بازگشت

مقدمة المؤلف


الحمد لله رب العالمين، و صلي الله علي نبينا محمد و آله الطيبين الطاهرين، صلاة زاکية نامية متصلة متواترة لا غاية لأمدها و لا نهاية لآخرها، و سلم تسليما کثيرا. و بعد...

فان الحديث عن الامام المهدي الحجة ابن الحسن عليهماالسلام خصب الميادين، متعدد الجوانب، واسع الاطراف، و لا حصر للمؤلفات التي کتبت - شرقا و غربا- حوله، حتي يخال للباحث و هو يري کثرة المؤلفات و البحوث المعدة حول هذا الموضوع أنه قد أغلق تماما، و أن طرقه من جديد لن يأتي بشي ء جديد.

و مع کل هذا قد نبغ في الآونة الأخيرة من يتهم متکلمي الامامية في أواخر القرن الثالث و بداية الرابع الهجريين، بأنهم - و لأجل أن يستمر المذهب الاثني عشري بعد وفاة الامام العسکري بلا عقب - حاولوا ببراعتهم الکلامية اقناع عامة المذهب بولادة الحجة ابن الحسن الغائب الذي لم يولد بعد!!.

و قد کنت آمل في کتاب (المهدي المنتظر في الفکر الاسلامي) - الذي صدر سنة 1417: ه، و طبع ثلاث مرات، و ترجم الي خمس لغات - أن ينبه علي مدارک ذلک الاتهام و يخفف من غلواء مروجيه عبر الأقمار الصناعية کلما اتيحت لهم الفرصة، و لکنهم بقوا کما بدأوا! و من هنا وجدت نفسي أمام اختيار صعب، فعدت اليهم مرة أخري لأرسم الصورة الواضحة لعمق العقيدة المهدوية في الفکر الشيعي قبل ولادة متکلمي الشيعة - الذين اتهموا باختلاق مفهوم



[ صفحه 8]



الغيبة و الغائب - بأکثر من مائة عام؛ و لهذا جاء البحث محصورا بالغيبة و الغائب عند الامام الصادق عليه السلام وحده، فنقول:

عاش الامام الصادق عليه السلام في عصرين مختلفين: عصر ضعف الدولة الأموية حتي آلت الي السقوط سنة 132 ه علي أيدي العباسيين، و عصر انشغال بني العباس في تثبيت أقدامهم بالسلطة. و معني هذا، أن الدولة الأموية في عهد الامام الصادق عليه السلام - الذي تولي الاممة بعد وفاة أبيه الامام الباقر عليهماالسلام سنة (114 ه) - لم تکن قادرة علي ممارسة نفس دورها الارهابي في الحد من نشاط أهل البيت عليهم السلام کما کانت تمارسه في عهود آبائه عليهم السلام.

کما أن الدولة العباسية لم تعلن ارهابها علي الامام عليه السلام في بداية حکمها کما أعلنته عليه بعد حين و علي الأئمة المعصومين من أولاده عليهم السلام فيما بعد، وصولا الي دورهم البغيض في غيبة آخر الأئمة الامام المهدي عليه السلام.

و من هنا وجد الامام عليه السلام الفرصة النسبية سانحة للانطلاق في أرحب الميادين، و لهذا نجد اسمه الشريف يتردد علي ألسنة المؤرخين و المحدثين و المفسرين و الفلاسفة و المتکلمين أکثر من سائر الأئمة الآخرين عليهم السلام، و لعل خير ما يعبر لنا عن هذه الحقيقة هو الامام الصادق عليه السلام نفسه فيما رواه عنه أوثق تلامذته.

فعن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «کان أبي عليه السلام يفتي في زمن بني أمية أن ما قتل البازي و الصقر فهو حلال، و کان يتقيهم، و أنا لا أتقيهم، و هو حرام ما قتل» [1] .



[ صفحه 9]



و نحو هذا ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أيضا، [2] و نظيره ما رواه زرارة و أبو عمر الأعجمي عن الامام الصادق عليه السلام من المنع عن مسح الخفين في الوضوء تقية و کذلک في النبيذ و متعة الحج. [3] .

فهذه النصوص و أمثالها تصور لنا بوضوح حالة الانفراج السياسي النسبي الذي عاشه الامام الصادق عليه السلام في ظل الدولتين.

