بازگشت

حديث الثقلين


مما لا شکّ فيه أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد انتقل إلي الرفيق الاَعلي والسنة لم تدوّن بکل تفاصيلها في عهده، وهو منزّه عن التفريط برسالته المحکوم ببقائها إلي يوم القيامة، ومنزّه أيضاً عن إهمال أُمته مع نهاية رأفته بهم وشفقته عليهم، فکيف يوکلهم إلي القرآن الکريم وحده مع ما فيه من محکم ومتشابه، ومجمل ومفصّل، وناسخ ومنسوخ، فضلاً عمّا في آياته من وجوه ومحامل استخدمت للتدليل علي صحة الآراء المتباينة کما نحسّ ونلمس عند أرباب المذاهب والفرق الاسلامية.

هذا، مع علمه صلي الله عليه وآله وسلم بأنه قد کُذِب عليه في حياته فکيف الحال إذن بعد وفاته، والدليل عليه قوله صلي الله عليه وآله وسلم الذي اتخذ بکتب الدراية مثالاً علي التواتر اللفظي: «من کذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».

فمن غير المعقول إذن أن يدع النبي شريعته مسرحاً لاجتهادات الآخرين من دون أن يحدد لهم مرجعاً يعلم ما في القرآن حق علمه، وتکون السنة معلومة بکل تفاصيلها عنده.

وهذا هو القدر المنسجم مع طبيعة صيانة الرسالة، وحفظها، ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقاً في الحياة.



[ صفحه 75]



ومن هنا تتضح أهمية حديث الثقلين (القرآن والعترة)، وقيمة إرجاع الاَمّة فيه إلي العترة لاَخذ الدين الحق عنهم، کما تتضح أسباب التأکيد عليه في مناسبات مختلفة ونُوَب متفرقة، منها في يوم الغدير، وآخرها في مرضه الاَخير.

فعن زيد بن أسلم، عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: «کأنني قد دُعِيت فأجبت، إني تارک فيکم الثقلين أحدهما أکبر من الآخر: کتاب الله، وعترتي أهل بيتي فانظروا کيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض، إنّ الله مولاي، وأنا ولي کل مؤمن. من کنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه» [1] .

وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: «إنّي تارک فيکم ما ان تمسکتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: کتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض، فانظروا کيف تخلفوني فيهما» [2] ، هذا فضلاً عن تأکيده صلي الله عليه وآله وسلم المستمر علي الاقتداء بعترته أهل بيته، والاهتداء بهديهم، والتحذير من مخالفتهم، وذلک بجعلهم تارة کسفن للنجاة، وأُخري أماناً للاَُمّة، وثالثة کباب حطّة.

وفي الواقع لم يکن الصحابة بحاجة إلي سؤال واستفسار من النبي لتشخيص المراد بأهل البيت، وهم يرونه وقد خرج للمباهلة وليس معه غير أصحاب الکساء وهو يقول: «اللّهم هؤلاء أهلي» وهم من أکبر الناس معرفة بخصائص هذا الکلام، وإدراکاً لما ينطوي عليه من قصر



[ صفحه 76]



واختصاص. وإلا فتسعة أشهر وهي المدّة التي أخبر عنها ابن عباس في وقوف النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي باب فاطمة صباح کل يوم وهو يقرأ: (إنما يريد الله ليذهب عنکم الرجس أهل البيت ويطهرکم تطهيرا) [3] کافية لاَن يعرف الجميع من هم أهل البيت عليهم السلام.

ومع هذا فلا معني لسؤالهم واستفسارهم من النبي صلي الله عليه وآله وسلم عمّن يعصموا الاَُمّة بعده من الضلالة إلي يوم القيامة فيما لو تمسکت بهم مع القرآن.

فحاجة الاَُمّة ـ والصحابة أيضاً ـ ليس أکثر من تشخيص أولهم ليکون المرجع للقيام بمهمته بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم حتي يأخذ دوره في عصمة الاَُمّة من الضلالة، وهو بدوره مسؤول عن تعيين من يليه في هذه المهمة، وهکذا حتي يرد آخر عاصم من الضلالة مع القرآن علي النبي الحوض.

وإذا علمت أن علياً عليه السلام قد تعيّن بنصوص لاتحصي، ومنها في حديث الثقلين نفسه، فليس من الضروري إذن أن يتولّي النبي بنفسه تعيين من يلي أمر الاَُمّة باسمه في کل عصر وجيل، إن لم نقل إنه غير طبيعي لولا أن تقتضيه بعض الاعتبارات.

فالقياس إذن في معرفة إمام کل عصر وجيل: إمّا أن يکون بتعيينهم دفعة واحدة، أو بنص السابق علي إمامة اللاحق وهو المقياس الطبيعي المألوف الذي دأبت عليه الاَنبياء والاَوصياء عليهم السلام، وعرفته البشرية في سياساتها منذ أقدم العصور وإلي يوم الناس هذا.

وإذا ما عدنا إلي واقع أهل البيت عليهم السلام نجد النصّ قد توفر علي إمامتهم بکلا طريقيه، ومن سَبَر الواقع التاريخي لسلوکهم علم يقيناً بأنهم ادعوا لانفسهم الاِمامة في عرض السلطة الزمنية، واتخذوا من أنفسهم کما



[ صفحه 77]



اتخذهم الملايين من أتباعهم أئمة وقادة للمعارضة السلمية للحکم القائم في زمانهم، مع إرشاد کل إمام أتباعه علي من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، وعلي هذا جرت سيرتهم، فکانوا عرضة للمراقبة والسجون والاستشهاد بالسم تارة، وفي سوح الجهاد تارة أُخري وعلي أيدي القائمين بالحکم أنفسهم.

ثم لو فرض أنّ أحدهم لم يعيّن لاَتباعه من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، مع فرض توقف النص عليه، فإنّ معني ذلک بقاء ذلک الاِمام خالداً مع القرآن في کل عصر وجيل؛ لاَنّ دلالة «لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض» علي استمرار وجود إمام من العترة في کل عصر کاستمرار وجود القرآن الکريم ظاهرة واضحة، ولهذا ذهب ابن حجر إلي القول: «وفي أحاديث الحث علي التمسک بأهل البيت إشارة إلي عدم انقطاع متأهل منهم للتمسک به إلي يوم القيامة، کما أنّ الکتاب العزيز کذلک، ولهذا کانوا أمانا لاَهل الاَرض، ويشهد لذلک الخبر:«في کلِّ خَلَفٍ من أُمتي عدول من أهل بيتي» [4] .


پاورقي

[1] مستدرک الحاکم 3: 109.

[2] سنن الترمذي 5: 662 / 3786، وحديث الثقلين قد روي عن أکثر من ثلاثين صحابياً، وبلغ عدد رواته عبر القرون المئات. راجع حديث الثقلين تواتره، فقهه، للسيد علي الحسيني الميلاني: 47 ـ 51. فقد ذکر فيه بعض الرواة وفيه الکفاية.

[3] الاحزاب: 33 / 33. وانظر روايات وقوف النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي باب فاطمة وهو يقرأ الآية في تفسير الطبري: 22 / 6.

[4] الصواعق المحرقة: 149.