اضطراب مدرسة الخلفاء في تفسير الشيعة
والسؤال هنا: من هم هؤلاء الخلفاء؟
قبل ان نختار اجابة محدّدة علي هذا السؤال لابد من طرح الاحتمالات المتصورة في معني هذا کما أخرج هذا الحديث محدّثوا الشيعة أيضاً نذکر منهم الصدوق في کمال الدين 1: 272. و الخصال 2: 469 و 475، و قد تابع طرق الحديث و رواته من الصحابة في إحقاق الحق 13: 1 ـ 50.
الحديث، و مقصود النبي الأعظم (ص) منه. و هنا احتمالان لاثالث لهما و هما:
1 ـ أن يکون مقصود النبي (ص) هو بيان ما سيجري عليه الواقع السياسي للاُمة من بعده، بنحو من التنبؤ و الکشف عن المستقبل، علي غرار تنبؤات کثيرة صدرت منه (ص) في شؤون مختلفة. فيکون مفاد الحديث هو الإخبار عن الواقع المستقبلي للاُمة. و لنطلق علي هذا الاحتمال اسم التفسير المستقبلي.
2 ـ أن يکون مقصوده (ص) اصدار قرار بتعيين اثني عشر إماماً و خليفة من بعده، فيکون مفاده الإنشاء و التنصيب بلحاظ مقتضيات الشريعة، لا الاخبار بلحاظ الواقع المستقبلي. و لنطلق علي هذا الاحتمال اسم التفسير العقائدي.
ومقتضي البحث العلمي أن ننظر في هذين الاحتمالين و نختار ما تؤيده الشواهد و الأدلّة و البراهين العقلية و النقلية، إلاّ أن مدرسة الخلفاء لما آمنت منذ البدء بشرعية نظام الخلافة و رفضت نظرية التعيين، و أقامت تراثها الکلامي والفقهي علي هذا الأساس، وجدت نفسها أمام احتمال واحد لا مفرّ لها عنه وهو الاحتمال الأول، واضطرت الي تأويل کل ما يعارضه، والأخذ بهذه التأويلات مهما کانت تعسفية وبعيدة عن القواعد العقلية والعرفية، باعتبارها أمراً لا بديل عندها عنه.
وکان عليها أن تنظر الي الحديث نظرة علمية متحررة من أي فکرة مُسبقة لتتأکد بنفسها من سقم التفسير المستقبلي للحديث، فإن کان النبي ينظر الي ما سيجري عليه الواقع فما الداعي الي التحديد باثني عشر خليفة مع امتداد المستقبل أکثر من هذا؟ وإن کان النبي ينظر الي الخلافة الصحيحة المطابقة للموازين الشرعية فإن مدرسة الخلفاء لم تقطع ولم تجمع علي شرعية غير الخلفاء الأربعة، ومن هنا اضطربت آراؤها في تحديد اشخاص الخلفاء الاثني عشر.
فالخلفاء الاثنا عشر عند ابن کثير: الخلفاء الأربعة، وعمر بن عبدالعزيز، وبعض بني العباس، واستظهر أنّ المهديّ منهم.
وعند القاضي الدمشقي: الخلفاء الأربعة، معاوية، ويزيد بن معاوية، وعبدالملک بن مروان وأولاده الأربعة (الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام)، وأخيراً عمر بن عبدالعزيز.
وعند ولي الله المحدِّث في قرة العينين ـ کما جاء في عون المعبود: الخلفاء الأربعة، معاوية، وعبدالملک بن مروان، وأولاده الأربعة، وعمر بن عبدالعزيز، ووليد بن يزيد بن عبدالملک، ثمّ نقل عن مالک بن أنس أنّه أدخل عبدالله بن الزبير فيهم. ولکنه رفض قول مالک، مستدلاً بما روي عن عمر وعثمان عن النبي (ص) ما يدل علي أنّ تسلط ابن الزبير کان مصيبة من مصائب هذه الاُمة، ثم ردّ من أدخل يزيد بينهم، مصرحاً بأنّه کان سـيّء السيرة.
وقال ابن قيم الجوزية: «وأمّا الخلفاء: اثنا عشر، فقد قال جماعة منهم أبوحاتم وابن حبّان وغيره: إنّ آخرهم عمر بن عبدالعزيز، فذکروا الخلفاء الأربعة، ثم معاوية، ثمّ يزيد ابنه، ثمّ معاوية بن يزيد، ثمّ مروان بن الحکم، ثم عبدالملک ابنه. ثمّ الوليد بن عبدالملک. ثمّ سليمان بن عبدالملک. ثم عمر بن عبدالعزيز، وکانت وفاته علي رأس المائة، وهو القرن المفضل الذي هو خير القرون، وکان الدين في هذا القرن في غاية العزّة، ثم وقع ما وقع».
وقال النوربشتي: «السبيل في هذا الحديث وما يتعقبه في هذا المعني أنه يحمل علي المقسطين منهم، فإنّهم هم المستحقون لاسم الخليفة علي الحقيقة، ولا يلزم أن يکونوا علي الولاء، وإن قُدّر أنهم علي الولاء فإنّ المراد منه المسمون بها علي المجاز، کذا في المرقاة».
