القدرة فيه إشارة إلي رفع المسيح بقدرة الله إلي السماء. وقوله ثم آتيا علي سحب السماء فيه إشارة إلي نزول عيسي عليه السلام آخر الزمان. وروي أن النبي الخاتم (ص) قال وهو يبين قتال آخر الزمان بين جند الحق وبين جند الباطل... فيقول بعض المؤمنين لبعض: ما تنتظرون أن تلحقوا بإخوانکم في مرضاة ربکم. من کان عنده فضل طعام فليعد به علي أخيه. وصلوا حتي ينفجر الفجر وعجلوا الصلاة ثم أقبلوا علي عدوکم. ثم تأخذهم ظلمة لا يبصر أحدهم کفه. فينزل ابن مريم. فيحسر عن أبصارهم وبين أظهرهم رجل عليه لأمة. [12] فيقولون من أنت؟ فيقول: أنا عبد الله وکلمته عيسي... [13] وروي أن المسيح سينزل واضعا کفيه علي أجنحة ملکين. [14] .
ومن الدليل أن الشبيه کان يتنبأ بنزول عيسي عليه السلام أنه عندما أخبرهم بمجئ المسيح علي سحب السماء. يذکر إنجيل متي. أنهم ضربوه ولطمه بعضهم قائلين تنبأ لنا أيها المسيح من ضربک. [15] .
وظل الشک رداءا للقوم علي امتداد الليل. ويقول لوقا في إنجيله ولما طلع النهار. اجتمع مجلس شيوخ الشعب المؤلف من رؤساء الکهنة والکتبة وقالوا: إن کنت أنت المسيح فقل لنا!! فقال لهم: إن قلت لکم لا تصدقون. وإن سألتکم لا تجيبوني. ألا إن ابن الإنسان من الآن سيکون جالسا عن يمين قدرة الله.. [16] .
[ صفحه 180]
وفي هذا النص سألوه: إن کنت أنت المسيح فقل لنا. فکان رده إن قلت لکم لا تصدقون والشبيه علي امتداد محاکمته لم يقل أنه المسيح. فکانوا إذا سألوه هل أنت المسيح؟ قال لمن سأله أنت قلت لکنه هنا يقول لهم: إن قلت لکم لا تصدقون.
ثم انتقلوا به من الحي اليهودي إلي مقر الحاکم بيلاطس.
يقول إنجيل متي ووقف يسوع أمام الحاکم فسأله الحاکم: أأنت ملک اليهود؟ أجابه: أنت قلت. وکان رؤساء الکهنة والشيوخ يوجهون ضده الاتهامات وهو صامت لا يرد. فقال له بيلاطس: أما تسمع ما يشهدون به عليک. لکن يسوع لم يجب الحاکم ولو بکلمة حتي تعجب الحاکم کثيرا. [17] .
وعندما علم بيلاطس أن المسيح تابع وفقا لتقسيم الدولة لسلطة هيرودس. أحاله اليه. وکان هيرودس في أورشاليم وقتئذ. وذکر إنجيل لوقا بأنه کان في اشتياق لرؤية المسيح ليشاهد معجزاته. وقال من هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذه الأمور. وکان يرغب في أن يراه [18] وعندما وقف الشبيه في حضرة هيرودس طلب منه أن يري آية ما تجري علي يديه. ولکن الشبيه لا يستطيع أن يقدم معجزة لأنه تلميذا للمسيح عليه السلام. والمسيح وحده هو الذي يحيي الموتي بإذن الله ويشفي المرضي بإذن الله. يذکر إنجيل لوقا ولما رأي هيرودس يسوع فرح جدا لأنه کان يتمني من زمان طويل أن يراه بسبب سماعه الکثير عنه. ويرجو أن يري آية ما تجري علي يديه. فسأله في قضايا کثيرة. أما هو فلم يجبه عن شئ. ووقف رؤساء الکهنة والکتبة يتهمونه بعنف. فاحتقره
[ صفحه 181]
هيرودس وجنوده وسخر منه. [19] .
