الأعمدة المتصدعة و آل هارون
وقبل بعثة المسيح عليه السلام کانت المسيرة قد ارتوت من مياه الأمم الذين تعاقبوا علي حکم فلسطين، وکان لهذا الارتواء أثرا بالغا في بناء الشخصية الإسرائيلية بعد عهد السبي، والدول التي تعاقبت علي
[ صفحه 122]
حکم فلسطين بعد السبي هي: فارس (538 - 333 ق. م)، اليونان (333 - 343 ق. م) مصر (323 - 204 ق. م)، سور يا (204 - 167 ق. م)، المکابين (167 - 63 ق. م) وفيها کان اليهود مستقلين من الناحية العملية، روما (63 ق. م) وامتد حکم الرومان حتي (633 م). [1] وعلي امتداد هذه الفترة کان لليهود تجهيزاتهم التي أقاموها للحفاظ علي تعاليمهم التي تقود إلي أهدافهم، وکان الحي اليهودي يذخر بالفرق المتعددة ومن أهم هذه الفرق: (الفريسيين) وهؤلاء أهم فرق اليهود وأکثرهم خطرا، ويتمسکون بالتفسير الشفهي (التلمود) وتقليد الشيوخ السابقين. [2] ولقد حذر المسيح عليه السلام من هذه الفرقة. [3] ومنهم جاء القديس بولس الذي قاد المسيرة المسيحية فيما بعد. وسنبين ذلک في موضعه، (الصدوقيين) وهؤلاء يتمسکون بالناموس المکتوب، [4] (والأسنيين) وهؤلاء يمارسون حياة رهبانية وهم يمثلون اليهودية السرية، [5] (الهيروديين) وهم حزب سياسي يريد إرجاع السلطة إلي عائلة هيرودس، [6] (الغيورين) وهؤلاء حزب قومي مستقل يؤيد استعمال العنف والقسوة، [7] وکان يوجد داخل الحي اليهودي العديد من المؤسسات أهمها: (المجمع اليهودي) وهو مبني يجتمع فيه اليهود لقراءة الأسفار، وهو کان للتعليم، [8] (السنهدرين) وهم السلطة
[ صفحه 123]
القضائية والدستورية العليا عند اليهود، [9] (العشارين) وهم يهود يجمعون الضرائب للرومان، [10] (الکتبة) وهم طبقة من الشعب مهمتهم شرح الناموس، ولقد أکثروا من التقاليد الشفاهية. وحددوا قواعد تشمل النواحي العملية للحياة اليومية، وهم يسمون بالمحامين والمعلمين والربيين، [11] (الناموس الشفاهي) وهو مجموعة التعليقات والتفاسير التي تدور حول ناموس موسي [12] ويشرف عليه کبار الحاخامات.
فتحت حکم الأمم تشکلت الشخصية الإسرائيلية بعد السبي، وهذا التشکيل حمل معالم الشخصية الإسرائيلية قبل وأثناء السبي، وقبل بعثة المسيح عليه السلام کانت الفرق الإسرائيلية المتعددة تتصارع علي رقعة الاختلاف والجميع يتجه نحو هدف واحد، وهذا الهدف نسجته الفتن المتعددة. وفي النهاية ارتدي ثياب أمير السلام. الذي يعيد مجد مملکة داوود الوعد الإلهي لإبراهيم. وهذه الثياب يشرف علي صيانتها العديد من المؤسسات التي تتمرکز حول التفسير الشفهي للناموس (التلمود). وفي هذه الأجواء المشحونة بالرفض لکل منهج لا يخلص اليهود من حکم الأجانب، لطف الله تعالي بعباده وبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة ويسوقهم إلي صراط الله العزيز الحميد، لينظر سبحانه إلي عباده کيف يعملون تحت سقف الامتحان والابتلاء.
