الوصايا الاخيرة
سارت دعوة المسيح عليه السلام بين الصخور وبين القلوب القاسية لتقيم حجتها، وعلي امتداد الطريق تعددت الأعداء، وتحالف
[ صفحه 166]
اليهود مع خصومهم من الهيرودسيين أنصار الملک هيرودس. لکي يمسکوا المسيح بکلمة تدينه أمام السلطة الرومانية، يقول إنجيل مرقص أرسلوا إليه بعضا من الفريسيين ومحازبي هيرودس لکي يوقعوه بکلمة يقولها. فجاؤوا وقالوا له: يا معلم نحن نعلم أنک صادق ولا تبالي بأحد لأنک لا تراعي مقامات الناس. بل تعلم طريق الله بالحق. أيحل أن تدفع الجزية للقيصر أم لا؟ أندفعها أم لا ندفع؟ ولکنه إذ علم ريائهم قال لهم: لماذا تجربونني؟ احضروا إلي دينارا لأراه، فأحضروا إليه دينارا، فسألهم: لمن هذه الصورة وهذا النقش؟ فقالوا له: للقيصر. فرد عليهم قائلا: اعطوا ما للقيصر للقيصر وما لله لله. فذهلوا منه. [1] .
فلقد تظاهر جنود الملک بالتدين ودخلوا مع الفريسيين أشد فرق اليهود تعصبا في دائرة واحدة، وانطلقوا إلي المسيح عليه السلام يحملون إليه سؤالا يقوم عليه اقتصاد الدولة الرومانية، وکانوا بهذا السؤال يريدون أن يوقعوا بالمسيح عليه السلام في شباکهم ليسلموه إلي الحاکم. بحجة أنه يناهض النظام ويضرب اقتصاده في مقتل، ولکن المسيح تفادي الصدام مع أصحاب القلوب القاسية بالإجابة التي أذهلتهم.
وعلي هذا المنوال بدأت التحالفات بين اليهود وبين خصومهم لاصطياد المسيح عليه السلام، وعندما ضاقت الحلقات، بدأ المسيح عليه السلام يخبر بالغيب عن ربه جلا وعلا. فحدث اليهود بما سيفعلوه للفتک به وکيف سينجيه الله من أيديهم، وحدث التلاميذ بأنه سيبقي معهم وقتا قليلا وإنهم لن يقدروا أن يذهبوا معه إلي حيث يذهب، وقال لهم إن عنده أمور کثيرة يريد أن يتحدث معهم فيها.
ولکن الوقت لن يسعفه لإتمام ذلک. وسوف يرسل الله إليهم. المحمد.
[ صفحه 167]
أو المحمود. روح الحق الذي يرشد إلي الحق کله. لأنه لا يقول شيئا من عنده. بل يخبر بما يسمعه. وتفصيل أقوال المسيح لليهود وللتلاميذ بين دفتي الأناجيل.
فعندما اشتد صد اليهود عن سبيل الله. وبدأوا يعدون العدة للفتک بالمسيح. قال لهم المسيح أنا باق معکم وقتا قليلا. ثم أعود إلي الذي أرسلني. عندئذ تسعون في طلبي ولا تجدونني. ولا تقدرون أن تذهبوا إلي حيث أکون. [2] ومن الطبيعي أن اليهود لا يستطيعون الصعود إلي السماء. وبعد أن أخبر المسيح عليه السلام اليهود بأمور مستقبلية. قال لتلاميذه يا أولادي الصغار. سأبقي عندکم وقتا قصيرا بعد. ثم تطلبونني. ولکني أقول لکم ما سبق أن قلته لليهود. إنکم لا تقدرون أن تأتوا حيث أنا ذاهب. وصية جديدة أنا أعطيکم. أحبوا بعضکم بعضا کما أحببتکم أنا. تحبون بعضکم بعضا. بهذا يعرف الجميع إنکم تلاميذي إن کنتم تحبون بعضکم بعضا. فسأله سمعان بطرس: يا سيد أين تذهب؟ أجابه يسوع: لا تقدر أن تتبعني الآن حيث أذهب ولکنک ستتبعني فيما بعد [3] أي أنه لن يقدر أن يتبعه فيما ستسفر عنه الأحداث. حيث ينتهي الأمر بکف الله أيدي اليهود عن المسيح.
