فلسفة التمحيص و الاختبار
تکشف الأحاديث الأربعة المتقدمة و غيرها من الأحاديث الأخري الواردة في موضوعها عن التخطيط الالهي المقتضي لامتحان المسلمين و اختبارهم في غيبة امام الزمان عليه السلام، لأن الغيبة لا سيما اذا کانت طويلة و زائدة علي عمر الانسان الطبيعي بعشرات المرات، ستورث الشک في النفوس الضعيفة في بقاء صاحب الغيبة حيا طوال تلک الفترة، و قد يؤول هذا الشک الي الطعن باستمرار وجوده الشريف!
و المراد بالتمحيص: التنقية بأخذ الشي ء الجيد و ابعاد الشي ء الردي ء.
و بالتمييز: التفرقة بين شيئين بموجب خصائص معينة، و المراد هنا معرفة الناس علي حقيقتها بالاختبار.
و بالغربلة: نخل الشي ء بالغربال.
و في حديث الامام الباقر عليه السلام: «و الله لتميزن، و الله لتمحصن، و الله
[ صفحه 165]
لتغربلن کما يغربل الزوان من القمح». [1] .
و الزوان: حبوب صغيرة تختلط بالحنطة و تکون علي شکلها و لکنها ليست منها، فانظر الي دقة التمثيل و روعته، فکما تخرج الزوان عن القمح بالغربال فکذلک يخرج ضعفاء الايمان بقانون التمحيص، و غربالهم ليس الا الظروف الصعبة التي يمر بها الانسان في حياته، و ما تحيط بتلک الحياة من مصالح ضيقة و شهوات و مغريات.
و قول الامام الصادق عليه السلام: «و سيخرج من الغربال خلق کثير» ليس اعتباطا اذن، و انما هو يحکي عن حقيقة ثابتة نطق بها القرآن الکريم بذم الکثرة و مدح القلة في کثير من الآيات البينات: (و کثير منهم فاسقون) [2] (و ما آمن معه الا قليل). [3] .
و کل هذا يشير الي أن أکثر البشر يتبعون الباطل، و ينحرفون مع الشهوات، و يندفعون تجاه مصالحهم، حتي ليکونوا عونا للظالمين، و يدا لهم، و في مقابل هذا تبقي في نتيجة الامتحان و التمييز و التمحيص الطويل ثلة لا يضرها من ناوأها حتي يقاتل آخرها الدجال؛ لأنهم يمثلون الحق صرفا الذي لا باطل معه أصلا.
و نظرة واحدة الي القرآن الکريم تکشف أن قانون التمحيص الالهي لم
[ صفحه 166]
يختص بفئة أو امة من الناس، بل هو قانون عام للبشرية في جميع مراحل تاريخها، و يدلنا علي ذلک:
قوله تعالي: (ما کان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب). [4] .
و قوله تعالي: (ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه علي بعض فيرکمه جميعا فيجعله في جهنم أولئک هم الخاسرون). [5] .
و قوله تعالي: (و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الکافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منکم و يعلم الصابرين). [6] .
و من غير شک أن قانون التمحيص لابد و أن يکون أشد و آکد اذا ما اقترن أمره باعداد النخبة الصالحة التي ينبغي أن تعيش الاستعداد الکامل لنصره الحق و أهله من خلال انتظارها لدولة الحق المرتقبة علي يد المنقذ العظيم الامام المهدي عليه السلام.
لقد أراد الله عزوجل أن يکون التمحيص في الغيبة الکبري لامام العصر و الزمان عظيما؛ ليتضح من خلاله ما اذا کانت تصرفات الانسان و أقواله منسجمة مع الدين أو لا. و لا شک أن من يعبر الاختبار الصعب
[ صفحه 167]
سوف لن يهمل وظيفته الاجتماعية الکبري: الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر، باعتبارهما من أبرز وظائف عصر الانتظار المتقوم بالايمان، و التضحية، و الصمود.
و لا يخفي بأن الغرض من أحاديث التمحيص و الاختبار کلها انما هو يصب في خدمة أجيال الغيبة؛ لکي ينتبهوا من غفلتهم و يلحظوا ما ينبغي ملاحظته من أمور:
کعدم الاغترار بلمع السراب من کلام المشعوذين الکاذبين.
و معرفة مکائد السفهاء و أعداء الحق، من الذين في قلوبهم مرض و المفتونين.
و التعوذ من زخارف ابليس و أشياعه في کل زمان و مکان.
و التمسک بالثقلين: کتاب الله و العترة الطاهرة عليهم السلام.
و عدم استطالة المدي في غيبة المولي عليه السلام؛ لأن الظهور الشريف آت لا محالة و مثله مثل الساعة: (لا يجليها لوقتها الا هو ثقلت في السموات و الأرض لا تأتيکم الا بغتة). [7] .
و التدرع بالصبر علي انتظار الحبيب صاحب الطلعة الرشيدة و الغرة الحميدة.
و ارتقابه ببصيرة لا حيرة فيها، و يقينا لا شک معه.
[ صفحه 168]
و الاعتقاد الجازم بأن الله تعالي سيصلح له أمره في ليلة واحدة و حينئذ سيقبل کالشهاب الثاقب.
[ صفحه 171]
پاورقي
[1] کتاب الغيبة النعماني 8:205 من الباب السابق.
[2] سورة الحديد 16:57.
[3] سورة هود 40:11.
[4] سورة آل عمران 179:3.
[5] سورة الأنفال 37:8.
[6] سورة آل عمران 3: 141- 142.
[7] سورة الأعراف 187:7.