و قد کانت وظيفة الامام الصادق عليه السلام صعبة للغاية، اذ شاهد خطورة الموقف الاسلامي، و عاصر تلوث المجتمع المسلم بالمفاهيم الدخيلة الوافدة اليه عن طريق الفلسفات الأجنبية التي تسللت رويدا الي ساحته عبر القنوات الکثيرة التي شقتها حروب العصر الأموي (132-40 ه)، و بدايات العصر العباسي الأول (234-132 ه)، و ما نتج عن هذا و ذاک من نشوء التيارات الفکرية الخطيرة، و انقسام المسلمين الي مذاهب و فرق عديدة، مع بروز حرکة الزندقة و الالحاد بفعل تلک الرواسب الثقافية المسمومة، فضلا عن استشراء حالة الفساد الاداري و الخلقي في عاصمة الخلافة - دمشق أولا، و بغداد ثانيا- و من ثم تصدير الانحراف الي شرائح المجتمع من قصور الخلفاء أنفسهم، و يشهد علي کل هذا ما وصل الينا من أدب البلاطين في ذينک العصرين، و في کتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أمثلة لا حصر لها تصور لنا حالة البذخ



[ صفحه 10]



الاقتصادي، و الترف الفکري، و التحلل الخلقي الذي أصاب الأمة علي أيدي حکامهم و أمرائهم في الدولتين الأموية و العباسية.

فليس أمام الامام الصادق عليه السلام اذن الا اعادة تشکيل وعي الأمة من جديد، و تعبئة أکبر ما يمکن من طاقت أفرادها للنهوض بمهمة التغيير الکبري، و هو ما استطاع عليه السلام أن يحققه في تلک الفترة القصيرة؛ اذ استطاع و بکل جدارة أن يعيد للاسلام قوته و نظارته، بعد أن أرسي قواعد الفکر الصحيح علي أسسه. فوقف کالطود الأشم بوجه تلک العواصف الکثيرة التي أوشکت أن تعصف بکل شي ء من بقايا الحق و أهله، و جاهد جهادا علميا عظيما، حتي تمکن بحکمته و عطائه و علمه و اخلاصه لله عز شأنه و تفانيه في دين جده صلي الله عليه و آله أن يصبغ الساحة الفکرية و الثقافية في عصره - بعد أن تدنت بها القيم و الأخلاق - بمعارف الاسلام العظيم، و مفاهيمه الراقية، و استطاع تحيول تلک المفاهيم الي غذاء روحي يومي، فنقلها من الواقع النظري الي حيز التطبيق الفعلي مبتدأ ذلک برواد مدرسته العظيمة التي کانت تضم ما يزيد علي أربعة آلاف رجل، و کلهم من تلامذته، حتي صاروا مشاعل نور أضاءت لکل ذي عينين من أفراد الأمة ما أظلم عليه.

و هکذا استمرت مدرسة الامام الصادق عليه السلام في أداء رسالتها يغذيها - من بعده - الأئمة من ولده عليهم السلام بفيض من علم النبوة و نور الولاية، و لم يخب ضوؤها بتعاقب الزمان و تجدد الملوان، و يشهد لخلودها و اتساعها أنک واجد في کل عصر قطبا من أقطابها يشار له بالبنان، و تشد اليه الرحال من کل فج عميق.

و ما کان هذا ليتم بسهولة لو لا الجهاد العلمي الحثيث المتواصل الذي بذله الامام الصادق عليه السلام حتي اکتسب الواقع الثقافي الاسلامي بفضل مدرسته



[ صفحه 11]



المبارکة مناعة قوية ضد وباء الانحراف، ذلک الوباء الذي کان ضاربا أطنابه علي مرافق عديدة من الفکر الاسلامي، فضلا عما ترکه من تشويش و تضاد في جزئيات العقيدة، ناهيک عما أصاب (الامامة) من تداعيات خطيرة في المجتمع المسلم، حتي أبيحت وضح النهار لکل جبار عنيد، و صار کل من غلب بحد السيف اماما مفروض الطاعة! هذا في الوقت الذي صح فيه عن رسول الله صلي الله عليه و آله برواية الفريقين أنه قال: «الخلفاء اثنا عشر کلهم من قريش»، [4] وصح أيضا قوله صلي الله عليه و آله: «من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية»، [5] کما تواتر عنه صلي الله عليه و آله حديث الثقلين الذي جعل الکتاب و عترته أهل بيته صنوين متلازمين ما بقيت الدنيا، و عاصمين من الضلالة لکل من تمسک بهما، و انهما لن يفترقا



[ صفحه 12]



حتي يردا علي النبي صلي الله عليه و آله الحوض. [6] .