وعند خاتمة المسيرة الإسرائيلية، بعث الله تعالي النبي يحيي والنبي عيسي، وکل منهما يحمل معالم جفاف المسيرة، ليتدبر فيها أصحاب العقول والأفهام، وليعلموا أن القيادة ستنزع من أيديهم وتکون
[ صفحه 124]
لشعب آخر من أبناء إبراهيم، ومعالم الجفاف أن النبي يحيي ولد لأب اشتعل رأسه شيبا ولأم عاقر، أما المسيح عليه السلام فولد لعذراء لم يمسسها بشر، لقد جاء يحيي من طريق أبوين الذرية لهما أمر غير معهود. ليکون مصدقا بعيسي عليه السلام الذي جاء من جهة کلمة الايجاد (کن)، وذلک لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم علي مجري الأسباب العادية المألوفة، ولکن ولادة المسيح عليه السلام لم تجر هذا المجري. لأنه فقد بعض الأسباب العادية. لهذا کان وجوده بمجرد کلمة التکوين (کن) ولم يتخلل هذا الوجود الأسباب العادية.
لهذا کان الباب الذي دخل منه آخر أنبياء بني إسرائيل، باب يدعو المسيرة إلي التدبر والإيمان. وليحذروا المخالفة لأنها ستنتج علي آخر الطريق فتنة، ومعني أن يغلقوا علي أنفسهم باب الفتنة. أن قيادة المسيرة البشرية لن تکون من داخل الأبواب المغلقة، إنما ستنتقل إلي مکان أوسع وأرحب، والله تعالي يورث الأرض لمن يشاء من عباده.
في نهاية المسيرة جاءت دعوة زکريا عليه السلام، وکان متزوجا من اليصابات من بنات هارون [13] ويقول إنجيل لوقا فيهما إنهما بارين أمام الله سالکين في جميع وصايا الرب وأحکامه. [14] وقال لم يکن لهما ولد. إذ کانت اليصابات عاقرا وکلاهما قد تقدم في السن کثيرا. [15] وذکر لوقا: بينما کان زکريا يؤدي خدمته الکهنوتية أمام الله سأله الولد. فظهر له ملاک وقال له: لا تخف يا زکريا لأن طلبتک قد سمعت. وزوجتک ستلد لک ابنا تسميه يوحنا. وسوف يکون عظيما أمام الرب، والقرآن الکريم ذکر هذه المعجزة في قوله تعالي: (قال رب إني
[ صفحه 125]
وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أکن بدعائک رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وکانت امرأتي عاقرا. فهب لي من لدنک وليا يرثني وبرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زکريا إنا نبشرک بغلام اسمه يحيي لم نجعل له من قبل سميا). [16] .
وجاء يحيي وريث زکريا وآل يعقوب، ليکون حجة علي مسيرة خرج معظمها عن سبيل آل يعقوب، وبدأ يحيي دعوته، جاء في إنجيل متي في تلک الأيام جاء يوحنا المعمدان (يحيي) يکرز في برية اليهودية قائلا: توبوا لأنه قد اقترب ملکوت السماوات. فإن هذا هو الذي قيل عنه بأشعيا النبي القائل: صوت صارخ في البرية. أعدوا طريق الرب.
اصنعوا سبله مستقيمة، [17] ويقول متي هنري في تفسيره: کانت مهمة يوحنا دعوة الناس للتوبة عن خطاياهم، فقوله توبوا هي في الأصل اليوناني تأملوا أو فکروا مليا أي: ليکن لکم فکرا آخر لتصلحوا أخطاء الماضي، تأملوا طرقکم. جددوا أذهانکم، لقد أخطأتم التفکير فأعيدوا التفکير وأحسنوا التفکير. [18] .