ورفعه إليه، وهذا معني قوله لا تقدر أن تتبعني الآن ثم أخبره بأنه سيتبعه فيما بعد في الحياة الأبدية يوم القيامة. ولا يخلو النص من الإشادة بالاثني عشر. ومعني أن المسيح يحبهم ويأمرهم بحب بعضهم بعضا. أن طريق الخيانة مغلق علي هذا الدرب.
ويذکر القرآن الکريم. أن الله تعالي أخبر المسيح عليه السلام بعملية الرفع التي تحدث بها مع اليهود ومع التلاميذ فيما بعد، قال
[ صفحه 168]
تعالي: (إذ قال الله يا عيسي إني متوفيک ورافعک إلي ومطهرک من الذين کفروا وجاعل الذين اتبعوک فوق الذين کفروا إلي يوم القيامة). [4] قال المفسرون: المراد بالتوفي هنا النوم. کما قال تعالي (وهو الذي يتوفاکم بالليل). [5] وروي أن النبي (ص) کان يقول إذا قام من النوم الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا. [6] والمراد بالرفع إلي الله: أي رفعه إلي السماء. إذ لا مکان لله من سنخ الأمکنة الجسمانية، والآية من قبيل قوله تعالي في ذيل الآية (ثم إلي مرجعکم)، فالمراد برفعه إليه: رفعه بروحه وجسده حيا إلي السماء لأنها محل نزول البرکات وسکن الملائکة المکرمين، ومعني قوله (ومطهرک من الذين کفروا) أي: إبعاده من الکفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الکفر والجحود، ومعني قوله (وجاعل الذين اتبعوک فوق الذين کفروا إلي يوم القيامة) فالمراد باتباعه: هو الاتباع علي الحق. الاتباع المرضي لله سبحانه، وعلي ذلک يکون الذين اتبعوه هم الحواريين والمستقيمين من النصاري قبل ظهور الإسلام، کما أن المسلمين بعد ظهور الإسلام أتباعه علي الحق. قال في الميزان: ومحصل الآية. أن متبعيک من النصاري والمسلمين ستفوق حجتهم علي حجة الکافرين بک من اليهود إلي يوم ا لقيامة. [7] .
فبعد هذا البيان الوافي الشافي. بدأ المسيح عليه السلام يحدث الجميع بما ستنتهي إليه الأحداث. وأخبرهم بأنهم لن يقدروا أن يتبعوه حيث يذهب. وقال لتلاميذه أنهم سيتبعوه فيما بعد. سيتبعوه بالحجة الدامغة التي تفوق حجة الذين کفروا إلي يوم القيامة، ثم يتبعوه في
[ صفحه 169]
الحياة الأبدية بعد أن يفصل الله بين عباده فيما کانوا فيه يختلفون.
ولأن معجزة الرفع إلي السماء سيکفر بها البعض وسيتأولها البعض الآخر ويضعها في غير موضعها. ولأنه علي طريق هذه المعجزة فتن عديدة صنعها اليهود وتنتهي جميعا إلي الدجال. فإن من عدل الله ورحمته أنه أقام الحجة داخل الحي اليهودي. فجاءهم المسيح بالعلم الذي يبين بداية ونهاية المعجزة، ليهلک من هلک عن بينة ويحيي من حيي عن بينة، والله تعالي أوجب علي نفسه فتح الطريق لعباده وهدايتهم إليه. وهو قوله تعالي: (وما کان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتي يبين لهم ما يتقون إن الله بکل شئ عليم). [8] ولما کان الحواريون في الصدارة من بعد المسيح. فلقد أخبرهم المسيح بأنهم سيشاهدون معجزة الرفع ليحدثوا الذين آمنوا بالحقيقة عندما يري الناس الشبيه علي الصليب، وجاء في إنجيل يوحنا أن المسيح قال للتلاميذ وهو يعدهم للقيام بالدعوة الحق الحق أقول لکم: إنکم سترون السماء مفتوحة.