وفي هذا النص کفاية علي أن الذي تحدث معه هيرودس لم يکن المسيح عليه السلام، وإنما کان شبيهه، فهيرودس کان يتمني أن يري المسيح. ويرجو أن يري آية، والله تعالي أيد المسيح عليه السلام بأکثر من آية، وکان عليه السلام تجري معجزاته في المدن ويوبخ الذين شاهدوها ولم يتوبوا. يقول متي في إنجيله ثم بدأ يسوع يوبخ المدن التي جرت فيها أکثر معجزاته لکون أهلها لم يتوبوا [20] وهيرودس سأل آية. ومن تعاليم المسيح قوله کما جاء في إنجيل مرقس ليس الأصحاء هم المحتاجين إلي طبيب بل المرضي. ما جئت لأدعو أبرارا بل خاطئين [21] وکان يقول کما جاء في إنجيل متي ما رأيکم في إنسان قد جاء لکي يخلص الهالکين. ما رأيکم في إنسان کان عنده مئة خروف فضل واحد منها. أفلا يترک التسعة والتسعين في الجبال. ويذهب يبحث عن الضال. الحق أقول لکم: إنه إذا وجده فإنه يفرح به أکثر من فرحه بالتسعة والتسعين التي لم تضل [22] فوفقا لهذه النصوص لا يوجد مانع يحول بين هيرودس وبين ما يرجو أن يراه علي أيدي المسيح عليه السلام. والدعوة الإلهية في عصر النبوة تفتح للآيات طرقا عديدة ليؤمن الناس بما وراء المعجزة. ولکن ما حدث في وجود هيرودس وجليسه يدعو إلي العجب. فهيرودس الذي قال عن المسيح يوما من هو هذا الذي أسمع عنه هذه الأمور. وکان يرغب في أن يراه. [23] .
وعندما رآه فرح جدا لأنه کان يرجو أن يري آية ما تجري علي
[ صفحه 182]
يديه، وقد علم أن المسيح لن يحول بينه وبين طلبه، لأنه جاء ليدعو الخطائين ويبحث عن الضالين ويقدم المعجزات ويوبخ الذين لم يؤمنوا مهما کان شأنهم، لأنه صادق ولا يبالي بأحد لأنه لا يراعي مقامات الناس. لأنه يعلم طريق الله بالحق، ولکن النصوص أوردت نتيجة اجتماع هيرودس بالمسيح بما لا تستقيم مع المقدمة، فهيرودس سأله في قضايا کثيرة. أما هو فلم يجبه عن شئ، ووقف رؤساء الکهنة والکتبة يتهمونه بعنف. واحتقره هيرودس وجنوده وسخر منه، وهذا الموقف الذي دثره الصمت. لا يمکن أن يفهم إلا علي أرضية شبيه المسيح، لأن الشبيه لا يملک أن يقدم آية. فالآيات لله يؤيد بها رسله وهم يقيمون الحجة علي الناس، والمسيح عليه السلام أقام حجته ورفعه الله إلي السماء، وبعد المسيح عليه السلام اختبر الله تعالي القافلة الإسرائيلية الاختبار الذي يليق بخاتمة المسيرة، بعد أن ابتلعت العديد من الفتن علي امتداد الطريق.
لقد جلس شبيه المسيح في دائرة الصمت الذي لا يضر، دائرة الصمت فيها والکلام محسوبان بدقة بالغة، حتي لا تنهار الدعوة من رأس. ولکن تفوق حجة الذين آمنوا علي حجة الکافرين إلي يوم القيامة، وکان عزاء الشبيه وهو يتلقي من الناس الأذي والسخرية، أنه ينصر دين الله، ومن حوله صدي صوت المسيح عليه السلام عندما قال وهو يخاطب التلاميذ طوبي لکم متي أهانکم الناس واضطهدوکم وقالوا فيکم من أجلي کل سوء کاذبين. افرحوا وتهللوا فإن مکافأتکم في السماوات عظيمة. فإنهم هکذا اضطهدوا الأنبياء من قبلکم. [24] والشبيه کان تحت جميع الضربات التي تم توجيهها إليه. متعلقا بالثواب الذي سيناله في الآخرة، فقد قال أمام الحاکم بيلاطس ليست مملکتي من
[ صفحه 183]
هذا العالم. [25] وهو بهذا يشير إلي قول المسيح عليه السلام لتلاميذه متي جلس ابن الإنسان علي کرسي مجده تجلسون أنتم أيضا علي اثني عشر کرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر. [26] .
فالشبيه في دائرة الصمت هو في حقيقة الأمر في دائرة المنتصر.
وهو في هذه الدائرة يؤدي فريضة الصوم في أسمي معانيها. وقد سئل المسيح عليه السلام يوما لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين وأما تلاميذک فلا يصومون؟ فأجابهم: هل يقدر أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم. ما دام العريس بينهم لا يقدرون أن يصوموا. ولکن ستأتي أيام يکون العريس فيها قد رفع من بينهم. فيومذاک يصومون. [27] .
إن للصوم معاني وللصوم مراتب بعد رفع المسيح. والشبيه في دائرة الصمت کان يؤدي فريضة. تحفظ للدعوة مکانها في عالم تقذر بقذارة الکفر والطغيان، وفي مصادر الإسلام کان الشبيه يعلم أنه سيقتل لا محالة حين يشبه للقوم في صورة عيسي عليه السلام. [28] وفي مصادر النصاري کان التلاميذ يعلمون أن في اتباع المسيح مشقة لا يتحملها إلا مؤمن، ومن هذه المشاق عقوبة الصلب لکل من يلعنه المجتمع، ورغم قسوة هذه العقوبة. إلا أن المسيح عليه السلام قال إن أراد أحد أن يسير ورائي فلينکر نفسه. ويحمل صليبه کل يوم ويتبعني. [29] وحمل الشبيه صليبه. وفي نهاية المطاف نکس رأسه وأسلم الروح.
