مقدمة المحقق
الحمد لله المنجي من مضلات ملاحم الفتن، و المخلص أولياءه من شدائد البليات و المحن، و الصلاة و السلام علي النبي محمد و آله عدد النعم و المنن، وزنة عرشه و ما بطن، سيما مهديهم محيي السنن.
و اللعن الدائم علي أعدائهم و مبغضيهم شر البرية و الزمن.
و بعد:
فان الحديث عن المهدي صاحب العصر و الزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء- أعني الحجة بن الحسن العسکري عليهماالسلام - هو حديث شيق، استهوي حملة العلوم و الأقلام علي اختلاف مذاهبهم و مشاربهم للکتابة فيه، فأفردوا له بحوثا طوالا، و کتبا کثيرة، و مؤلفات ضخمة تناولوا فيها مختلف جوانب الموضوع ضمن محاولات عديدة لمعرفة هذه الشخصية الفذة، و دراسة أبعادها و قدراتها، فأشبعوه شرحا و تحليلا و استنباطا و استنتاجا بما لا يدع مجالا لأحد سوي التکرار و الاعادة، الا أننا ارتأينا أن نسلط الضوء علي جانب مهم و حيوي في هذه الکلمة الموجزة، فنقول:
ان المنقذ السماوي، أو المصلح، أو المهدي هو القاسم المشترک بين الأديان المختلفة و المذاهب القديمة، اذ طمحت البشرية بأنظارها الي رسالة سماوية تأخذ بيدها، و ذلک بدافع فطري بلوره عجزها عن احقاق الحق و ازهاق الباطل، و من ثم
[ صفحه 2]
ادراکها الکامل لحاجتها الي تلک الرسالة التي سيطبق بنودها، الموعود المنقذ الذي منحته السماء قوة خارقة لتحقيق ما تصبو اليه من عدل و رخاء و مساواة.
و تلک الأديان و المذاهب علي اختلافها تتشابه فيما بينها في أکثر صفات ذلک الموعود من حيث أنه من سلالة النبيين، و يتمتع بکل صفات الجمال و الکمال، و أنه منزه عن کل قبح و سوء.
«فسوشيانست»عند الزرادشتية هو من أحفاد زرادشت، و سيحقق بحکومته العصر الذهبي للتاريخ؛ و عند اليهود هو من أولاد النبي داود عليه السلام، و أما«الفارقليط»عند المسيح فهو بمعني المعلم و الشفيع الذي يجلب الراحة و السعادة، بل هو عند بعضهم عيسي بن مريم عليهماالسلام نفسه.
کما أنها تتشابه في سمات المجتمع قبل الظهور من حيث بلوغه القمة في الابتذال و التفسخ، و تفاقم الأوضاع سوءا و رداءة علي مختلف الأصعدة.
و تتشابه أيضا في ذکرها لعلامات تسبق ظهور ذلک الموعود منها التغيرات الطبيعية في أنظمة الکون، و اختلال حرکة الشمس و القمر و النجوم، و ما يترتب عليها من زلازل و سيول و قحط تطول أبعاد المجتمع، و تهد أرکانه المختلفة.
و أيضا تتشابه في صفة العالم بعد الظهور حيث تجمع علي اقامة حکومة العدل الالهية في مجتمع تعمه الرفاهية، و سيادة العدل في کل مظاهر الطبيعة تطبيقا لتلک الرسالة السماوية کما جاءت بها الکتب المقدسة من«أوستا»أو«انجيل»أو«توراة»لتطبيق السعادة الأبدية نظير ما تغني به افلاطون في مدينته الفاضلة.
نخلص - أخي القارئ- من هذه العجالة المختصرة الي أن فکرة المهدي أو المصلح أو الموعود قد سبقت ديننا الاسلامي الحنيف، الا أنها کمحتوي و مضمون جاءت أکثر وضوحا و شمولا ضمن اطار العقيدة الاسلامية، فبعد أن کانت مجرد امنية تداعب مخيلة الانسان لبناء مجتمع تحکمه القيم و المعايير الانسانية أصبحت جزءا من عقيدة سامية، بل تحولت من تصورات الي حقيقة صاغها الاسلام ضمن فکره الالهي، و أضفي عليها سمة الواقعية بعد أن أقر لها من سيترجم بنودها الي
[ صفحه 3]
واقع معاش ذاکرا لجلال شخصه، و عظم شخصيته، و صفاتها و سماتها.