وملائکة الله يصعدون وينزلون علي ابن الإنسان [9] فهذا النص يفيد أنهم کانوا في بعض الأوقات يشاهدون نزول الملائکة بالوحي علي امتداد البعثة، ثم شاهدوا معجزة الرفع التي تنسجم مع طريق نزول الوحي علي المسيح، ليردوا الوحي والرفع إلي قدرة الله تعالي وهم يبينون للناس حقيقة الأحداث التي تجري حولهم، فلا يسقط في فتنتها إلا الذين صنعوا الفتن من القاسية قلوبهم ومن شابههم.
وذکر الإنجيل أن المسيح بشر قبل رفعه (بالمعزي) الذي سيرسله الله ليشهد الشهادة الحق. التي يشهدها التلاميذ للمسيح. لتفوق حجتهم علي حجة الکافرين به إلي يوم القيامة، ذکر يوحنا أن المسيح
[ صفحه 170]
قال: وعندما يأتي المعزي.... روح الحق [10] فهو يؤدي إلي الشهادة وتؤدونها لي أنتم أيضا. لأنکم معي من البداية، قلت لکم هذا لکي لا تتزعزعوا، ستطردون خارج المجامع. بل سيأتي وقت يظن فيه من يقتلکم أنه يؤدي خدمة لله. [11] قلت لکم هذا حتي متي جاء وقت حدوثه تذکرون أنه سبق أن أخبرتکم به. ولم أقل لکم هذا منذ البداية لأني کنت معکم. أما الآن فإني عائد إلي الذي أرسلني ولا أحد منکم يسألني: أين تذهب؟ عندما أخبرتکم بهذا ملأ الحزن قلوبکم. ولکني أقول لکم الحق: من الأفضل لکم أن أذهب. لأني إن کنت لا أذهب.
لا يأتيکم المعزي... وعندما يجئ يقدم للعالم البرهان علي الخطيئة وعلي البر وعلي الدينونة [12] ما زال عندي أمور کثيرة أقولها لکم.
ولکنکم الآن تعجزون عن احتمالها. ولکن عندما يأتيکم روح الحق.
يرشدکم إلي الحق کله. لأنه لا يقول شيئا من عنده. بل يخبرکم بما يسمعه. ويطلعکم علي ما سوف يحدث. [13] .
و (المعزي) الذي بشر به المسيح قبل رفعه إلي السماء، ترجمة للکلمة الإغريقية البارقليط ومعناها في قاموس اللغة اليونانية:
المعزي. المحامي. الشفيع. المحمد. المحمود وورد اسم بار قليط. فارقليط. باراکليت. والمعزي. والمحامي. والمؤيد، في تراجم إنجيل يوحنا. ويقول الدکتور / حجازي السقا: والحق أن المسيح نطق لفظ بيرقليط وهو يترجم: أحمد. ويقول النصاري أن المسيح نطق باراقليط وعلي ذلک فليس هو أحمد. أي أن الخلاف في الکسرة والفتحة. فعلي الکسرة يکون اسم أحمد. وعلي الفتحة لا يکون اسم
[ صفحه 171]
أحمد. بل صفته هي المعزي. وهم يعتمدون رواية الفتحة. ثم قدم الدکتور حجازي السقا الدليل علي أن بيريکليت اسم والاسم هو أحمد.
فمن أراد الوقوف علي هذا البحث فعليه بمصدره. [14] .
لقد بشرهم عيسي عليه السلام بالمعزي. أو بالمحامي الذي يدافع عن الفطرة ويشهد الشهادة الحق في أحداث يعجزون عن احتمالها. وعندما بعث النبي الخاتم صلي الله عليه وآله وسلم قال أنا أولي الناس بعيسي بن مريم في الأولي والآخرة [15] وقال أنا أولي الناس بابن مريم. الأنبياء أولاد علات. وليس بيني وبينه نبي [16] وفي لسان العرب في معني أولاد علات أي إنهم لأمهات مختلفة ودينهم واحد.
وبنو العلات: بنو رجل واحد من أمهات شتي. [17] .