وأصابت الفتنة المهلکة الذين يسارعون في الأرض الفساد. ففي
[ صفحه 184]
البداية لم يتدبروا الأحداث وسخروا من المصلوب وسخر منه أيضا رؤساء الکهنة والکتبة والشيوخ قائلين: خلص غيره أما نفسه فلا يقدر أن يخلص. أهو ملک إسرائيل. فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به، [30] وعلق بيلاطس لافتة علي الصليب مکتوب عليها: يسوع الناصري ملک اليهود، فقرأ اللافتة کثيرون من اليهود.. فقال رؤساء کهنة اليهود لبيلاطس: لا تکتب ملک اليهود. بل إن هذا الإنسان قال أنا ملک اليهود.. [31] وفي النهاية انطلق اليهود نحو طريق طويل. يعملون فيه من أجل ملک اليهود الذي يأتي آخر الزمان وتطرح له الأرض فطيرا وملابس من الصوف وقمحا حبه بقدر کلاوي الثيران الکبيرة. کما ذکر التلمود، وعندما بعث النبي الخاتم صلي الله عليه وآله وسلم، تلي علي أسماع الجميع حقيقة الأحداث. ومنه قوله تعالي: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه ولکن شبه لهم. وإن الذين اختلفوا فيه لفي شک منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه وکان الله عزيزا حکيما. وإن من أهل الکتاب إلا ليؤمن به قبل موته. ويوم القيامة يکون عليهم شهيدا). [32] قال المفسرون في قوله تعالي: (وإن من أهل الکتاب إلا ليؤمن به قبل موته) قيل: أي قبل موت عيسي عليه السلام إذا نزل لقتل المسيح الدجال. وقيل: کل کتابي لا يموت إلا وعند احتضاره يتجلي له ما کان جاهلا به فيؤمن به. لکن لا يکون ذلک إيمانا نافعا له. لقوله تعالي في أول السورة: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتي إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن). [33] .
[ صفحه 185]
فقبل ساعة الموت لا بد من الأخذ بأسباب البحث عن الحقيقة، ولا بد أن تکون فاتحة هذا البحث مستندة علي مساند الفطرة. لأنه کما تکون البداية تکون النهاية. والله تعالي ينظر إلي عباده کيف يعملون.
پاورقي
[1] مزامير 91 / 9 - 10.
[2] سورة المائدة آية 110.
[3] سورة النساء آية 155 - 158.
[4] سورة التوبة آية 115.
[5] حکمة الغرب / بتراندراسل ص 242.
[6] سورة آل عمران آية 52.
[7] أنظر: تفسير ابن جرير وتفسير البغوي وتفسير ابن کثير في قوله تعالي: (وما قتلوه وما صلبوه).
[8] أنظر: دخول المسيح إلي أورشاليم (متي 21 / 1 - 17)، وتوبيخه للفريسيين وعلماء الشريعة (لوقا 11 / 37 - 54) ومحاولة اليهود رجم المسيح (يوحنا 10 / 21 - 39)، طرد الباعة من الهيکل (متي 21 / 12 - 17، مرقس 11 / 15 - 18، لوقا 19 / 45).
[9] أنظر (متي 22 / 15 - 12، مرقس 12 / 13 - 17، لوقا 20 / 20 - 26).
[10] يوحنا 18 / 4 - 7.
[11] متي 26 / 60 - 64.
[12] لأمة / أي درع. ويقال سلاح.
[13] رواه الطبراني وابن عساکر (تواتر أحاديث نزول المسيح ص 253).
[14] رواه الطبراني وابن عساکر (التواتر ص 164) (تفسير ابن کثير 583 / 1).
[15] متي 26 / 68.
[16] لوقا 22 / 66 - 70.
[17] متي 27 / 11 - 14.
[18] لوقا 9 / 9.
[19] لوقا 23 / 8 - 12.
[20] متي 11 / 20.
[21] مرقس 2 / 17.
[22] متي 18 / 11 - 14.
[23] لوقا 9 / 9.
[24] متي 5 / 11 - 13.
[25] يوحنا 18 / 36.
[26] متي 19 / 27 - 30.
[27] مرقص 2 / 19.
[28] أنظر تفسير ابن کثير لدي قوله تعالي: (وما قتلوه...).
[29] لوقا 9 / 23.
[30] متي 27 / 43.
[31] يوحنا 19 / 19.
[32] سورة النساء آية 157.
[33] سورة النساء آية 18.