ولکن القوم لم يتأملوا ولم يفکروا وعکفوا علي أطروحة أرض الميعاد التي کتبها الله لإبراهيم دون قيد وشرط. ورفعت فرقة (الفريسيين) أعلام الصد عن سبيل الله. يقول إنجيل متي ولما رأي يوحنا کثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون اليه ليتعمدوا قال لهم: يا أولاد الأفاعي. من أراکم أن تهربوا من الغضب الآتي. فأثمروا ثمرا يليق بالتوبة ولا تغللوا أنفسکم قائلين: لنا إبراهيم أبا. فإني أقول لکم:
إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم، وها إن الفأس قد
[ صفحه 126]
ألقيت علي أصل الشجرة. فکل شجرة لا تثمر ثمرا جيدا تقطع وتطرح في النار، [19] ويقول متي هنري في تفسيره: نري يوحنا يوجه حديثه إلي هؤلاء القوم بمنتهي الصراحة والأمانة، وما قاله يوجهه في نفس الوقت إلي کل الجموع.. فاللقب الذي ناداهم به هو يا أولاد الأفاعي. ولقد أعطاهم المسيح نفس هذا اللقب، لقد کانوا کالأفاعي إذ کانت لهم صورة التقوي والمظهر الخلاب. إلا أنهم مملوئين سما مشحونين خبثا وعداوة لکل ما هو حسن، وکانوا أولاد الأفاعي نسل وذرية الأفاعي، فکان السم يسري في دمهم وعظامهم. وکانوا يفتخرون بأنهم ولدوا من إبراهيم، ولکن يوحنا بين لهم أنهم من نسل الحية وإن إبليس هو أبوهم. [20] وقال لهم يوحنا (يحيي): إن کنتم أولاد إبراهيم. فلا تفتکروا إنکم لا تحتاجون إلي التوبة وإنه لا شئ هنالک تتوبون عنه وإن علاقتکم بإبراهيم لص اهتمامکم بالعهد الذي قطع معه يجعلانکم مقدسين.
ولا يوجد هنالک داع لتجديد أذهانکم وإصلاح طرقکم، ولا تفتکروا بأنکم ستنجحون حتي وإن کنتم لا تتوبون... أو وأن الله سيتغاضي عن عدم توبتکم لأنکم أولاد إبراهيم [21] ويقول متي هنري يقولون لنا إبراهيم أبا. ولذلک لنا الحق في امتيازات العهد الذي قطعه الله معهم..
يا لغباوتهم في هذا الادعاء الذي لا أساس له، لقد توهموا بأنهم وقد صاروا أولاد إبراهيم. فإنهم هم شعب الله الوحيد في هذا العالم، ولقد بين لهم يوحنا جهلهم الفاضح في هذا الادعاء الباطل والغرور الکاذب.
فقال مهما افتکرتم أن تقولوا في أنفسکم. أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاد إبراهيم، إن امتحانکم دقيق جدا وقريب جدا، الآن قد وضعت الفأس وقد رفعت أمام أنظارکم ووضعت علي أصل الشجرة،
[ صفحه 127]
الآن ستوضعون في کفة الميزان لحظة واحدة، الآن قد تحددت نهايتکم للهلاک الذي لا يمکن أن تفلتوا منه إلا بالتوبة العاجلة الصادقة، الآن قد منحکم الله آخر فرصة للاختبار، إما أن تنتهزوا الفرصة الآن. أو تضيع من أيديکم إلي الأبد، وبين کيف أن القصاص منهم سيکون صارما إن لم ينتهزوا الفرصة، الحقيقة يوضحها يوحنا بوضع الفأس علي أصل الشجرة، ليبين لهم أن الله قضي أن کل شجرة مهما ارتفعت بمواهبها وأمجادها. ومهما بدت خضراء بمظهرها الخارجي، أن لم تصنع أثمارا صالحة تليق بالتوبة فإنها تقطع، لا يعترف بها کشجرة في کرم الله، تصبح غير جديرة بأن تحتل مکانا هناک وتلقي في النار، وهي أليق مکانا للأشجار الجافة لأنها لا تصلح لشئ آخر، إن لم تصلح للأثمار تصلح للنار. [22] .