و هکذا تعين المقصود بالاثني عشر، و اتضح المعني بامام زمان کل جيل من أجيال الأمة بما لا يحتاج معه الي مزيد تأمل أو تفکير.

و في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «سئل أميرالمؤمنين عليه السلام عن معني قول رسول الله صلي الله عليه و آله: (اني تارک فيکم الثقلين: کتاب الله و عترتي) من العترة؟ فقال عليه السلام: أنا، و الحسن، و الحسين، و الأئمة التسعة من ولد الحسين، تاسعهم مهديهم، لا يفارقون کتاب الله عزوجل و لا يفارقهم حتي يردوا علي رسول الله صلي الله عليه و آله حوضه». [7] .

و لو لم يکن الأمر کما قلناه لجعل صلي الله عليه و آله مناط الاعتصام من الضلالة بطاعة من وصل الي السلطة و قاد المسلمين طوعا أو کرها. و أما أن تکون النجاة بالتمسک بالثقلين دون غيرهما بمنطوق الحديث و مفهومه، فالعقل يأبي أن يکون الامام القدوة غير المنجي من الضلالة.

و في هذا البحث مقطع قصير من مقاطع الامامة، بل مفصل خطير من مفاصلها و هو «غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهماالسلام»، و نظرا لاتصال



[ صفحه 13]



هذا الموضوع الحساس اتصالا وثيقا بحياتنا المعاصرة فکرا و سلوکا و عقيدة، ارتأيت أن أبحث هذا الموضوع عند الامام الصادق عليه السلام لنري کيف طرح الامم الصادق عليه السلام موضوع غيبة الامام عليه السلام؟ و اذا کان هناک ما يوضح لنا هوية الامام الغائب المنتظر بلا لبس أو ابهام، فهل وجد مثله في فکر الامام الصادق عليه السلام؟ أو أنه طرح موضوع الغيبة مجردا عن هوية الغائب و ترک علامات استفهام حول اسمه و نسبه الشريف؟

لقد حرص الامام الصادق عليه السلام علي اشاعة مفهوم غيبة الامام المهدي المنتظر عليه السلام، و بث الفکر المهدوي الأصيل في وجدان الأمة التي اختلط عليها الحابل بالنابل، و امتزج عندها الحق بأضغاث الباطل نتيجة لما لحق هذا الفکر من تضاد و تشويش أديا الي ظهور دعاوي المهدوية الباطلة التي حاولت الالتفاف علي الحقيقة المهدوية الناصعة.

و من هنا قام الامام الصادق عليه السلام بتهيئة الأجواء العلمية لفهم الغيبة و معرفة من هو المهدي الذي سيغيب، و ذلک من خلال اتخاذ الخطوات الآتية:

تتمثل الخطوة الأولي بدعم العقيدة المهدوية و ارجاعها الي رسول الله صلي الله عليه و آله الذي أکدها بأقوي ما يمکن حتي تواترت عنه صلي الله عليه و آله، ثم بيان الامام عليه السلام حکم من أنکرها.

و تتمثل الخطوة الثانية بترسيخ القواعد الکاشفة عن هوية الامام المهدي عليه السلام من دون الخوض في تفاصيل الهوية الشريفة.

و انحصرت الخطوة الثالثة من مجال تشخيص هوية الامام الغائب عليه السلام و کيفية الانتفاع به في غيبته.



[ صفحه 14]



و هکذا يسر الامام الصادق عليه السلام السبل الکفيلة لمعرفة الامم الغائب قبل ولادته بعشرات السنين، و هو ما تکفل به الباب الأول من البحث، و ذلک في ثلاثة فصول عالجت الخطوات الثلاث المذکورة علي الترتيب.