وعند المقريزي: الخلفاء الأربعة، ثمّ الإمام الحسن (ع) قال: «وبه تمّت أيام الخلفاء الراشدين»، ولم يُدخِل أحداً من بني اُمية حيث صرّح بأنَّ الخلافة صارت بعد الإمام الحسن (ع) ملکاً عضوضاً، قال: «أي: فيه عسف وعنف»، کما لم يُدخل أحداً من بني العباس، مصرّحاً أنّ في خلافتهم «افترقت کلمة الإسلام وسقط اسم العرب من الديوان، واُدخل الأتراک في الديوان، واستولت الديلم، ثمّ الأتراک، وصارت لهم دول عظيمة جداً، وانقسمت ممالک الأرض عدة أقسام، وصار بکلّ قطر قائم يأخذ الناس بالعسف، ويملکهم بالقهر».
وهکذا يلاحظ بوضوح اضطراب مدرسة الخلفاء تفسيرها لهذا الحديث، ووقوعها في مطبّات يتعذّر عليها الخروج منها ما دامت تصرّ علي التفسير المستقبلي له.
وقد قال السيوطي في الحاوي: «لم يقع الي الآن وجود اثني عشر اجتمعت الاُمة علي کلّ منهم».
ولو کان التفسير المستقبلي في نفسه صحيح ومقبول لآمن به صحابة النبي (ص) قبل غيرهم، ولظهر آثار ذلک علي لسان الخلفاء أنفسهم، ولقال أولهم: أنا أول الخلفاء الاثني عشر، ولقال الثاني والثالث الي الثاني عشر مثل ذلک، ولکان مثل هذا الادّعاء افتخاراً ومدرکاً يساعد علي اثبات شرعية کل منهم، بينما لم يسجّل التاريخ ادعاءاً لأي من الاسماء المذکورة في سلسلة الخلفاء الاثني عشر الافتراضية بمثل ذلک.
ثم إن الحديث يدل علي أن فترة إمامة الأئمة الاثني عشر تستوعب التاريخ الإسلامي الي نهايته بحيث تموج الأرض بأهلها من بعدهم. فقد روي أهل السنّة عن النبي (ص) أ نّه قال: «لا يزال هذا الدين قائماً الي اثني عشر من قريش، فإذا هلکوا ماجت الأرض بأهلها». ولم تمج الأرض بعد موت عمر بن عبدالعزيز بأهلها، بل کان انتشار علوم الدين کالفقه والحديث والتفسير في القرنين الثالث والرابع الهجريين، حتي بلغت علوم الدين قمتها في الاتساع والشمول بعد موت هؤلاء الخلفاء الاثني عشر عند أهل السنّة، والمفروض أن تموج الأرض بأهلها!
ورووا أيضاً، عن جابر بن سمرة: «لا تزال هذه الاُمة مستقيماً أمرها، ظاهرة علي عدوّها، حتي يمضي منهم اثنا عشر خليفة، کلهم من قريش، ثم يکون المرج».
وإذا کان المراد بالمرج هو القلق، والاضطراب، والالتباس، فيقتضي أن لا يکون شيء منه الي عهد عمر بن عبدالعزيز، ولکن التاريخ لا يعرف فتنة عظم بها القلق، واشتد الاضطراب، وکثر فيها التباس الحق بالباطل من فتنة معاوية وخروجه علي خليفة المسلمين، وهذا يدل علي أن المراد بالمرج هو أعظم من القلق والاضطراب والالتباس، ولعل المراد ترک الدين بالکلّية، وهذا ما لم يحصل إلاّ عند اقتراب الساعة، التي يسبقها ظهور الإمام المهدي (ع)، وما يعقب انتقاله الي الرفيق الأعلي من أحداث.
ثم ما معني إدخال الملوک في عداد الخلفاء، فقد روي أهل السُنّة، عن سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة، ومن رجال الشوري الذين عينهم عمر أنه دخل علي معاوية وقد تخلف عن بيعته، فقال: «السلام عليک أيها الملک، فقال له: فهلا غير ذلک؟ أنتم المؤمنون وأنا أميرکم. قال: نعم، إن کنّا أ مّرناک، وفي لفظ: نحن المؤمنون ولم نؤ مّرک» وقد أنکرت عائشة علي معاوية دعواه الخلافة، کما أنکرها ابن عباس، والإمام الحسن (ع) حتي بعد الصلح، فهو من البغاة بالاتفاق لحديث: «يا عمار تقتلک الفئة الباغية». ولست أدري کيف يصحُّ أن يکون الباغي علي الخليفة الشرعي خليفة لرسول الله (ص) علي المؤمنين!!