وبشرهم المسيح بالمعزي أو بأحمد أو بالمحمود أو بالشفيع روح الحق. الذي يرشدهم إلي الحق کله. لأنه لا يقول شيئا من عنده. فما من شفيع إلا بعد إذن الله تعالي. قال تعالي: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلکم الله ربکم فاعبدوه). [18] وقال: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه). [19] وقال: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له). [20] و قال:
(لا يملکون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا. وقالوا اتخذ الله ولدا. لقد جئتم شيئا إدا. تکاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. إن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ
[ صفحه 172]
ولدا. إن کل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا. لقد أحصاهم وعدهم عدا. وکلهم آتيه يوم القيامة فردا. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا. فإنما يسرنا ه بلسانک لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا. وکم أهلکنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم رکزا). [21] .
وبعد أن بشرهم المسيح عليه السلام. رفع عينيه نحو السماء وقال أنا مجدتک علي الأرض وأنجزت العمل الذي کلفتني [22] أظهرت اسمک للناس الذين وهبتهم لي من العالم. کانوا لک فوهبتهم لي، وقد عملوا بکلمتک وعرفوا الآن أن کل ما وهبته لي فهو منک. لأني نقلت إليهم الوصايا التي أوصيتني بها فقبلوها.. وآمنوا إنک أرسلتني من أجل هؤلاء أصلي إليک. [23] .
وبتحذير المسيح من الذين يدعون النبوة. وبتبشيره بروح الحق الذي يرسله الله إلي العالم قبل يوم القيامة. تنتهي دعوة المسيح عليه السلام في بني إسرائيل. وإذا کان العهد القديم قد انتهي بتبشير ملاخي هانذا أرسل إليکم إيليا النبي قيل يوم الرب اليوم العظيم المخوف.
فيرد قلب الآباء علي الأبناء وقلب الأبناء علي آبائهم لئلا آتي وأخرب الأرض بلعن [24] فإن العهد الجديد انتهت آخر بشاراته بالمعزي فأخبرهم المسيح عليه السلام بأن المعزي سيطلعهم علي ما سوف يحدث.
وعندما بعث النبي الخاتم صلي الله عليه وآله وسلم قال له تعالي: (إن الذين يکتمون ما أنزلنا من البينات والهدي من بعد ما بيناه للناس في
[ صفحه 173]
الکتاب أولئک يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) [25] وقال: (ألم تر إلي الذين أوتوا نصيبا من الکتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين کفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلا. أولئک الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا). [26] إلي آخر هذه الآيات التي ضرب الله فيها الکافرين والظالمين بلعن. بعد أن کفروا وکذبوا واستکبروا ولم يؤمنوا بالبعثة الخاتمة. التي جعلها الله تعالي رحمة للعالمين، وروي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة. يهودي أو نصراني. ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به.
إلا کان من أصحاب النار. [27] .
پاورقي
[1] مرقص 12 / 13 - 17.
[2] إنجيل يوحنا 7 / 34.
[3] إنجيل يوحنا 13 / 34 - 36.
[4] سورة آل عمران آية 55.
[5] سورة الأنعام آية 60.
[6] تفسير ابن کثير 366 / 1.
[7] الميزان 208 / 3.
[8] سورة التوبة آية 115.
[9] إنجيل يوحنا 1 / 51.
[10] المصدر السابق 15 / 26.
[11] المصدر السابق 16 / 1 - 3.
[12] المصدر السابق 16 / 4 - 9.
[13] المصدر السابق 16 / 12.
[14] أنظر کتاب نقد التوراة / د. حجازي السقا ص 207 وما بعدها.
[15] رواه مسلم (الصحيح 96 / 7).
[16] رواه مسلم (الصحيح 96 / 7).
[17] لسان العرب مادة علل ص 3080.
[18] سورة يونس آية 3.
[19] سورة البقرة آية 255.
[20] سورة سبأ آية 23.
[21] سورة مريم آية 87.
[22] يوحنا 17 / 5.
[23] استثني النص يهوذا. ولقد بينا أن الخائن لا وجود له في نصوص أخري.
[24] ملاخي 4 / 5 - 6.
[25] سورة البقرة آية 159.
[26] سورة النساء آية 51.
[27] رواه مسلم (الصحيح 93 / 1).