و أما عن مفهوم الغيبة فقد احتضنه الامام الصادق عليه السلام و أولاه أهمية خاصة، و هو ما تکفل به الباب الثاني في فصول أربعة.

تناولت: العناية بالغيبة و بيان معطياتها، و تأکيد الامام الصادق عليه السلام علي وقوعها و طولها، و بيان ما مطلوب في زمانها، و أخيرا الکشف عن عللها.

و عقدنا الباب الثالث لنري من خلاله موقف الامام الصادق عليه السلام من دعاوي المهدوية التي أدرکها، و عاصر بعضها، أو التي نشأت باطلا بعده و ذلک في خمسة فصول، رد فيها الامام الصادق عليه السلام علي دعاوي الکيسانية و الأموية و الحسنية و العباسية و الناووسية و الواقفية، مع اعطاء القواعد اللازمة و الضوابط العامة المتقنة لمعرفة قيمة أية دعوي من هذا القبيل ثم جاء الفصل السادس و الأخير ليکشف عن أجوبة الامام الصادق عليه السلام علي الشبهات المثارة حول الموضوع؛ الأمر الذي أدي الي تعرية جميع المزاعم التاريخية التي حاولت الالتفاف علي مفهوم الغيبة، أو هوية الامام الغائب عليه السلام سواء تلک التي ظهرت في زمام الامام الصادق عليه السلام، و قبله، أو التي نشأت بعد حين و تلاشت فجأة حيث اتضح الصبح لذي عينين.

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و صلي الله علي نبينا و سيدنا محمد و آله الهداة الأطهار الميامين.



[ صفحه 17]




پاورقي

[1] فروع الکافي: الکليني 8:208:6 کتاب الصيد، باب صيد الزاة و الصقور، و الفقيه: الصدوق 932:204:3، و التهذيب: الشيخ الطوسي 129:32:9، و الاستبصار: الشيخ الطوسي 265:72:4.

[2] فروع الکافي 1:207:6، من الباب السابق، و التهذيب 130:32:9، و الاستبصار 266:72:4.

[3] فروع الکافي 2:32:3 باب مسح الخفين من کتاب الطهارة، و 2:217:2 باب التقية، و المحاسن: البرقي: 309:259، و الخصال: الصدوق 79:32.

[4] صحيح البخاري 164:4 باب الاستخلاف من کتاب الأحکام، و صحيح مسلم 119:2 باب الناس تبع لقريش من کتاب الامارة أخرجه من تسعة طرق، و مسند أحمد 90:5 و 93 و 97 و 100 و 106 و 107. و اکمال الدين الشيخ الصدوق 16:270:1 و 19:272:1، و الخصال الشيخ الصدوق 469:2 و 475.

[5] أصول الکافي 5:303:1، و 3،2،1:308:1 و 2:378:1، و روضة الکافي 123:29:8، و الامامة و التبصرة من الحيرة الصدوق الأول 69:219 و 70 و 71، و قرب الاسناد الحميري: 1260:351، و بصائر الدرجات الصفار: 259 و 509 و 510، و اکمال الدين 2: 412- 413: 10 و 11 و 12 و 15 باب 39، و رجال الکشي في ترجمة سالم بن أبي حفصة: 235 رقم الترجمة (428).

و نحوه في صحيح البخاري 13:5 باب الفتن، و صحيح مسلم 6: 21- 22: 1849، و مسند أحمد 83:2 و 446:3 و 96:4، و المعجم الکبير الطبراني 10687:350:10، و مسند الطيالسي: 259، و مستدرک الحاکم 77:1، و سنن البيهقي 156:8 و 157.

[6] سيأتي تخريج حديث الثقلين الشريف في الفصل الثاني من الباب الأول في هذا البحث.

[7] رواه الفضل بن شاذان في اثبات الرجعة کما في مختصره: 6:208، عن ابن أبي عمير، عن غياث بن ابراهيم، عن الامام الصادق عليه السلام. و أخرجه الصدوق بسند صحيح، عن ابن أبي عمير، عن غياث، عنه عليه السلام. اکمال الدين 1: 240- 241: 64 باب 22، و عيون أخبار الرضا عليه السلام 55:60:1، و معاني الأخبار: 4:90 باب معني الثقلين و العترة.