وما معني إدخال يزيد الفاجر، المعلن فجوره وانتهاکه لحرمات الله تعالي، وهذا من أعجب العجب حقاً، إذ کيف يصحُّ للمسلم أن يجعل من يسفک دماء أهل بيت رسول الله (ص)، ويغزو جنده المدينة المنورة ويقتلوا عشرة آلاف من أهلها حتي أنه لم يبق بدرياً بعد موقعة الحرّة، خليفة لرسول الله (ص)، وکذلک الحال مع ملوک الشجرة الملعونة بنصّ القرآن الکريم، ولقد رآهم النبيّ في منامه ـ ورؤيا الأنبياء صادقة کفلق الصبح ـ بأنّهم ينزون علي منبره نزو القرود، باتفاق معظم المفسرين من أهل السنّة، وذلک عند تفسيرهم الآية الستين من سورة الإسراء، بما لا حاجة الي تتبع کلماتهم.
وهکذا يظهر بوضوح ثلاث نتائج حاسمة هي:
1 ـ فشل التفسير الإخباري المستقبلي لحديث الخلافة الاثني عشرية.
2 ـ دور العامل السياسي في إلجاء مدرسة الخلفاء إليه.
3 ـ انحصار الحقيقة الشرعية بالتفسير العقائدي الإنشائي القائل بدلالة الحديث المذکور علي نصب اثني عشر إماماً للمسلمين، وهو التفسير الذي قامت عليه أدلة عقلية وقرآنية ونبوية کثيرة جداً نجدها مبسوطة في التراث الإمامي القديم والحديث، في مجالات التفسير والحديث وعلم الکلام والتاريخ.
ويبدو أن التاريخ قد أبي إلاّ أن يبقي الأئمة الاثنا عشر من أهل البيت (ع) مصداقاً وحيداً للحديث المذکور لاينازعون في ذلک حتي علي مستوي الإدّعاء، أولهم أمير المؤمنين (ع) وآخرهم الإمام المهدي بن الحسن العسکري (ع) وفي ذلک ما لا يحصي کثرة من الأحاديث الشريفة الدالة عليه، ولو شئت ذکرها جميعاً من طرق أهل السنّة وحدهم لما وسعها مجلد ضخم، ونشير هنا الي أحدها، وهو ما أخرجه الجويني الشافعي في فرائد السمطين، عن ابن عباس، عن النبي (ص) أ نّه قال: «أنا سيد النبيين، وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم عليّ بن أبي طالب، وآخرهم المهديّ».
ومن هنا احتمل بعض المحققين أن ما ذکرته کتب الحديث من أن جابر بن سمرة حينما خفي عليه بعض کلام النبي (ص) فسأل أباه عما خفي عليه من کلامه (ص) أجابه أبوه بأنه (ص) قال: «کلهم من قريش»، احتمل أن جواب الأب فيه تحريف، ذلک أن الروايات علّلت خفاء الجواب بـ «ثم لغط القوم وتکلموا» و «ضجّ الناس» «فقال کلمة أصمنيها الناس» «فصرخ الناس فلم اسمع ما قال» «فکبّر الناس وضجّوا» «فجعل الناس يقومون ويقعدون». فکل هذه التعليلات لا تتناسب مع العبارة التي لم يسمعها الراوي، لأن جعل الخلافة في قريش أمر يسرّهم ولا يوجب اللغط والضجيج، والمتناسب مع هذه الحالات الموصوفة في الروايات أن تکون الإمامة في جماعة خاصة دون قريش، وهذا ما ذکره القندوزي في ينابيع المودّة حيث ذکر أن العبارة التي قالها النبي (ص) هي «کلهم من بني هاشم».
وحينما يتّضح فشل التفسير الإخباري المستقبلي لحديث الإمامة الاثني عشرية من جهة وحقانية التفسير العقائدي له من جهة ثانية، وثبوت اسم الإمام المهدي (ع) في سلسلة أئمة أهل البيت (ع) وکونه هو الإمام الثاني عشر الذي يصلح الله به الأرض بعدما تمتلئ بالفساد من جهة ثالثة، ولا يبقي مجال للشک في ثبوت المفهوم العقائدي للمهدوية الذي تصرّ عليه مدرسة أهل البيت (ع).
ذلک أن الترابط الصميمي بين مسألة الإمامة الاثني عشرية والمسألة المهدوية، من شأنه أن ينقل الي المسألة المهدوية النتائج الثلاثة الحاسمة التي ظهرت علي بساط البحث. فإن فشل التفسير المستقبلي للإمامة الاثني عشرية يعني بالنتيجة فشل هذا التفسير بالنسبة الي المهدوية أيضاً، کما أن ثبوت المنشأ السياسي لهذا التفسير علي صعيد الإمامة الاثني عشرية يعني بالنتيجة ثبوته بحق المهدوية أيضاً، حيث أن مدرسة الخلفاء کما جعلت حديث الخلافة الاثني عشرية إخبارياً مستقبلياً کتفريع منها علي القول بصحة نظرية السقيفة والخلافة وشرعيتها، کذلک رأت ضرورة الجنوح بالمسألة المهدوية صوب الرؤية المستقبلية فراراً من القول بإمامة أهل البيت (ع) وعدم شرعية نظام الخلافة، کما أن ثبوت حقّانية التفسير العقائدي لحديث الإمامة الاثني عشرية يعني بالنتيجة ثبوت حقّانية المفهوم العقائدي للمسألة المهدوية.