القاعدة و الذروة
تذکر التوراة الحاضرة. أن الله أمر موسي عليه السلام ببناء خيمة الاجتماع لتکون مرکزا للعبادة، وذکر سفر الخروج کيف تم تحديد المکان وکيف تم البناء. [1] فقال وکلم الرب موسي قائلا: في الشهر الأول في اليوم الأول من الشهر تقيم مسکن خيمة الاجتماع [2] وأخذ موسي الخيمة ونصبها. [3] .
ولأن العلم بالله هو أشرف العلوم وهو ذروة کل العلوم. فإن الله تعالي زکي من عباده طائفة ليحملوا هذا العلم الرفيع ويبينوا مراده وأسراره للناس. بعد أن أخذ الشيطان علي عاتقه القعود علي الصراط المستقيم يزخرف العلوم ويصد عن العبادة الحق. وفي عهد خيمة
[ صفحه 48]
الاجتماع کان آل عمران وعلي رأسهم هارون وبنيه هم وحدهم الذين لهم الحق في تفسير الشريعة التي جاء بها موسي عليه السلام. وتروي التوراة أن الله تعالي طهرهم وأعطاهم فقه هذا العلم الرفيع. وفي اختيار الله تعالي لهم تذکر التوراة أن الله قال لموسي تقدم هارون وبنيه إلي باب خيمة الاجتماع، وتغسلهم بماء وتلبس هارون الثياب المقدسة وتمسحه وتقدسه ليکهن لي، وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة وتمسحهم کما مسحت أباهم ليکهنوا لي، ويکون ذلک لتصير لهم مسحتهم کهنوتا أبديا في أجيالهم. [4] وتذکر التوراة أن موسي فعل ما أمر به الله فقدم موسي هارون وبنيه وغسلهم بماء، وجعل عليه القميص.. وألبسه الجبة وجعل عليه الرداء... ووضع العمامة علي رأسه... ومسحه لتقديسه. ثم قدم موسي بني هارون وألبسهم أقمصة... کما أمر الرب موسي. [5] .
وفي مرتبة هارون وبنيه الفقهية. تذکر التوراة أن الله کلم هارون وأمره بحفظ الشعائر التي علمها له. لتعليم بني إسرائيل الفرائض التي فرضها الله. وکلم الرب هارون قائلا: خمرا ومسکرا لا تشرب أنت وبنوک معک.. للتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر. ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي کلم الرب بها بيد موسي [6] وکان الله تعالي يبين الشريعة لموسي وهارون تارة.
ويوصي موسي بأن يبين لهارون وبنيه أمور من الشريعة تارة أخري وکلم الرب موسي وهارون قائلا لهما: کلما بني إسرائيل قائلين هذه هي الحيوانات التي تأکلونها من جميع البهائم التي علي الأرض [7] وکلم الرب موسي قائلا: کلم هارون وبنيه قائلا: هذه شريعة ذبيحة
[ صفحه 49]
الخطية.. [8] وبعد أن تم التطهير والتعليم وعلمت الجموع منزلة هارون وبنيه من موسي. تقول التوراة (ثم رفع هارون يده نحو الشعب وبارکهم.. ودخل موسي وهارون إلي خيمة الاجتماع. ثم خرجا وبارکا الشعب. [9] .
وتذکر التوراة أسماء بني هارون الذين اختارهم الله ليعلموا الشعب [10] وذکرت أن هؤلاء وحدهم لهم حق تفسير الشريعة. وتوکل هارون وبنيه فيحرسون کهنوتهم والأجنبي الذي يقترب يقتل [11] وأخبرت التوراة بأن سبط لاوي - ولاوي هو جد موسي وهارون - مهمته خدمة خيمة الاجتماع وحفظ أمتعته، وأن الله وهب هؤلاء لهارون وبنيه. [12] .