و کيف أنه سيغيب في صباه غيبتين: الاولي قصيرة، و الثانية طويلة، و ما سيتخلل ذلک من أحداث و امور تکون بمثابة اختبار و تمحيص لعموم الناس ليحيي من حي عن بينة، و يهلک من هلک عن بينة، و ما سيترتب عليهم من جرائها من واجبات و أعمال، حاثا علي ضرورة انتظاره و الدعاء بالتعجيل لظهوره، مبينا لعظم ثواب المنتظر، و ذلک ما أوضحه خاتم الأنبياء و سيد المرسلين صلي الله عليه و آله و سلم و من بعده آله المعصومون عليهم السلام.
فالاسلام بطرحه لهذه الفکرة، و علي هذه الشاکلة ميز بين الحالة المهدوية التي طرحتها المذاهب المختلفة سابقا، و بين حالة شخص المهدي نفسه، و بين أنهما و جهان لحقيقة واحدة هي العقيدة المهدوية، اذ خلق حالة من الترقب و الانتظار لابد و أن يعيشها المنتظر، و عين له واجبات و امورا عليه أن يتحلي بها من طقوس عبادية، و ممارسات أخلاقية، و هذا ما تفتقر اليه طروحات المذاهب و الأديان السابقة من حيث قوة تأثيرها علي المسائل الروحية قبل الامور المادية، بجعلها شخص الامام المهدي حقيقة معاشة يتعامل معها الفرد في کل لحظة من حياته، و النظر الي الفکرة المهدوية من خلال هذه الشخصية العظيمة التي أرادها الله و حفظها و جعلها ذخرا ينتصر به لدينه الحنيف حتي غدت انموذجا فريدا، رشحت منه الفکرة المهدوية فقدست لأجله، فهذا قائد أکبر ثورة اسلامية عرفها التاريخ المعاصر أعني آية الله العظمي الامام الخميني قدس سره يخاطبه داعيا بقوله:
«أرواحنا لتراب مقدمه الفداء»
و نستوقفک أخي القارئ لامعان النظر في هذا الفرق للتأمل في عمق و مغزي الفلسفة الاسلامية، و نظرتها الانسانية الخالصة لمصلحة الفرد و منفعة المجتمع، فهي لا تکتفي بالتمني لاقامة مجتمع خال من العقد و الأمراض و الآفات علي يد مصلح في يوم ما، و انما تهيب بالفرد المسلم لأن يهذب أخلاقه، و يصقل روحه، و يقوم نفسه، و هو يعيش حالة الانتظار بما يتناسب و علو مقام، و ارتفاع شأن، و عظمة
[ صفحه 4]
شأو من ينتظره، و الذي و صفته العقيدة المقدسة بأنه خاتم الأئمة الاثني عشر المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.
فالاسلام جعل للانسان يوما سعيدا مرتقبا يلقي فيه مصلحا مهديا تجلت فيه صفات الجلال و الجمال و الکمال، سيجتث بحد حسامه اصول الظلم و جذور الفساد، فالانسان و الحالة هذه لابد و أن يکون علي استعداد روحي و بدني کاف يؤهله لملاقاة هذا المنتظر؛
و يوما سعيدا آخر يعيش فيه في بحبوحة عيش، و قد انتفت أسباب البؤس و الفقر و المرض عن المجتمع، و خفقت راية الاسلام و السلام علي أرجاء المعمورة علي يد هذا المهدي المنتظر المشار اليه في القرآن الکريم بقوله تعالي:
(ليظهره علي الدين کله و لو کره المشرکون) [1] المعرف من قبل جده خاتم الأنبياء و سيد المرسلين صلي الله عليه و آله و سلم، بأنه لا يصلح الدين الا هو، [2] فکان بحق أمل الأنبياء و المرسلين و سائر الأولياء و الصالحين.
فعجل الله فرجه الشريف، و جعلنا من أعوانه و أنصاره، و الممهدين لظهوره، و مقوية سلطانه، و المستشهدين بين يديه.
انه سميع الدعاء، و الحمد لله رب العالمين.
پاورقي
[1] الصف: 9.
[2] روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم:
«ان الله فتح هذا الدين لعلي، و اذا قتل فسد الدين، و لا يصلحه الا المهدي»ينابيع المودة: 445، مودة القربي: 98، عنها احقاق الحق: 260:13.