ويقول متي هنري: لقد کانوا عصابة الأفاعي کلهم متساوون في الشر، ورغم أنهم کانوا أعداء بعضهم لبعض. إلا إنهم کانوا متحالفين في الشر، إن نسل الشرير هو نسل الأفاعي، ولقد کان الانذار الذي وجهه لهم يوحنا من أراکم أن تهربوا من الغضب الآتي يتضمن أنهم کانوا في خطر الوقوع تحت طائلة الغضب الآتي. وأنه لا أمل لهم في النجاة منه، لأن قلوبهم قد قست، الفريسيين بسبب تمسکهم بمظهر الديانة. والصدوقيون بسبب کثرة مناقشتهم عن الديانة، حتي کان يصبح کل مجهود لمحاولة التأثير عليهم مقضيا عليه بالفشل، لقد کان هناک غضبا آتيا. ومن واجب کل واحد أن يهرب من هذا الغضب. ومن رحمة الله أنه يحذر للهروب من هذا الغضب.
لقد کان يحيي (يوحنا) يتحدث بالحق الذي تحدث به آل يعقوب، وکان عليه السلام يقف علي أرضية آل عمران (آل هارون)،
[ صفحه 128]
قال متي هنري: وکان يوحنا کاهنا علي طقوس هارون [23] وبينما کان يدعو الشعب للتوبة والإيمان بالله وسلوک سبيل آل هارون، کان يعلن أمامهم أنه يمهد الطريق للمسيح عيسي ابن مريم. ويقول لست المسيح. بل أنا رسول يمهد له الطريق. [24] وکان الشعب قد علم من قديم. علي لسان الأنبياء والرسل ببشارة تقول ها العذراء تحبل وتلد ابنا. [25] .
وعندما ولدت العذراء وشب ولدها عليه السلام، يقول إنجيل متي جاء يسوع من الجليل إلي الأردن إلي يوحنا ليتعمد منه [26] ولأن حبل النبوة حبل واحد. وحلقات الأنبياء يکمل بعضها بعضا، قال يوحنا للمسيح: هکذا يليق بنا أن نکمل کل بر. [27] وکان المسيح عليه السلام آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية التي جعلها الله حجة علي المسيرة الإسرائيلية، وانتهت حياة نبي الله زکريا ونبي الله يحيي نهاية دموية، روي أن القوم عندما عقدوا العزم علي قتل زکريا. هرب منهم فانفرجت له شجرة فدخل جوفها ثم التأمت عليه، وعندما علم القوم نشروا الشجرة فقطعوها وقطعوه نصفين، أما يحيي عليه السلام. فسجنوه. ثم قتلوه. ثم قطعوا رأسه. وحملت إلي ملک بني إسرائيل ليقدمها هدية لامرأة کان قد افتتن بها [28] .
[ صفحه 129]
پاورقي
[1] مفاتيح الأسفار ص 55، 56.
[2] مفاتيح الأسفار ص 56.
[3] متي 24 / 10.
[4] مفاتيح الأسفار الإلهية ص 56.
[5] المصدر السابق 56.
[6] المصدر السابق 57.
[7] المصدر السابق 57.
[8] المصدر السابق ص 58.
[9] المصدر السابق ص 58.
[10] المصدر السابق 58.
[11] المصدر السابق 58.
[12] المصدر السابق 58.
[13] لوقا 1 / 5.
[14] المصدر السابق 1 / 6.
[15] المصدر السابق 1 / 8 - 16.
[16] سورة مريم آية 4 - 7.
[17] إنجيل متي 3 / 1 - 4.
[18] متي هنري 58 / 1.
[19] إنجيل متي 7 / 3 - 11.
[20] متي هنري في تفسيره 66 / 1.
[21] المصدر السابق ص 69 / 1.
[22] تفسير متي هنري 68، 69، 70 / 1.
[23] متي هنري 57 / 1.
[24] إنجيل يوحنا 3 / 28.
[25] أشعيا 7 / 14.
[26] متي 3 / 13.
[27] متي 3 / 16.
[28] متي هنري 466 / 1.