مقدمة المؤلف
الحمد لله مداول الأيام بين أجيال نسيم الأنام، و مباوب [1] حدث السلطان في آنف أحايين الأزمان، من عقيب خالف بعد عقيب سالف؛
الذي وسم دار الغرور بالطعن و الغير و الفناء، و وسم دار الحبور بالعدن و الجدة و البقاء، تنبيها لذوي الحجي عن الزهد في حطام الاولي، و شحذا لاولي النهي علي اقتناء موفور زاد التقوي الي الآخرة، فما يصبو الي عاجل رونق زخرف النافدة أديب، و لا يسمو الي آجل أنيق بهجة نعمة الباقية الا لبيب، علي أن هذه واصية [2] الادلال لمؤثريها، و تلک دائمة البخل لطالبيها.
اذا خفضت هذه أبناءها المتسلين بواهي حبل غرورها من حال أعلي الي
[ صفحه 18]
حال أدني، رفعت تلک أبناءها المتعلقين بوثيق حبال امها من ذروة قصوي الي رتبة عليا، فشتان ما بين الأولاد و الامهات، و بعدا للرتبتين کما بين الأرض و السماوات، و لن يعذر معانق ام تذيقه المکروه من حوادثها تارة في المبدأ، و تارات مضاعفة في العقبي.
قد اغريت بتشتيت الأهل و الأقرباء، و طبعت علي التفريق بين الحياة و الأحباء، بضروب من طوارق البلاء و الغير و المحن، و فنون من حوادث الأسقام و الملاحم و الفتن، ففي کل سنة مرضة أو مرضتان، و في کل عام فتنة أو فتنتان.ثم لا أعاين مجدا في المثاب، و لا مرعوبا من الکهول و الشباب، کأن قلوبهم صخور قاسيات، و کأن أفئدتهم منخرقة بلا آذان واعيات.
هذا و أنه دهر کل امرئ يومه المحدث، و عمره من الدنيا وقته المورث، و مسکنه منها وسع مضجع جثته، و قوته من مآکلها مسد جوعته، و هو في سربه و عقر منزله و حشد أهله، کالوحيد المفرد الغريب، لأن کل منفوس موفد بالرحيل من الدنيا فهو علي ذلک في صفة الحذر المطلوب، ألا فاعتبروا يا اولي الأبصار، و اذکروا يا اولي النفاسة و الأخطار.
أما بعد: حماک الله من درک الرين، و أورثک برحمته خير المحلين، فانه حرکني لتأليف ملاحم الفتن، في اختلاف الکلمة، و افتراق الامة، و وثوب الأتباع علي الرؤساء، و ظهور الزعارة [3] علي أهل التقوي و الامناء؛
کتاب صدر الي بالأمس ظل يذکر فيه أن مخافتک من انزعاجک عن وطنک، و اشتغالک بالفکرة في ارتياد وطن دائم المنعة من الوصول الي مهجتک و مالک و ولدک، و جميع أسبابک، قد کان يحول بينک و بين الرضا و التسليم لمقدور الله العظيم.
[ صفحه 19]
و اني حاديک علي المواظبة فيما ذکرت کتابا يعزي الي دانيال عليه السلام، في تنافس [أهل] [4] الدنيا، و تنغيص العيش بحلول الملاحم و الفتن، و انتقال سکان المدائن المنارية الي البوادي و الأطراف سيما في وقتنا هذا من الزمن، و انک تسأل أن أرسم لک الصحيح من الآثار التي جاءت في الملاحم دون ما لم يصح منها، و هل اثر کتاب دانيال أم لا؟
وليکن ما أرسمه من ذلک علي نهاية البيان، فانک اليه تائق، و عليه من الاسفار معول، و أنت - أدام الله ارشادک - ممن لا يذهب عليه أن صحاح الأخبار في ذلک يسيرة، لأنها مقصورة علي ذکر الدجال، و دابة الأرض، و خروج يأجوج و مأجوج، و طلوع الشمس من مغربها، و أن الذي يقرب منها فبهذا النعت في القلة، و ما کان کذلک فلا فائدة لک في ذکره.
و انما يراد الآن جمع ما کان من أخبار الملاحم الآتية، و تلک فانما أتت بها طائفة خصوا بجمعها، فعنوا بأخذها من المعادن الخارجة عن معادن أهل الحديث کالأعمش، و سفيان الثوري، و شعبة بن الحجاج، في آخرين لأن هؤلاء قصدوا الأخبار الأحکامية، و نزرا مما سواها، فشغلوا بها، و صار ما کتبوه من الملاحم کالفضل، و من هذه العين کانوا ينکرون أسانيد أکثرها.
و لسنا علي ما تقدمنا بذکره تجديدا من ذکر الأسانيد الصوالح الواردة بکون الحوادث الغابرة سيما المنقول منها بلسان جماعة من الصحابة و التابعين.
و المنقول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، و ابن عباس، و حذيفة بن اليمان، و ابن مسعود، و ابن عمر، و أبي هريرة، و عبدالله بن عمر، و أنس بن مالک، و فضالة بن عبيد، في آخرين من الصحابة.
ثم الذي ورد علينا من جهة وهب بن منبه، و عبيد بن عمير، و کعب الأحبار،
[ صفحه 20]
و أبي العالية الرياحي، و أبي الحباب، [5] و أرطاة بن المنذر، و محمد بن کعب، و کثير بن مرة، و الضحاک بن مزاحم، و ابن سيرين، و مکحول، و خالد بن معدان، و الحسن البصري في آخرين من التابعين.
و نحن الآن آخذون في کتب ذلک علي ما وصفنا آنفا من التساهل في الأسانيد الصوالح دون الهوالک، و جاعلوه أبوابا، يدل بعض ما فيها من أخبار في المتون علي بعض، و نذکر أيضا فيه کون کتاب دانيال، فان له في القلوب مکانا، سيما أن فيه فصولا کثيرة تواطئ ما جاءت به أخبارا سنيدة و غير سنيدة، و نکتب ما تيسر کتبه من الأخبار الآتية بعد ذلک من الحوادث.
و لنجعل أمام ذلک کله ما أتي به القرآن مما قد سلف من ذکر الحوادث، ثم نذکر ما سيأتي مستقبلا، و بالله جلت عظمته حسن المعونة، و ادامة التأييد.
[ صفحه 21]
پاورقي
[1] بوب الشي ء: صنفه و قسمه، و کأنه أراد بذلک أنه تعالي مداول الأيام بين الناس و مصنف الملوک واحدا بعد آخر.
أو من باب الحد والغاية أي جعل له حدا في حکمه و ملکه (القاموس المحيط) .
[2] وصي الشي ء يصي اذا اتصل (لسان العرب: 321:15) .
[3] أهل الزعارة: العيارون الذين يترددون بلا عمل، و يخلون النفس و هواها.
[4] أضفناها للزومها السياق.
[5] في الأصل«الحبار». هو سعيد بن يسار المدين، ترجم له في سير أعلام النبلاء: 93:5.