ومما يذکر أن موسي وهارون هما ابنا عمران، وفي ذرية هارون أودع الله فقه الشريعة التي جاء بها موسي، وهذه الذرية من الذين اصطفاهم الله علي العالمين، ومنها مريم ابنة عمران وابنها المسيح عليهما السلام.
واختتم الله بهما الشجرة الإسرائيلية، بعد أن حملت الخاتمة بعض أسماء المقدمة لتتذکر المسيرة البداية من عند النهاية، وسنبين ذلک في موضعه. فسبط لاوي جد موسي وهارون. يقول فيهم الله کما ذکرت التوراة يخدمون خدمة المسکن. فيحرسون کل أمتعة خيمة الاجتماع.. وتعطي اللاويين لهارون وبنيه إنهم موهوبون له هبة من عند بني إسرائيل [13] أما هارون بن عمران وبنوه. فيقول فيهم وتوکل هارون وبنيه فيحرسون کهنوتهم والأجنبي الذي يقترب
[ صفحه 50]
يقتل [14] وهکذا تم تحديد القاعدة وذروتها.
وبالجملة: کان الکاهن الأعلي يقوم بمهمته بعد اختيار الله له، وهذه قاعدة أصيلة في الدعوة الإلهية للناس، والله يزکي من يشاء ويختار من يشاء، والعهد الجديد يقر بذلک فيقول ولم يکن أحد يتخذ لنفسه هذه الوظيفة الشريفة متي أراد بل کان يتخذها من دعاه الله إليها کما دعا هارون [15] والرسالة الخاتمة أقرت بهذه الحقيقة، وذلک في قول النبي (ص) لعلي بن أبي طالب أنت مني بمنزلة هارون من موسي. إلا أنک لست نبيا إنه لا ينبني أن أذهب إلا وأنت خليفتي في کل مؤمن بعدي [16] وسيأتي الحديث عن هذه المنزلة في موضعه.
ولقد ألقي القرآن الکريم بأضوائه علي منزلة هارون، وذلک لما سأل موسي عليه السلام ربه تعالي (اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشرکه في أمري کي نسبحک کثيرا ونذکرک کثيرا) [17] قال في لسان العرب: الوزير الذي يحمل ثقل الملک ويعينه برأيه، والوزير في اللغة: اشتقاقه من الوزر. والوزر الجبل الذي يعتصم به لينجي من الهلاک. [18] وقال في الميزان في تفسير الآية: وإنما سأل موسي ذلک. لأن الأمر کثير الجوانب متباعد الأطراف، ويحتاج فيه موسي إلي وزير يشارکه في ذلک. فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه.
ويکون مؤيدا لموسي فيما يقوم به موسي، وهذا معني أقوله (اشدد به أزري وأشرکه في أمري) أي في أمر کان يخص موسي وهو تبليغ ما
[ صفحه 51]
بلغه من ربه. فهذا هو الأمر الذي يخصه ولا يشارکه فيه أحد سوي هارون. [19] .
پاورقي
[1] الخروج إصحاح 25، 26 وما بعده.
[2] المصدر السابق 40 / 1.
[3] المصدر السابق 33 / 7.
[4] المصدر السابق 40 / 11 - 15.
[5] اللاويين 8 / 1 - 12.
[6] المصدر السابق، 8 / 10 - 11.
[7] المصدر السابق 11 / 1.
[8] المصدر السابق 6 / 24.
[9] المصدر السابق 9 / 22.
[10] سفر العدد 3 / 22.
[11] المصدر السابق 3 / 10.
[12] المصدر السابق 3 / 5.
[13] المصدر السابق 3 / 5.
[14] المصدر السابق 3 / 10.
[15] العبرانيين 5 / 1 - 4.
[16] رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 204 / 21) والحاکم وأقره الذهبي (المستدرک 33 1 / 3) وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (کتاب السنة 565 / 2).
[17] سورة طه آية 29 - 32.
[18] لسان العرب ص 4824.
[19] الميزان تفسير سورة طه.